... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  في السياسة

   
الفساد الأكاديمي في الجامعة العراقية

د. فارس كمال نظمي

تاريخ النشر       18/06/2010 06:00 AM


الفساد بأعراضه الإدارية والمالية والسياسية، انعكاس مباشر لتجلطات شريانية تصيب قلب الدولة، فتصبح عاجزة عن الايفاء بمتطلبات العقد الاجتماعي المبرم مع مواطنيها، فتنقلب الفيزياء الاجتماعية إلى فوضى لاقوانينية تُتاح فيها كل المحظورات، فيما تصبح معايير النزاهة محضَ استثناءات هامشية مغتربة عن الطابع اللاآدمي للحياة اليومية.
أما حين يصبح الفساد أكاديمياً، فذلك عرَض مؤكد لاختلال عقل الدولة، وتعطل ذخيرتها التنموية والمعرفية. فيلحق الحاضر بالماضي، وتبطل فكرة المستقبل في نظر الأجيال الجديدة، وتنفرط الصلة الموضوعية التحديثية بين المؤسسة التعليمية والمجتمع، ويغدو الأداء الوظيفي للدولة مرهوناً بمزاج السلطة اللاعقلانية فحسب، إذ يتعطل التقدم الاجتماعي القائم على إدماج البنية العلمية في البنية السلوكية المجتمعية، وينتعش التفكير الأساطيري بكافة أنماطه، وتصبح الأوهام المعقدة بديلاً عن الوقائع البسيطة، والمنطق التعصبي الفظ بديلاً عن المنطق العلمي المتسامح؛ ويكف المجتمع عن محاولة إيجاد حلول واقعية لأزماته العميقة، ويظل فاغراً فاه منتظراً لـ"معجزات".

مظاهر الفساد الأكاديمي في العراق
تعود بدايات الفساد الأكاديمي الحالي في الجامعات العراقية إلى أواخر سبعينات القرن الماضي، حين جرى إحلال العقل الحزبي العسكريتاري بدل العقل العلمي القائم على البرهان في إدارة شؤون البلاد. فسادَ الاغتراب النفسي والثقافي لدى الأساتذة والطلبة على حد سواء، إذ صار كلاهما يعلم أن المادة العلمية التي يتم تداولها في قاعات المحاضرات ستظل حبراً على ورق ولا يمكن ضخّها في شرايين الحياة الاجتماعية إلا بحدود ضيقة أو ربما معدومة.
ثم تعمقت جذور ذلك الفساد بعد التغيير السياسي في العام 2003م، وأصبحت تتخذ مظاهر شديدة الوضوح، وتحديداً في الكليات الاجتماعية والإنسانية، مستثناة منها جامعات إقليم كوردستان، مع التوكيد أن تلك المظاهر تمتد أبعد من العراق لتشمل بلداناً عربية ونامية كثيرة، يمكن إجمالها بالآتي:
1- يلقي الأكاديمي العراقي محاضرته بأسلوب التلقين المباشر، معتمداً على مناهج دراسية لم تجر عليها تطويرات جوهرية منذ عقود، فلا خروج على النص، إذ كل شيء مكتوب سلفاً في أوراق متقادمة معدة لهذا الغرض منذ سنوات، وما على الطلبة إلا استنساخها ثم حفظها واستظهارها لأغراض اجتياز الامتحان. ولذلك يعتادون منذ الصف الأول في الجامعة على تجنب النقاشات أثناء المحاضرة، إلى حد إنكار أفكارهم أو تساؤلاتهم الذاتية، والانصياع لسلطة التلقين بوصفها الممر المؤكد إلى "النجاح". فتتوقف المحاضرة عن كونها ورشة لإنتاج الثقافة والمعرفة، وتتحول إلى وسيلة قسرية لحشر عقول الطلبة في قوالب فكرية نمطية لا تستهدف أكثر من اجتياز الامتحان بوصفه الهدف الأكاديمي "المقدس"؛ علماً إن اسئلة الامتحانات لا تعدو كونها عبارات استفهامية عائمة ومملة، يعاد تكرارها على مدار الشهور والسنين، لقياس مدى "أمانة" التلقين اللفظي الذي تلقاه الطلبة بعيداً عن أي تحليل أو محاججة أو محاولة الإتيان بفكرة جديدة !
2- تفتقر القاعات الدراسية إلى أبسط مواصفات الجودة العلمية والإنشائية التي يتطلبها التعليم العصري، كالمساحة الكافية والتدفئة والتبريد والنظافة ووسائل الإيضاح والحواسيب والأثاث الدراسي المناسب. ويستطيع الزائر لبعض كليات مجمع باب المعظم ببغداد مثلاً أن يرى بعينيه القاعات الرثة والأثاث المحطم المخصص للمحاضرين، وكيف يضطر عدد مهم من حملة الدكتوراه أو لقب الأستاذية (بروفيسور) إلى الانتظار لسنوات للحصول على مكتب لائق للكتابة أو حافظة لأوراقهم أو كتبهم، في وقت يحصل فيه أصغر الموظفين الإداريين في كليته على غرف مجهزة بكل المستلزمات المكتبية ووحدات التبريد والتدفئة، فيما تنفق ملايين الدنانير لبناء نافورات أو لتغليف واجهات الكليات بالحجر المستورد أو لإعادة صبغ جدرانها دورياً.
3- تفرض الجامعة العراقية على الأكاديمي المشتغل فيها أن يقدم أبحاثاً لأغراض الترقية لا صلة لها تقريباً بالموضوع الذي درسه في أطروحته الجامعية (الماجستير أو الدكتوراه)، أي يتوجب عليه أن ينقطع عن اهتماماته البحثية الأساسية ويظل متخبطاً في موضوعات مشتتة لكي لا يُتهم بأنه استل جزءاً من أطروحته الجامعية وقدمه على إنه بحث ترقية! وهذا معناه هدر لطاقته ووقته، فضلاً عن كونه استلاباً لحريته في تحديد نوع الموضوعات التي يرغب بدراستها. ففي كل جامعات الدنيا سوى العراق، تعدّ الأطروحة الجامعية المحطة الفكرية التأسيسية التي ينطلق منها الأكاديمي فيما بعد لإجراء بحوث لاحقة غايتها تثبيت أركان تخصصه وزيادة تعمقه فيه، وصولاً إلى درجة التنظير والإبداع.
4- إن جميع الأطروحات الجامعية وبحوث الترقية وتلك المشتركة في مؤتمرات الجامعة، لا تجد لها راعي أو ضامن أو ممول أو مستثمر أو حتى قاريء لدى مؤسسات الدولة الأخرى. فكل ما أنتجه العقل الأكاديمي العراقي منذ عقود وحتى اليوم، أصبح مثواه الأخير الرفوف الرثة التي يعبث فيها الغبار والقوارض. ولذلك اتخذت أغلب هذه البحوث طابعاً شكلياً صرفاً سواء في موضوعاتها أو آليات كتابتها، فصار الهدف هو اصطناع بحوث سطحية اجتزائية، تفتقد القدرة على معالجة هموم المجتمع ومعضلاته، وتفتقر إلى القيمة والغاية والوظيفة الاجتماعية، وليس لها هدف سوى إرضاء الإدارة البيروقراطية نيلاً للترقية الوظيفية المرتجاة بوصفها مدخلاً إلى الوجاهة الاجتماعية، وليس تتويجاً لإنجاز معرفي مميز.
5- تدهورَ مستوى الدراسات العليا، بسبب تردي معايير القبول التي سمحت لأقل الطلبة درجةً وكفايةً بالتسلق المسلكي البيروقراطي لسلم التراتب العلمي. وترافق ذلك مع نزوع أغلبية التدريسيين في الدراسات العليا إلى التساهل في منح درجات النجاح تجنباً لأذى محتمل قد يصيبهم من جراء السلوك الانتقامي لبعض الطلبة، في ضوء الانفلات الأمني، وضعف الهيبة الجامعية، وغلبة الولاء الحزبي–الطائفي على الولاء المدني للدولة. كما غاب تماماً التدريسي الذي يجرؤ على رفض أي رسالة أو أطروحة جامعية مهما بلغت أخطاؤها أو ركتها.
6- وبالنتيجة، تفوقت القوى الطاردة على القوى الجاذبة، إذ ترك آلاف من خيرة الأكاديميين مناصبهم في السنوات الأخيرة لاسيما في العامين 2006 و 2007م، وفضلوا الهجرة إلى دول الجوار العربي للعمل هناك، أو الاحتماء بنظم الحماية الاجتماعية في أوربا، إلى جانب إحالة أعداد مهمة من ألمع النخب الأكاديمية على التقاعد لبلوغهم "السن القانونية"؛ فيما فُتحت الأبواب على مصارعها لملء هذا الفراغ بتعيين خريجي الدراسات العليا المحليين وفقاً لمبدأ المحاصصة المشؤوم في الغالب، فصار عمداء الكليات ورؤساء الأقسام مرغمين في أحيان كثيرة على قبول تعيين تدريسيين يعانون من أمية أكاديمية وثقافية مؤسية أو من اختلال بارز في شخصياتهم التربوية وضبطهم الانفعالي، لا لسبب إلا لأنهم جلبوا تزكيات من حزب طائفي سلطوي أو مكتب ديني ميليشياوي، وهي جميعاً جهات لا ينظم نشاطها أي قانون لحد الآن، لكنهم أعطوا أنفسهم الحق أن يأمروا المؤسسة الأكاديمية أو يقترحوا عليها خيارات إلزامية تقع خارج اختصاصهم تماماً، وكأن الجامعة والدولة والوطن أمسوا جميعاً غنيمة شخصية لمن يستعجل نهبها وتوزيعها على شركائه في الغزوة. كما يخضع توزيع البعثات والزمالات والإيفادات إلى المبدأ ذاته في الغالب، بل إن بعثات معينة خُصصت باسماء عدد من كبار الزعامات السياسية الحاكمة، ممن يوزعونها بأنفسهم على من يشاؤون حسب معيار الولاء الحزبي والطائفي والعِرقي.
7- أما عن أداء الطلبة، فقد أصبح اعتمادهم كبيراً على مكاتب للخدمات الطباعية متخصصة بتزويدهم بكل أنواع النصوص العلمية الجاهزة التي يشترونها بمبالغ تتراوح بين نصف دولار إلى دولارين للصفحة الواحدة، ابتداءاً من التقارير العلمية البسيطة والترجمات وانتهاءاً ببحوث التخرج. وقد صار مألوفاً لمن يزور مكاتب الطباعة والاستنساخ المجاورة لمجمع كليات باب المعظم ببغداد مثلاً، أن يطالع إعلانات ملصقة على زجاجها، من قبيل: ((لدينا كل أنواع البحوث))، أو ((هنا سحب بحوث التخرج من الانترنيت))؛ بل وصل الأمر إلى قيامهم بكتابة رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه مقابل مبالغ تصل إلى بضعة آلاف من الدولارات، لاسيما في الاختصاصات الاجتماعية والإنسانية. كما تقدم هذه المكاتب خدمات علنية ومقننة للطلبة تتضمن استنساخ كافة محاضراتهم بحجم مصغّر جداً على هيأة قصاصات لأغراض الغش الامتحاني الذي أصبح ظاهرة بحد ذاته. فأمست هذه المكاتب بديلاً "مريحاً" عن المكتبة والتفكير، فيما تغض الإدارة الجامعية النظر عنها في الغالب، وكأنها أصبحت شراً لا بد منه أو سياقاً لا بديل عنه لاستمرار "العملية التعليمية" ما دام الطلبة "عاجزين" معرفياً عن كتابة البحوث بأنفسهم، علماً أن هذه المكاتب يفترض أن تخضع للمساءلة القانونية الجزائية عبر دعاوى تقيمها الجامعة ضدها.
8- وبالمحصلة، أمسى النشاط الأكاديمي الحالي في العراق عاجزاً عن إنتاج الثقافة والمعرفة على نحو منظم ومستقر وراسخ، بل هو منتج لأبحاث لا تقدم في غالبيتها معالجة حقيقية لمشكلات المجتمع، سواء على مستوى التحليل والتفسير أو على مستوى الإصلاح والتغيير. كذلك هو منتج لخريجيبن أقل ما يقال عنهم إنهم لا يجيدون التفكير النقدي ولا الاعتراض ولا طرح الاحتمالات المغايرة، بما يجعلهم مغتربين عن اختصاصاتهم وكارهين لها حد نسيان ما تعلموه بعد أيام من تخرجهم.

أسباب الفساد الأكاديمي
ما الأسباب التي أفقدت الأكاديمي العراقي هويته الثقافية المرجوة، وجردته من صفة المثقف العضوي أو المصلح، أي المثقف المتصل مباشرة بنبض المجتمع وهمومه وتطلعاته؟
مارست سلطة البعث السابقة احتواءاً ايديولوجياً مبرمجاً لأغلب مؤسسات الدولة والمجتمع، وعلى رأسها الجامعة. فالإدارة الحزبية الشمولية للجامعة، على مدى أكثر من ثلاثة عقود، تركت بصمة نفسية عميقة في شخصية الأكاديمي يصعب التخلص منها في المدى القريب، يمكن تلخيصها بطغيان الهوية الإدارية الوظيفية لديه على الهوية الثقافية الفكرية، وتراجعَ دوره التنويري الإصلاحي للمجتمع لصالح تنامي دوره البيروقراطي التلقيني المحدد بجدران الصف الدراسي. وأدى كل ذلك حتماً إلى اكتسابه مفهوماً مشوهاً عن ذاته وعن دوره الاجتماعي، إذ صار يعتقد (شعورياً أو لا شعورياً) أن معارفه ليست أكثر من مفاهيم نظرية تجريدية لفظية افتراضية، مكانها الكتب المنسية داخل المكتبات الجامعية المهملة، ولا مكان واقعي لها في صميم الحياة الاجتماعية. فأصيب بما يُطلق عليه في علم النفس بـ"العجز المتعلّم"  Learned Helplessnessنتيجة سنوات مريرة من التهميش والتخويف.
ثم انهارت السلطة الشمولية عقب أحداث العام 2003م، وانتقلت السلطة في الجامعة من الإدارة الحزبية السابقة المرتبطة بالحكومة الاوتوقراطية الحديدية وأجهزتها الأمنية، إلى نفوذ فوضوي تديره الأحزاب الدينية القابضة على الحكم، وروابطها الطلابية ومليشياتها التي أخترقت أجهزة الدولة كافة. فأصبح الأكاديمي العراقي موزعاً بين انكفائين: "العجز المتعلّم" الموروث نفسياً من الحقبة السابقة والذي لم يجر تفتيته بسبب استمرار عوامل التغريب والتهميش والأنوميا (اللامعيارية) في عموم المجتمع؛ و"الرعب المتعلّم" الذي اكتسبه للتو نتيجة عمليات الاغتيال والخطف والإساءة الجسدية والاعتبارية التي ما برح يتعرض لها الأكاديميون لأسباب فكرية أو طائفية صريحة أو لأسباب شخصية انتقامية غير معلنة. يضاف إلى ذلك النشاطات السياسية- الدينية داخل الحرم الجامعي، التي أصبحت وسيلة جديدة لتغريب الأكاديمي وانتهاك استقلاليته وابتزازه فكرياً باستخدام مسميات وممارسات "قداسوية" الطابع.
إن إشكالية العلاقة بين الأكاديمي والسلطة، ما تزال تمثل الإطار السوسيوثـقافي المتين الذي يمكن أن تعزى له كل عوامل التخلف والتدهور والفساد الأكاديمي المستشري في الجامعة العراقية اليوم. فلا يجوز اختزال هذه الإشكالية إلى عوامل تجزيئية ذرية مثالية تتعلق بإلقاء اللوم على الأكاديمي نفسه، بل ينبغي التركيز على البنية الكلية الشاملة للسلطة السياسية التي ما برحت تتماهى بالدولة إلى حد ابتلاعها ومحو هويتها.
فمن دون إصلاح ليبرالي حقيقي في فلسفة السلطة وبنيتها ونمط علاقتها بالدولة (وهو إصلاح يتطلب كفاحاً تخوضه كافة الفئات الاجتماعية المتضررة)، سيبقى الأكاديمي حلقة رخوة في البناء الثقافي للمجتمع، وسيبقى مرشحاً دوماً للنسيان والتجاوز من فئات أخرى مثقفة قد تؤدي أدواراً في غاية الفاعلية والإبداع لدفع الحراك الاجتماعي الإيجابي نحو الأمام، أي لقيام دولة المواطنة ومجتمع الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
إن القيم الأكاديمية داخل أسوار الجامعة في أي بلد، تستمد طاقتها من قيم التحضر (إنْ وجدت) في ثنايا المجتمع ونزعاته النفسية الأساسية وأهدافه الاجتماعية الكبرى, وقد أفلحت الجامعة العراقية في إغناء المجتمع ثقافياً، كما اغتنت من تحضره وحيويته، طوال حقبتها الذهبية منذ أربعينات القرن الماضي حتى ثمانيناته، إذ نجحت في تخريج أجيال من النخب الأكاديمية والفكرية النزيهة التي ما يزال بعضها يقاوم ويحقق تأثيراً تنويرياً مؤكداً وسط المناخ الجامعي المظلم. فكما إن لا نصر نهائياً أبداً، فلا هزيمة نهائية أبداً. وستبقى المواجهة قائمة ضمن النطاق الأكاديمي كما هي قائمة في نطاق المجتمع والدولة والسلطة، بين قيم النزاهة والتنوير والحداثة والعقل، وقيم الجشع والتطرف والتخلف والخرافة!


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  د. فارس كمال نظمي


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni