... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  في السياسة

   
الباحثون عن امة والباحثون عن وظيفة

فالح عبد الجبار

تاريخ النشر       14/04/2010 06:00 AM


لا اتذكر القائل ان "السياسة عقيم لا تلد". الواقع ان هذه "العقيم" كانت، على مدار القرون، ثكلى. يذبح الملوك في اسرتهم، ويقتتل الاخوة على التاج، وينحر الرؤوساء بعضهم نحرا بحمية فائقة.
ابتكر العثمانيون حلا بديعا لحقن الدماء: السلطان المنتصر يحبس اخوته في قلاع، ويغرقهم بالطعام والشراب والغلمان والجواري حتى يسمنوا سمنة مفرطة لا تتيح لهم الخروج من الباب الضيق الذي دخلوه فتيانا يافعين، رشيقين.
من اين لنا ان نأتي بقلعة ضيقة الباب، وكيف لنا ان نزج السياسيين العجاف حتى تعمل كروشهم المدلوقة مقام مانع طبيعي يقطع اشتهاء العودة لكرسي الحكم.
حال السياسيين العراقيين اليوم يذكرنا بذلك كله. فشهوة البقاء في الكرسي اقوى مظاهر الورع والايمان في القصور الحكومية. لكن حال السياسة العراقية خلاف ذلك. ففي السنوات السبع المنصرمات لم يمكث رئيس او رئيس وزراء او وزير طويلا. والباحثون عن لاصق متين يخرجهم من هذه القاعدة يثيرون بعضا من شفقة الامة والكثير من ازدرائها.
فالعراقيون اصحاب مزاج. والعسل المغشوش، المداف في الكلام، سرعان ما يغدو حامضا. من هنا سقوط اكثر من 260 نائبا من البرلمان السابق، بعمائم ام بدونها. ومن هنا ايضا انفكاك الكتل الكبرى.
كان بناة الديمقراطية الاوائل يرون في حكم الاغلبية القاعدة الاولى للنظام الجديد. لكن الجيل الثاني راح يفتش عن سبل كسر استبداد الاغلبيات. ووجد مفكر كبير (جيمس ماديسون) ان تفتت هذه الاخيرة الى كتل صغرى، هو الضمانة الوحيدة. ثم جاء جيل ثالث من بناة الديمقراطية ليرى الى مشكلة انفصال النائب عن الناخب، انفصال ارادة التنفيذ عن محتوى الرغائب، فعمد الى تقصير مدة النيابة الى ادنى حد معقول، لمعاقبة الفالت من اسر التعهدات.
كثرة من السياسيين العراقيين، حكام العراق اليوم، تجهل الفباء التاريخ الديمقراطي هذه، اما الجموع فتقترب كل يوم من معاني هذا الادراك.
باختصار الامة تنضج قبل قادتها. ثمة يقظة فوارة، ما تزال في مبتداها.
يعتقد المراقبون ان ثمة اربع كتل فائزة: الكرد، العراقية، دولة القانون، الائتلاف الوطني. هذا ظاهر محض. فالكرد ثلاث كتل، والائتلاف ثلاث كتل، والعراقية اكثر من كتلة.
لم يعد لـ "كتلة سنية" صوانية او "كتلة شيعية" صوانية من وجود. وهذه خطوة كبرى يخطوها العراق للتصالح مع نفسه. لكن السياسيين ما يزالون على مبعدة سنوات ضوئية من هذا الادراك. والمراقب العادي يراه جليا في هذا التهالك على الحج الى طهران، بامل الانفراد او التفرد، الذي لم يعد مباحا بفضل مكر الارقام.
هوس الالتصاق بالكراسي اخرج بعض العقول "الحكيمة" عن رصانتها، وفقدت بريقها السابق كشخصيات وسطية، متوازنة، اقرب الى المدنية. يبدو ان غواية الجاه والذهب الرنان اقوى من قيم الاعتدال والوسطية.
امام العراقيين مشكلة كبرى هي اعادة بناء الامة، التصالح مع النفس ومع الماضي، وهذا التصالح لا يمر بمسالك الثأر الوعرة، بل بدروب القانون المعبدة. ولا يتحقق ذلك بثقافة "الفائز ياخذ كل شيء"، بل بثقافة الشراكة المرنة.
استبدال الثأر الاعمى بالقضاء البصير يتطلب اجتثاث هيئة الاجتثاث (المسماة زورا هيئة المساءلة والعدالة) وابعاد شبح محكمة التفتيش هذه، واناطة اعمالها بهيئة قضائية متجردة.
واستبدال خيلاء الساعي للفوز المنفرد بكل شيء بتواضع الارقام التي تملي الحاجة الى التعدد بالحسابات البدائية، المجردة. ثمة صيغتان: العراقية + الاكراد + الصدر او دولة القانون + الاكراد + الصدر. مفتاح كل صيغة من هاتين بيد الاكراد، وبيد الصدريين. وبينما يبدي الصدريون حصانة جلية في الدعوة لمشاركة سائر الكتل الفائزة (الكتل الاربع الكبرى)، يبدي بعض الساسة الاكراد انحيازا جليا للصيغة الثانية، دون كثير اعتبار لمقتضيات التوازن المطلوب في هذه المرحلة الانتقالية العسيرة.
ثمة صيغة ثالثة ضيقة او واسعة، هي : العراقية + دولة القانون + الاكراد، او، كما يقترح الصدريون: العراقية + دولة القانون + الاكراد + الائتلاف الوطني.
لعل هذا هو المخرج الاكثر توازنا، وان تكن ولادته عسيرة، بحاجة الى اكثر من "قابلة مأذونة" كي يرى النور. لكننا بازاء قابلة ايرانية غير مأذونة تريد استيلاد الانقسام القديم، والعودة بنا الى عام 2005، عام شؤم الحرب الاهلية.
ما تزال مؤسسات الدولة هشة، وهي لن تحتمل اوزار التوترات المعلنة، والخفية. وما يزال العراق مفتقرا الى وجود مؤسسات استراتيجية كثيرة، مثل مجلس الاتحاد، وما تزال الطبقة السياسية الجديدة تحمل الكثير من قيم الماضي، ريبة العمل السري، وفردية القرار، وازدراء المؤسسات ، وضعف احترام القانون، وخيلاء ونرجسية السلاطين، والخلط بين المال العام وحافظة النقود الشخصية.
اما المجتمع الاهلي فباتت قطاعات واسعة منه تحسب بالمثقال كل نأمة وحركة وقرار، ولم يعد خداعها ممكنا الا على اضيق صورة. ولعل في هزيمة اسماء كبيرة في هذا الاقتراع تذكرة لمن في ذاكرته عطب.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  فالح عبد الجبار


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni