... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  في السياسة

   
أزمة الضمير المهني لدى الفرد العراقي

د. فارس كمال نظمي

تاريخ النشر       27/05/2010 06:00 AM


أين يكمن الجذر التكويني للفساد الحالي الذي ينهش الجسم الاجتماعي للعراقيين؟
أهو نتاج مباشر لتصدع بنيان الدولة بعد العام 2003م، وتهرؤ أدواتها الرادعة، وافتقادها لهوية موحدة تتيح لها تحقيق الضبط الاجتماعي؟! أم هو إفراز "منطقي" لبنية السلطة الجديدة التي نشأت على نحو مستعجل ومصطنع، فظلت مسكونةً بفوبيا "الوقتية" أو "الزوال"، ما دفع أغلب رجالاتها لانتهاج أنساق سلوكية طفيلية، تضمن لهم جني أكبر منافع ذاتية ممكنة في أقصر شوط زمني متاح، على حساب كل ما هو قانوني وعُرفي وأخلاقي وإنساني؟! أم إن الفساد في إطاره المفاهيمي الأوسع، نتج عن تماهي المجتمع المصدوم بالسلطة المصطنعة تلك، إذ يعدّ التماهي أحد الميكانزمات النفسية التي تلجأ إليها المجتمعات المأزومة والمُحبَطة والفاقدة لفاعلية الفعل الجمعي بسبب "الإخصاء" التأريخي الذي مورس بحقها، ابتداءً (في حالة العراق) من الدكتاتورية السابقة وانتهاءً بالعنف السياسي الحالي (الاحتلال والإرهاب والطائفية) الذي استهدف إلغاء الفاعلية السياسية الإيجابية للفرد العراقي، إذ أصبح سلوكه الانتخابي الميكانيكي الموجَه بـ"ريموت" الطائفية السياسية، بديلاً "دستورياً" عن مشاركته الواعية في صنع الحدث السياسي الذي يحقق مصالحه الواضحة في الرفاهية والسلم الاجتماعي؟!
لعل الإجابات السابقة جميعاً تتضامن للتعامل مع سؤالنا عن جذر الفساد، إلا أن توغلاً أعمق في التربة النفسية التي يزهر فيها هذا الفساد، قد يحقق رؤية تحليلية إضافية، ولذلك سأستبدلُ مصطلح "الفساد" ذا البعدين السياسي والاجتماعي، بمصطلح أكثر إجرائية وملموسية من الناحيتين المفاهيمية والقياسية، هو "أزمة الضمير المهني".
فبنظرة فاحصة لما يحدث اليوم في العراق، نجد أن الفساد (بأنواعه: المالي والإداري والسياسي) ما هو في جوهره إلا تآكل في الضمير المهني، سواء على مستوى الفرد العادي، أو لدى فئات الموظفين أو التكنوقراط أو رجال الأمن أو السياسيين عامة؛ مع التوكيد أن الفرد العراقي ظل محافظاً على مهارة مهنية ملحوظة في كافة الاختصاصات رغم تآكل ضميره المهني. ويتحدد هذا التآكل في عدة مظاهر سلوكية اجتماعية سائدة:
1 - انهيار القيمة الوظيفية والاعتبارية لمفهوم "الوقت": إذ تستشري ظاهرة "المماطلة" متمثلة بالتأجيل اللاعقلاني لأداء المهمات، وانتـفاء مفهوم "الموعد" في أغلب التعاملات العامة. فالموظف والطالب أصبحا مدمنين على ستراتيجية "تأجيل عمل اليوم إلى غد وبعد غد". وبات أرباب الحِرَف (كالأعمال الإنشائية، وصناعة الأثاث، والطباعة وخدمات الحاسوب، وخدمات الصيانة بأنواعها،....) يعانون من عُصاب التأجيل القهري لمواعيد إنجاز مهماتهم حيال الزبائن. أما السياسيون فينخرطون حالياً في عملية هدر غرائبية لوقت المجتمع الذي انتخبهم، عبر مفاوضات ماراثونية ستفضي بعد شهور إلى اتفاقات كان يمكن التوصل إليها منذ البداية، إذ يجترون التصريحات والأفكار والهواجس ذاتها على نحو رغبي وقهري لا ينقطع!
2 - أمسى سلوك الخداع ركناً أساسياً في الأداء الإداري والمهني. فالغش في الامتحانات صار سلوكاً مألوفاً ومبرراً لدى أغلب الطلبة. وغزت البضائع الرديئة الأسواقَ، فأصبح معيار الجودة هو أي البضائع أقل رداءة من غيرها! وبات مقاول البناء يستعين بالمواد الإنشائية غير القياسية، دون أن يعني ذلك خرقاً للأمانة المهنية، إذ يقطع في كل مرة تعاملاته الخداعية هذه مهرولاً لأداء الصلاة في أوقاتها! وغدت الرشوة في دوائر الدولة "إكرامية" أو "مكافأة" أو "هدية" أو حتى "استحقاقاً". فتشيأت الحياة اليومية العراقية خارج البيوت، وانحسر الجوهر الإنساني لعلاقاتها بعد أن ارتدت طابعاً سلعياً متيناً. أما الخداع السياسي فصار "فن الممكن" و"مهارة لفظية" و"أداءً واقعياً" لأن المبادئ صارت تعني "التحجر" وسط عملية سياسية تقتضي "المرونة" و"الانفتاح" وحتى الانقلاب إلى النقيض عند الضرورة، ما دامت (أي تلك العملية) تعاني من مشاعر العزلة والذنب والانقطاع الوظيفي عن حركة المجتمع الذي لم تنبثق عنه.
3 - إن النتيجة الحتمية لما تقدم هي تدهور الثـقة الاجتماعية المتبادلة بين العراقيين على صعد التعاملات الرسمية والمهنية المشار إليها. ففقدت فكرة "الوعد" جدواها وجماليتها في معظم نواحي السلوك الاجتماعي المتعلق بتلك التعاملات، بل حدث اقتران شرطي وثيق بين لفظة "الوعد" وسلوك "الكذب" إلى الحد الذي صارت فيه أغلب المهن تثير لدى الناس مشاعر الريبة والتهكم، لا سيما تلك التي تتصل بالجانب الأخلاقي العام مباشرة، كمهنة رجل السياسة ورجل الأمن ورجل الدين!
إن هذه المظاهر الثلاثة لأزمة الضمير المهني يمكن عزوها مباشرة إلى انتشار "الأنوميا" Anomie (أو اللامعيارية) في الحياة العراقية، أي حالة الفوضى المجتمعية التي انتزعت من الناس ثقتهم بوجود معايير مؤكدة أو سلم قيمي راسخ يمكن الركون إليه لفرز الخطأ من الصواب.
فمعيار "النزاهة" مثلاً بات لا يوفر لصاحبه الهيبة أو الاكتفاء المالي على نحو مؤكد، بل بالعكس ان فساد الذمة صار ممراً لتحقيق تلك المكاسب، لا سيما عند موظفي الدولة الكبار. غير أن هذه الأنوميا ليست جديدة على المجتمع العراقي، إذ بدأت مع عسكرة الحياة في بدايات ثمانينيات القرن الماضي، لكنها اتخذت أبعاداً أكثر مأساوية بعد الاحتلال الأميركي وما رافقه من استيراد بيوض "الإرهاب" وحقنها في الرحم العراقي من جهة، ومن نشوء الطبقة السياسية الجديدة المصطنعة من جهة أخرى. ومن المفارقات، إن هذه الأنوميا اتسعت مع اشتداد النزعة الدينية للسلطة على عكس الفكرة النمطية القائلة ان الحكم الديني يوفر مناخاً أكثر ملاءمة لاستقرار المعايير والقيم والأخلاق. ولا تعزى هذه المفارقة إلى الدين بحد ذاته، بل إلى مساعي أحزاب الإسلام السياسي إلى خنق النزعة العلمانية العميقة للمجتمع العراقي، الأمر الذي خلق صراعاً نفسياً حاداً في الشخصية العراقية بين حاجاتها الداخلية الأصيلة للتحرر وحب الحياة والتسامح الاجتماعي وقبول الآخر، وبين حاجات مصطنعة مفروضة عليها من الخارج تمثلت بتطييف الدين قسراً وإلباسه بزة الميليشيات الرثة، على يد رموز اقترن فيها الوقار العمائمي المظهري بالفساد السياسي الجوهري.
إن هذه اللامعيارية ذهبت إلى حد إكساب الشخصية الاجتماعية العراقية عدداً من الخصائص الدفاعية السلبية في إطار سلوكها المهني، مثل الجشع، واللاأبالية، واللاجدية، والنظرة العدمية، والسلوكيات المرتجلة بعيداً عن التخطيط، وازدراء قيمة الوقت، والتكاسل، والاعتداء اليومي على هوية المدينة وجماليتها، والتنكيل العبثي بالملكية العامة، واللجوء إلى خداع الآخرين وسيلةً إلى تحقيق المنافع ما دامت النزاهة "لا تؤتي" ثمارها.
وإذا كانت الأنوميا المجتمعية التي نشأت في مرحلة سلطة البعث السابقة قد جرى "احتواؤها" بواسطة الاستبداد الذي مارسته أجهزة الدولة الأمنية آنذاك تجاه الفرد، فإن الحقبة الحالية صارت تتسم بتراجع الضمير المهني بشقيه الداخلي والخارجي معاً، إذ تغلغلت الأنوميا عميقاً إلى الداخل، فيما ظلت الدولة المدنية العاقلة المنشودة ليست أكثر من يوتوبيا خارجية يحجبها دخان السيارات الملغمة، وظل الفرد العراقي سابحاً في ثقب اجتماعي أسود لا يُعرَف له زمن!
ومع ذلك، فإن المجتمع العراقي أبدى مقاومة مستمرة للأنوميا السياسية المفروضة عليه منذ أربعين عاماً، فلم يتفتت طائفياً ولا عِرقياً رغم التصدعات الجدية التي حدثت، ولم ينبهر بنرجسية القيادة التي "لا تخطئ" أبداً، واستيقظ بسرعة من أسطورة "المنقذ الأميركي" ومن غيبوبة المد الديني المسيّس، وظل محافظاً على فكرتي "الوطنية" و"العلمانية" بحدود فاعلة في هويته الاجتماعية. ولذلك، فهو مرشح من الناحية النفسية لتطورات إيجابية في تفكيره الاجتماعي، لاستعادة ضميره المهني على نحو تدريجي يتزامن مع أفول نجم النخب السياسية الحالية. وهو أفول، تؤكد كل المؤشرات الملموسة، أنه قد بدأ بالفعل!


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  د. فارس كمال نظمي


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni