... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
سيدات زحل للطفية الدليمي: سيرة بغداد من الغزو المغولي الى وصول المارينز

عدنان حسين احمد

تاريخ النشر       30/03/2010 06:00 AM


صدرت عن "دار فضاءات للنشر والتوزيع" في عمّان رواية "سيّدات زُحَل" للقاصة والروائية العراقية لطفية الدليمي. ولعلي لا أبالغ إذا قلت بأن هذه الرواية ترتقي الى مستوى الكارثة العراقية التي حلّت بالعراق إثر انهيار الدكتاتوري السابق وسقوط بغداد، ليس بأيدي القوات الأنكلو- أميركية والقطعات الدولية المتحالفة معها حسب، وإنما بأيدي المتشددين والظلاميين والمليشيات الدينية ورجال القاعدة ومجاميع الجريمة المنظّمة والذبّاحين واللصوص والسلابين والمبتّزين وقُطّاع الطرق وما الى ذلك. وليس غريبا على روائية بقامة لطفية الدليمي أن تكون بموازاة الحدث التراجيدي الكبير الذي ألمَّ بالعراق إثر حصار ظالم وثلاثة حروب كونية في فظائعها وتداعياتها المرعبة، فهي كاتبة ملمّة بأدواتها الفنية وتعرف كيف تتلاعب بوحدات نصها السردي من زمان ومكان وحدث وشخصيات تتحرك على وفق اشتراطات الحبكة الفنية التي تتطابق مع الواقع المؤسي تارة، وتفترق عنه لتحلّق في الفضاء الفنتازي الذي تخلقه الروائية تارة أخرى، آخذين بنظر الاعتبار أن الواقع العراقي الذي تتناوله الرواية يمتد من عام 1258 حينما سقطت بغداد على يد هولاكو وجنوده الغازين الذين سلبوا البلاد، ونهبوا ثرواتها، وإغتصبوا نساءها، وأحرقوا مكتباتها، وحولوا مدنها وحواضرها الى أكوام من رماد، ويستمر حتى الوقت الحاضر الذي استبيحت فيه بغداد من جديد وتسيّد فيها قانون الغابة وكأنها وقعت تحت طالع زحل المشؤوم.
ملحمة انسانية
لا شك في أن "سيدات زُحل" هي ملحمة نسائية محورها حياة البابلي التي دوّنت كل شيء، وبطلاتها الأخريات سلسلة طويلة من النساء تبدأ بأمها بهيجة التميمي، وتمرّ براوية وفتنة ومنار وآمال وزينة وسامية وهالة وشروق ولمى وهيلين، وتنتهي ببرسكا برنار وغيرهن من النساء اللواتي يظهرن ويتلاشينَ على متن هذا النص الملحمي الطويل مثل ناهدة وساهرة وسهام، غير أن أمانة التوصيف تقتضي منا أن نسمّي الأشياء بمسمياتها، فدور الرجال ليس مكمّلاً أو ثانوياً على الرغم من هيمنة العنصر النسوي. فحياة يقابلها في المحنة والمأساة طليقها حازم الذي تعرّض لفعل الإخصاء من قبل أزلام النظام السابق، وراوية التي كان رأسها مطلوباً من الذباحين والمتشددين يوازيها حامد الأخرس الذي بَترت السلطة المستبدة لسانه لأنه قرأ حواراً لمكدف مع مالكوم بالعربية، وفتنة التي إختطفها حماية أحد المسؤولين يقف إزاءها الشيخ قيدار الذي ظل الغائب الحاضر على مدار النص. ولا يمكننا أن نغض الطرف عن أشقّاء حياة الثلاثة الذين واجهوا مصائر مفجعة تتوزع بين القتل والاعدام، كما هو حال مهنّد وماجد، والاختفاء، كما هو حال هاني، والاختطاف، كما هو حال سرمد، ابن هاني. وعلى وفق هذه القراءة المحادية يمكننا توصيف هذه الرواية بأنها نص ملحمي انساني يعتمد على سيرة أناس عراقيين قادرين على تحمّل المصائب والويلات، وسيرة مدينة عجيبة مثل بغداد قادرة على تحمّل المحن والكوارث لأن عشاقها ومريديها يخبئونها، في أوقات الشدائد، مثل كنز ثمين في أرواحهم التي تحلّق على جهاتها الأربع.
التباس الهُوية
تتسع الوحدة الزمانية لهذا النص الروائي لتمتد من سقوط بغداد عام 2003، وغياب طاغيتها الذي توارى عن الأنظار مُرتضياً بتداعيات الهزيمة وذل الاستسلام الذي لا يليق بشهامة الرجال، الى سقوط بغداد على يد هولاكو عام 1258 والموت المُذل للمستنصر بالله، الذي لُفَّ حقاً بسجادة، وأوسعه جنود الاحتلال ضرباً، ثم داسته الخيول المغولية حتى فارقت روحهُ جسده. وربما تمتد أبعد من ذلك الى عام 762، وهو العام الذي شيّد فيه المنصور مدينة بغداد. كما تتسع الوحدة المكانية لتمتد من بغداد الى شمال العراق وجنوبه وسوريا ولبنان والأردن ونيقوسيا وتونس وبحر قزوين وتبليسي ولندن وكوبنهاغن وسواها من المدن والحواضر التي وطأتها أقدام الشخصيات الهاربة أو المختفية أو الطالبة لحق اللجوء السياسي والانساني. من خلال هذا التمهيد الزمكاني أردت أن ألفت عناية القارئ الكريم الى أهمية الجملة الاستهلالية التي افتتحت بها لطفية الدليمي نصها الروائي الذي سيرصد ويلتقط عبر مجساته الاستشعارية القوية الواقع المر الذي عاشه العراقيون منذ تأسيس بغداد حتى سقوطها الأخير على يد المارينز والمليشيات والعصابات المسلّحة الملثّمة. تتساءل الساردة أو الضمير المتكلم قائلة:"أأنا حياة البابلي، أم أنني أخرى؟ ومَنْ تكون آسيا كنعان التي أحمل جواز سَفَرها؟".إذاً، ثمة غموض غريب يحيط بهذه الشخصية المركزية التي سوف تتمحور حولها شخصيات الرواية الأخرى. فهي لا تعرف نفسها من هول الصدمات التي تتلقاها كل يوم إثر سقوط بغداد، ولكنها ظلت تميز صوت الرجل الذي ينتشلها من هوّة الحرب التي أخذت شكل سرداب عميق ينطوي على تاريخ أسرة البابلي برمتها. ومن خلال هذا السرداب الذي حماها من ثلاثة حروب تنطلق رواية "سيدات زُحل"، هذا النص الملحمي الذي سينفتح ويتشظى الى شخصيات وأحداث متشابكة، ومثيرة للجدل. واضافة الى غموض الشخصية المركزية التي لا تعرف منْ هي على وجه التحديد نكتشف ومنذ الصفحات الأولى من الفصل الأول شخصيات أخرى لا تقل غموضاً عن سابقتها مثل شخصية ناجي الحجالي، الرجل الذي أحبها بعمق، وكان بمثابة توأمها الروحي الذي يوقد لها شمعة الأمل في الضفة الأخرى من الكون، وشخصية عمها الشيخ قيدار الذي توارى في ظروف غامضة أيضاً، لكنه حمّلها مسؤولية كبيرة وهي اعادة تأسيس الجمعية السرية التي تشتري المخطوطات الثمينة وتخبئها بعيداً عن الغوغاء ومشعلي الحروب، كما أسند اليها مهمة جمع التبرعات من الموسرين لانجاز الأبحاث عن مدينة بغداد وحفظ تراثها. وربما تشترك هذه الشخصيات الثلاث (حياة، ناجي وقيدار) بمهمة واحدة وهي تدوين ذاكرة مدينة مُوشكة على الانهيار والتلاشي. إن المشكلة الرئيسة التي كانت تواجه "حياة" في أثناء كتابة كراساتها خلال سنوات الحصار وحرب الاحتلال هي اختفاء الأسماء. ومع ذلك فقد أصرّت على مواصلة مشروعها التدويني، كما أضافت الى كراساتها الثلاثين الأوراق المبعثرة التي سجلتها (البنات) عند مفوضية اللاجئين في عمّان. وسوف تكون مادة هذه الكراسات والقصص المبعثرة هي الذخيرة الأساسية للمتن السردي لـ "سيدات زُحل" حيث تتناول قصص الحب والفقد والموت والغياب والاختطاف والاغتصاب والاخصاء وقص الألسن وبتر الأعضاء وما الى ذلك من حكايات يشيب لها الولدان.
لا يمكن، بطبيعة الحال، أن نتوقف عند كل التفاصيل الدقيقة التي تؤثث المتن السردي لهذا النص الروائي الشمولي الذي حاولت كاتبته أن تلّم بطريقة فنية مجمل الظواهر الغريبة والشاذة التي برزت على السطح وقلبت الحياة العراقية رأساً على عقب. لذلك أجد من المناسب أن نتوقف عند العلامات الفارقة لهذه الظواهر المشوّهة التي أفرزتها الحرب الكونية الأخيرة على العراق ضمن السياق السردي الذي اتبعته الروائية المبدعة لطفية الدليمي. وقبل الولوج في طبيعة هذه المظاهر، ومحاولة سبر أغوارها، والتعرّف على كنهها وجوهرها الحقيقي لابد من الاشارة الى أن أسلوب الكاتبة لم يهبط الى مستوى التقريرية على الرغم من طول النص وتشعّبه، بل أكثر من ذلك فإنه كان يتسامى ويتوهج حتى يتجاوز حدود اللغة التعبيرية الى الفضاء الصوفي الذي لا يجد حرجاً في إثارة الأسئلة الفلسفية والجمالية.

مقاربات
ينطوي هذا النص الموحي على قصص دالة كثيرة تحتمل المقاربة بين الواقعة التاريخية كما هو الحال في (الكراسة 19 ... هولاكو في باب كلواذي) وبين السقوط المهين لبغداد على يد المارينز، فكلا الخليفتين كانا يكنزان الذهب والفضة، ويحجبان المال عن السواد الأعظم من الناس. وكلاهما لم يكن مستعداً للدفاع عن بغداد، فلا الأول ذهب بجنوده الى (نهر جيحون) ليصد الأعداء والطامعين، ولا الأخير قاتلَ عند أسوار بغداد ( التي توقعَ أن ينتحر عندها الطامعون الجدد) فلا غرابة أن يموتوا موتاً مُذلاً ومَهيناً ويتركوا البلاد نهباً للظلاميين واللصوص وقطّاع الطرق.
يستطيع القارئ أن يتتبع أوجه التشابه الكثيرة بين قصة حب ناجي الراشدي لزبيدة أيام داوود باشا، والي بغداد، وبين قصة حب ناجي الحجالي وحياة البابلي. وإذا كان الراشدي قد غاب في (ليل الطاعون) وتزوج من فتاة تركية وأقام في الإستانة، فإن ناجي الحجالي قد تاه في الركن الآخر من الكرة الأرضية لينجز كتابه الكبير عن بغداد على أمل اللقاء بثنية روحه حياة البابلي التي ضاعت في (ليالي بغداد التي وقعت تحت طالع زُحل). ثمة إمكانية للمقاربة بين الأم بهيجة التي دوّنت ملخصاً لواقعة اعتقالها عام 1968 وبين الوقائع التي كابدتها حياة البابلي خلال السنوات الماضية الى الدرجة التي باتت تشعر فيها حياة بأنها تتماهى مع شخصية أمها بهيجة التي لاقت مختلف أنواع التعذيب قبل أن يُخلى سبيلها.
مسارات النص وشخوصه
يتحرك هذا النص الروائي وفقاً لمسارين، الأول تاريخي شديد الدلالة، والثاني واقعي شديد التعبيرية. ونظرا لسعة النص سنهمل المسار الأول، ونكتفي بالتوقف عند المسار الثاني الذي يدور في الفلك الواقعي التعبيري الموغل في فظاظته وحدته وقساوته.
تجترح لطفية الدليمي لكل شخصية مساراً محدداً يتناسب مع سياق النص السردي الذي لا يمنح القارئ فرصة لالتقاط الأنفاس. وعلى الرغم من التمهيد للدخول الى الحدث الرئيس للرواية، وهو احتلال بغداد، وما رافق هذا الاحتلال من أهوال وأعمال فظيعة تقشعر لها الأبدان، إلا أن الشخصيات الرئيسة والثانوية كانت تترى وتتلاحق، تظهر وتغيب على مدار النص المتوتر. ويبدو أن الجزء الأكبر من الشخصيات هم أناس مثقفون ولهذا أصبحوا هدفاً للسلطة المستبدة، وللمليشيات المعبأة بشهوة الثأر والانتقام، وللمسلحين الملثمين، ولعصابات السرقة والجريمة المنظمة وما الى ذلك من خلايا نائمة لا تستفيق إلا في غياب السلطة وانعدام دولة القانون. الشخصية الأولى التي ستصدم القارئ هي شخصية (حازم)، إذ نعرف على وجه السرعة أنه أستاذ للعلوم السياسية. وانه يعمل سراً مع منظمة "هيومان رايتس" حيث كان يزودها بمعلومات عن انتهاكات حقوق الانسان في العراق خلال تسعينات القرن الماضي. كما أن والدها كان يتعاون مع هذه المنظمة سراً. وذات يوم سافر حازم مع ثلاثة أشخاص آخرين الى تونس لحضور إحدى ندوات هذه المنظمة. وحينما عاد اختطفوه مع زملائه الثلاثة، ووضعوهم جميعاً تحت رحمة طبيب التجميل (والرسام التشكيلي المعروف برسم الغربان التي تلتهم مقل الأعين وأمخاخ الرؤوس) والمعروف أيضاً بقص الألسن التي تشتم الرئيس، وصلم آذان الجنود الهاربين من جبهات القتال. سيقترف هذا الطبيب الرسام جريمة جديدة تضاف الى سجل جرائمة البشعة السابقة. إذ أمر أحد الممرضين أن يخدره موضعياً وأن ينزع ملابسه الداخلية أمام زملائه الثلاثة. وفي لحظة ضبابية خاطفة كان الطبيب الرسام قد إستأصل خصيتي (حازم) وألقى بهما في إناء مملوء بسائل الفورمالين، ثم خاط كيس الصفن وشرع بإخصاء الثلاثة الباقين الذين إسودت الدنيا بأعينهم حينما أيقنوا أنهم فقدوا رجولتهم الى الأبد. هكذا وجد حازم نفسه مضطراً لأنه يطلّق حياة البابلي ولا يجد ضيراً في القول بأنه بات يكره الجنس البشري كله ومن دون استثناء!
مثلما تعرفنا على شخصية (حازم) من خلال (حياة) فإننا سنتعرف على شخصية (حامد الأخرس) من خلال (راوية) التي أحبت نديماً وتعلقّت به، لكنه غدر بها، وتزوج من امرأة بريطانية لها علاقة بتنسيق موضوع المعارضة العراقية مع الجهات البريطانية المختصة. كما أنه لا يريد الزواج من (راوية) بحجة أنها تنتمي الى طيف مذهبي آخر. لذلك لم يبق أمامها في ظل هذه الحرب الكونية التي تلتهم الرجال سوى (حامد الأخرس أبو الطيور). ولحامد هذا قصة غريبة. فهو مدرس لمادة اللغة الإنكليزية في ثانوية الأمين. وفي أثناء قراءته للحوار الذي يدور بين مالكوم ومكدف كان أحد الطلاب يسجل هذا الحوار الذي ترد فيه توصيفات مثل المستبد أو الطاغية التي تحيل مباشرة الى (طاغية بغداد) فلا غرابة أن يتعرض حامد الى (عقوبة قص اللسان) لأنه تطاول على شخص الرئيس. ثمة تنويعات أخرى تلعب عليها الروائية لطفية الدليمي بغية تعميق القصة العاطفية التي تربط بين حامد الذي انقطع الى عالمه الخاص، وراوية التي لا تزال تحلم برجل يتزوجها وأن يهرب بها خارج حدود الوطن الملتهب في الأقل.
لا شك في أن أشقاء حياة البابلي ثلاثتهم (مهنّد، ماجد وهاني) معارضون للسلطة المستبدة وغير مؤمنين بأطارحيها وتوجهاتها الفكرية فلا غرابة أن نجدهم في خاتمة المطاف بين قتيل ومعدوم ومتوارٍ عن الأنظار. فما إن تخرّج مهنّد من كليات اللغات حتى تمَّ استدعاءه لتأدية الخدمة الإلزامية التي لم تَرُق له في ظل سلطة شمولية تنتهك حقوق أبنائها كل يوم ولا تعير شأناً لمبدأ المواطنة. ومع ذلك فقد كان ينفِّذ القوانين العامة التي كانت سارية المفعول آنذاك، إذ أنهى معظم خدمته العسكرية في شمال العراق حيث كانت المعارك الشرسة تستعر هناك مع المسلحين الأكراد عام 1988. لم يبقَ على تسريح مهنّد سوى خمسة عشر يوماً إلا أنه عاد ملفوفاً بعلم عراقي الى أهله وذويه، الأمر الذي ضاعف أحزانهم، وعمّق إحساسهم الدائم بالفقد والضياع. أما خطيبته (هالة) فقد جُنَّ جنونها وأوشكت أن تفقد رُشدها بعد هذه الفاجعة المروّعة. لم تمنحها الحياة في بغداد فرصة لالتقاط الأنفاس فقد اتهمها الليفتنانت الأميركي (جوشوا) بأنها تتعاون مع شبكة إرهابية وأنتهى الأمر الى إغتصابها فقررت مغادرة العراق والخلاص من كوابيسة الفظيعة المتتالية. وما دمنا نتحدث عن هالة فإن شقيقها قد قُتل هو الآخر في معارك النجف إثر الانسحاب غير المنظّم للقوات العراقية من الكويت، الأمر الذي يكشف أن الذهنية الدكتاتورية المستبدة لا تفكر بمصائر الناس البسطاء لأنها سادرة في غيها ومسكونة بهاجس الاحتفاظ بكرسي السلطة اللعين الذي تسنمته بخطة أميركية متقنة. أما (ماجد) فقد أعدِم لأنه رفض المشاركة مع القوات العراقية في إحتلال الكويت، الأمر الذي يكشف عن حجم الانتهاك الكبير لحقوق الانسان في العراق. إن هذه الخروقات والانتهاكات الفظيعة لحقوق الإنسان سوف تتراكم لتشكّل في نهاية المطاف عقدة نفسية خطيرة تكاد تصيب الجزء الأكبر من الشعب العراقي إسمها (عقدة التشفّي) التي سوف تفضي لاحقاً الى إحتلال بغداد بسرعة البرق الخلّب! لنمعن النظر في شخصية الشقيق الثالث (هاني) الذي بقي على قيد الحياة لكنه رأى ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت! تعمد الروائية لطفية الدليمي دائماً الى خلق شخصيات مركبة أو مستديرة تنضوي تحت محمولات فكرية مثيرة للجدل. فبعد مقتل الشقيقين (مهند وماجد) وموت زوجته (زينة) إثر عملية الولادة وما صاحبها من نزف شديد إرتأى (هاني) أن يتنكر بقناع جديد فقد تحول من طبيب الأسنان هاني البابلي الى مهندس الكهرباء علاء عبد المجيد الحسني الذي باع بيته وإشترى بيتاً جديداً في حي (تونس) وفتح محلاً لبيع الأجهزة والمعدات الكهربائية، وعيّن فيه صديقه المصري أشرف. كما أخبر مستشفى الولادة بوفاة ابنه سرمد. لقد تطبّع هاني على لعبة القناع التي أدمنها لمدة ثماني عشرة سنة، لكنه ربى إبنه بالطريقة التي يراها مناسبة، فقد أصبح هذا الفتى اليافع عبقرياً، وأتقن اللغة الإنكليزية، وبات يقرأ كتب عالم الفيزياء المعاق ستيفن هوكينغ. وحاول مثل (ستيفن) أن يفهم الكون بغية السيطرة عليه. فمشكلتنا، كما يعتقد هاني، "أننا نعيش في وسط سكوني، منشغل بماضيه ومقلد وعاجز عن الابتكار". ولأن بغداد واقعة تحت طالع زُحل فإن هذا الفتى النابغ يُختطف، ولم يخلَ سبيله إلا بعد أن دفع والده فدية كبيرة، عندها بدأ يفكر جدياً بالهروب من العراق الى أي في بلد الكون يحمي حياة ابنه ويجنبه عبث الأقدار. ثمة مفهومات كثيرة حاولت الروائية لطفية الدليمي أن تبثها في متن نصها الروائي مثل ثقافة الوئام والتسامح والانسجام بين مكونات الشعب العراقي. فـ "زينة"، زوجه هاني ورثت جمالها الأشقر عن جدها الكركوكلي (أرشد سليم أوغلو) الذي تزوج امرأة حسناء من القفقاس، فيما عَشِق أبوها امرأة آثورية جميلة تُدعى شميران، وبحسب ما ذهب اليه والد (زينة) فإنها أسلمت وغيّرت اسمها الى (سميرة). ثم نكتشف لاحقاً أن أرشد سليم لم يجبر شميران على تغيير ديانتها، وإنما ترك لها حرية العبادة. هذه الاشارة وحدها تكفي للدلالة على أن العراقيين قادرون على التناغم والانسجام بغض النظر عن العِرق والدين والمذهب. كما كشفت شخصيات الرواية سابقاً أن هذا التزاوج والاختلاط يعود الى حقب زمنية موغلة في القدم، غير أن (حاوية التنوّع والاختلاف) قد فجّرها المحتل الذي يتقن الآلية القديمة القائمة على لعبة (فرّق تسُدْ).
لو أمعنّا النظر الى نمط آخر من الشخصيات الروائية مثل شخصية (منار) الطبيبة التي تعرضت للتهديد بالقتل مثل شقيقها الدكتور رافد لأنها متهمة بالتعاون مع العدو وتستلم أدوية من جهة أجنبية وتوزعها على المستشفيات التي تعانى من نقص حاد في الأدوية الأساسية. هنا يبرز نمط آخر من البشر الذين أطلقوا على أنفسهم صفة (المجاهدين) الذين يهددون بقطع أعناق العراقيين الذين يتعاونون مع أية جهة أجنبية، فيما يتركون دبابات المحتل وعجلات الهمر تجوب شوارع بغداد وأزقتها وتطلق النار بشكل عشوائي على الناس الأبرياء لمجرد شكوك بسيطة عابرة. لقد رفضت الدكتورة (منار) الانصياع لأوامر هؤلاء المجاهدين الذين نصّبوا أنفسهم حراساً للنوايا والفضائل وأخذوا يفتشون في عقول الناس وضمائرهم، ولكنها فوجئت ذات مساء بأربعة رجال ملثمين وهم يدهمون منزلها في (شارع الطاووس الأزرق). ثم تناوبوا على إغتصابها، فيما قتلوا أخيها الدكتور (رافد) بحجة أنه ملحد وكافر يؤمن بنظرية دارون التي تقول بأن أصل البشر ينحدر من سلالة القرود، وينفي أن يكون لأبينا آدم صلة بموضوع النسب البشري. كما قتلوا الوالدة وغادروا المنزل بعد أن صلوا وتناولوا وجبة الإفطار التي هيأتها الوالدة قبل أن تلاقي مصيرها المفجع على أيديهم الملطخة بدماء العراقيين الأبرياء. وحينما تعود شقيقتها الدكتورة (آمال) الى المنزل تكتشف أن شقيقتها المغتصبة لا تزال على قيد الحياة فتنقذها في الوقت المناسب. وتقرر السفر الى خارج الحدود بعد ضاقت بها الدنيا في بغداد. وقبل أن تغادر بغداد تكتشف علامات الحمل على أختها (منار) فتقرر إجهاضها على الرغم من أن أختها لا تتحمل أي نزف جديد وهي على هذه الحالة الصحية المتدهورة. لم يكن هذا الاغتصاب هو الحالة الوحيدة التي تناولتها الرواية، فهناك العديد من الشخصيات التي تعرضت لفعل الاغتصاب مثل (ناهدة وساهرة وسهام) والأبشع من ذلك أن بعض الأطفال قد تعرضوا للاغتصاب حينما أُجبروا على ترك ملجأ الأيتام وأصبحوا ضحية لقواد فاجر كان يعطيهم الحبوب المنوّمة ويتركهم تحت رحمة زبائنه الباحثين عن لذة الانحراف الجنسي. قد يستغرب القارئ عن حجم العذابات التي تنوء بها عائلة حياة البابلي التي لم ينجُ أي فرد منها على مدار النص. فحتى الأب عدنان رشيد البابلي تعرض للإذلال والسجن بعد أعدام ابنه ماجد الذي أتهموه بالخيانة والتمرد على قوانين السلطة الاستبدادية. وحينما تدهورت صحته أطلقوا سراحه، لكنه فارق الحياة بسبب الغم والكمد.
إن ما يلفت الانتباه في هذا النص الروائي هو محاولة الكاتبة لأن تجمع أكبر قدر ممكن من الظواهر الجديدة التي برزت الى السطح منذ سقوط بغداد عام 2003 وحتى الوقت الحاضر. كما أنها تشير من طرف غير خفي الى ظواهر بشعة وفظيعة حدثت في ظل النظام الشمولي السابق. فالشعب العراقي بمختلف مكوناته وأطيافه هو الضحية دائماً، وأن معظم السلطات التي توالت على سدة الحكم كانت تمارس دور الجلاد. الأمر الذي دفع هذا (الشعب/الضحية) لأن يتقنع تارة كما هو حال (هاني البابلي)، ويختفي تارة أخرى، كما هو حال (قيدار) وإلا فإن مصيرهم هو الاختطاف كما هو حال (فتنة) زوجة قيدار، أو (بريسكا) الصحفية الفرنسية التي كانت تعمل لمصلحة وكالة فرانس برس وكانت تريد أن تنجز لقاءات مع شخصيات لها أساطيرها الخاصة. ولأن الفظائع والأحداث المرعبة التي رصدتها الكاتبة لا حدود لها فسأكتفي بالاشارة الى حادثة ذبح أربع فتيات يعملن في أحد البنوك، وفصل رؤوسهن عن أجسادهن لا لشيء إلا لأنهن غير محجبات! كما قام المسلحون أنفسهم ببتر أرجل الفتيان الذين يرتدون الشورتات وهم في طريقهم الى المسبح وتركوهم يصرخون في العراء.
النهاية المرتقبة
لا شك في أن ذروة النص تتوزع على مجمل الأحداث التي مرت بها الشخصيات الرئيسة والثانوية. غير أن كاتبة النص ومبدعته لم تكشف لنا عن بعض الأسرار التي خبأتها إنسجاماً مع تقنيات وأصول اللعبة الفنية الروائية. فها نحن نعرف بأن (آسيا كنعان) هي ذاتها (حياة البابلي) وأن مزوِّر الجوازات قد اختار اسم (آسيا كنعان) لأنه لا يدل على دين أو طائفة أو عشيرة خشية عليها من التجاذبات الطائفية التي أودت بحياة العديد من العراقيين الأبرياء. أما الشيخ (قيدار) عم (حياة البابلي) الشخص الحاضر/ الغائب فقد تتبعناه على مدار النص حينما باع بيته القديم في شارع عمر بن عبد العزيز في الأعظمية إثر إختطاف (فتنة)، ثم أسس جمعية سرية تشتري المخطوطات الثمينة وتحفظها في مواقع محمية لا تصلها أيدي الغوغاء ومشعلي الحروب. وحينما اختبأ في بيت شقيقه في (حي الداوودي) ترك كنزا لا يقدر بثمن من الكتب والمصادر والمخطوطات وعهد به الى ابنة أخيه (حياة) لأنها الإنسان الأقرب الى عقليته المتوقدة، وذهنيته المتنورة التي تعرف قيمة الكتاب والمخطوطة والأثر الأدبي. وخلال رحلتها التي يختلط فيها الحلم بالواقع يعهد اليها عجوز ذو ملامح يابانية بأن تحفظ زهرة (أوكيناوا، أو زهرة النجاة) التي سوف تكون صالحة للنمو عند ظهور العلامة مرة أخرى. أما العم (قيدار) الذي رأته في سرداب الرؤى بصحبة صديق عمره الأب جبرائيل فقد جاء تحديداً لكي يأخذ مخطوطات العالم الراحل حسين علي محفوظ وأعمال المؤرخ ألبير أبونا وبعض مخطوطات الصابئة المندائيين. وفي خاتمة المطاف يطلب منها أن ترافقه الى الدير، حيث مستودع المخطوطات الثمينة، وحينما تتذرع بانتظار حبيبها ناجي، المتواري في نيقوسيا، يخبرها العم (قيدار) بأن "ناجي سيعرف الطريق اليها طالما هي مؤمنة به وهو منقطع الى حبها". إن هذه النهاية المفتوحة تترك لقارئ هذا النص الروائي المشاركة في صناعة الحدث مثلما ترك لحياة البابلي حرية البقاء في سرداب الرؤى في (حي الداوودي) أو الذهاب الى الدير الجبلي حيث ينقطع الثلاثة (قيدار وحياة وناجي) لحفظ كنوز بغداد ومخطوطاتها الثمينة.
لم تستطع هذه المقالة، على الرغم من طولها النسبي، أن تغطي المحاور الكثيرة التي تعاطت معها الروائية المبدعة لطفية الدليمي. فثمة شخصيات مهمة لم نستطع الوقوف عندها وتحليل طبيعة علاقتها الشائكة ببعضها البعض مثل علاقة (شروق) بـ (لمى). ويبدو أن انتحار هذه الأخيرة ليس بسبب سقوط بغداد، وإنما بسبب هجران شروق لها، فلا غرابة أن تشعر بالمرارة واليأس والخذلان. كما تستحق علاقة محمود بهيلين أن نسلط عليها بعض الضوء الذي يتناسب في نشر ثقافة الاندماج بين أطياف الشعب العراقي على الرغم من الحواجز الدينية القائمة التي تستطيع شريحة المثقفين العراقيين فقط أن تستوعبها وتتجاوزها أكثر من بقية الشرائح الاجتماعية الأدنى تعليماً وثقافة. ركزت لطفية الدليمي على حرق مكتبة الفراهيدي لتشير الى طبيعة الجرائم المنظمة في حرق العديد من المكتبات ودور المخطوطات العراقية. وقد لعب حارس المكتبة دور (حاميها حراميها!) فبحسب شكوك حامد الأخرس فإن الحارس هو الذي أضرم النار في المكتبة، وهو الذي أطلق النار على حياة البابلي وأصابها في ذراعها وتركها عرضه لذلك المسلّح الملتحي (النيكروفيلي) الذي ظنها جثة (طازجة) فحاول اغتصابها، لكنها استفاقت وأخذت تخمش وجهه وتدافع عن شرفها مثل لبؤة جريحة حتى جاء حامد الأخرس وأنقذها من هذا الموقف المحرج.
لقد نجحت رواية (سيدات زُحل) في أن تكون بمستوى الكوارث التي حلّت بالعراق منذ تأسيس بغداد، مروراً بسلسلة الاحتلالات التي تعرضت لها العاصمة، وانتهاءً بسقوطها المروّع الذي جسدّته لطفية الدليمي في عملٍ روائيٍ شديد البراعة والاتقان.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  عدنان حسين احمد


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni