... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  قصة قصيرة

   
أحزان نصف كائن

عبد الكريم العبيدي

تاريخ النشر       21/06/2010 06:00 AM


أكره جهاز "الموبايل"، وتربكني نغمة مكالماته. أشعر أنهما متطفلان تصر شقيقتي على إزعاجي بهما. وإذا أضفت لهما نغمة الرسائل التي كثيرا ما أفزعتني، فسيمسيان ثلاثة دخلاء يقاسموني هذه العتمة يوميا.
ولكن ما يقلقني أكثر هو انهيار التحالف الهش مع كفي المشلولة التي بدأت تميل إلى الزحف باتجاه ذلك الجهاز كلما علا رنينه، وإذا ما تأكد لي أنها تعمل لحساب نزوة سمجة، فسأفترض دون شك أنها أول جزء خائن في هذا الجسد المثقوب بتسع رصاصات يعلن عن انشقاقه ويتحالف مع الدخلاء الثلاثة.
أنا لا أبرىء نفسي مما آل إليه ذلك الجسد المشلول ـ أراني أقول ذلك الجسد ـ ولكنني أجريت الكثير من التمارين البدائية ليلا ونهارا. وكان حلمي هو أن يغفر لي خطيئتي. وأن تستعيد أجزاء منه بعض حيويتها.
غير أنه خذلني بالفعل. وأصر على التمسك بمشهد مشلول لاغاضتي، رغم أنني تواضعت كثيرا وسمحت لأختي بغسله وتدليكه والكشف عن عورته بحضور الدخلاء الثلاثة.
عموما، أنا لا أظن أنه بدأ يتنكر لهذا الجميل. ويزعم أن إساءتي له لا تجبها معجزة. ولكن، وهذا ما أنا واثق منه أنه شرع منذ حين بقرض الحبل السري لتلك الصحبة القديمة ـ أراني أصفها بالقديمة ـ ليذكرني دائما بفاجعة اغتياله الأليمة في ظهيرة تلك الثلاثاء اللعينة.
من الواضح أن هذا المكر، إن صح سيوتر علاقتنا كثيرا. وسيحيل بقية صحبتنا إلى جحيم. وقد يتطلب مني الأمر، بحسب هذه الظنون أن أحطم جهاز الموبايل، وأسكت نغمتيه اللتين تحاولان العبث بعزلتي وتأليب بقايا هذه الجثة.
يبدو أن هذا ليس صعبا على مشلول مثلي نجح، على مدى أكثر من عام ونصف في تشييد أثقل شرنقة للعزلة. وأبدى مهارة بارعة في النزوح إلى أبعد نقطة في ذلك الانغلاق المحكم والكتمان الشديد، حتى أن الأقارب والجيران والأصدقاء ظنوا أنني قد مت فعلا، وأن آخر من شاهدني منهم سيتذكر، حتى لو لجأ إلى الكذب أنه زارني قبل أكثر من عام ونصف!.
إنني مضطر، على ما يبدو إلى تحطيم ذلك الجهاز اللعين.. مجبر على تبني صحبة واهية مع هذه الجثة التي بدأت "تلعب بكفها"، وتعيق انغماري في كوابيسي الليلية.
لقد مضت ليال ثقال لم أعثر فيها على كابوس واحد ينيخ لي العثور على جثة جديدة مجهولة الهوية. وربما شعرت أختي بذلك. ولاحظت حيرتي وتجهم وجهي أثناء تضميدها اليومي للدمامل والقروح، وتقليب الجثة والكشف عن عورتي.
كما أنني لا أعرف، حتى الآن سر تأفف شقيقتي ونواحها. ولماذا كانت تخفي نصف وجهها الأسفل وينتابها سعال حاد!؟.. هل شعرت بخيانة الكف وانشقاق الجسد؟. لاشك أنها روت لزوجها شيئا عن هذه الفضائح. ولكن لماذا تبدو غير آبهة بانقطاعي عن رواية كوابيس جديدة؟.. أذكر، في آخر حوار صباحي معها ـ أجل، حصل ذلك قبل أسبوع أو أكثر، زففت لها بشرى حصول كابوس جديد، عثرت فيه على جثة أخرى لاحت لي من بين قبور مبعثرة في مقبرة وادي السلام، لا، لا، محمد السكران، لا أذكر.
كانت الجثة، كمثيلاتها مليئة بالثقوب وشبه متعفنة. ولكنها زعمت، لأول مرة بأنها على دراية تامة بأسرار الريبورتاج التي استخلصتها من محاورة الجثث في كوابيسي الليلية. بل أنها كشفت عن حوارات عديدة كنت قد أجريتها مع جثث أخرى منذ أكثر من عام ونصف. وحين سألتها بذهول عن كيفية معرفة أسرار هذا الريبورتاج أشارت إلى تسع ثقوب منتشرة فيها. ثم تساءلت ببرود: أيظن أني أنسى!؟.. "آه، كم كانت " ثلاثاء" قاسية علينا!؟ ـ كنت وحدك أيها المغفل. تلهث في الشوارع والأزقة وداخل سيارات الأجرة، خلف آراء مذعورة لأساتذة اختصاصيين لا شأن لهم بموضوعة التلوث.. أنت مهووس بذلك التلوث. مهووس بجريك الحثيث لفضح هذه الجريمة. ولكنك كنت على عتبات الهلاك من دون أن تدري. كنت تجري باتجاهي، في تلك الظهيرة التي شهدت اغتيالي ـ اعترضتك سيارة سوداء من نوع أوبل. ونزل منها مسلح ملثم ـ ثم سحبني مثل خروف صغير ورماني على الأرض ـ لم تدم محاكمتك طويلا. تأكد "المسلح" من هويتك. ثم "كبر ثلاثا" على إيقاع توسلاتك الذليلة ـ وسرعان ما أمطرني بوابل من الرصاص.. تسع رصاصات أصابت الكتف وأسفل الظهر والرقبة والذراعين والقدمين ـ ثم حملنا غرباء لا نعرفهم ـ لم أكن بحاجة الى مشرحة الطب ألعدلي، ولا إلى هذه المقبرة ـ ولكنك أفقت من غيبوبتك أيها البائس. ووجدت نفسك مدفونا في ردهة الإسعاف الفوري. ومن حولك يئن المئات من الجرحى."
شقيقتي الرعناء بدت مستاءة من سماع هذا الكابوس. وسرعان ما انهارت كعادتها. وأجهشت بالبكاء. وراحت تنوح وتلطم على وجهها، كما كانت تفعل منذ أكثر من عام ونصف بحضور "الغرباء" الثلاثة!.
هل صدقت شقيقتي بأقوال تلك الجثة الماكرة؟.. أنا لا أنكر أن كل جثث كوابيسي المجهولة تروي قصصا متشابهة. وأنها لا تعدو كونها ضحايا مألوفة تتحدث عن صور اغتيالاتها. حتى أنني بدأت أشعر أن هذا الريبورتاج بات بحاجة إلى آراء أخرى لجثث مجهولة لم أعثر عليها بعد في كوابيسي الليلية.
ولكن ما يدهشني الآن هو تأفف أختي واختناقها، ونوبة سعالها الحاد، وذلك الاستياء الذي ما زالت تبديه في كل زياراتها من سماع قصة كابوس جديدة، وكأنني ما زلت أسمعها وقائع اغتيال أول جثة حاورتها في كابوس قديم قبل أكثر من عام ونصف بحضور "الشهود" الثلاثة.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  عبد الكريم العبيدي


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni