... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  في السياسة

   
ما تبقى : بغداد ليست بغداد! 1 - 3

معد فياض

تاريخ النشر       06/07/2010 06:00 AM


 ماذا بقي في بغداد، من بغداد؟ وماذا تبقى من معالمها الحضارية، أبنيتها، مساجدها وكنائسها، شوارعها، حدائقها، مقاهيها، أسواقها، مكتباتها، جامعاتها القديمة والحديثة، نهرها، أنصابها الفنية، روحها، بهجتها وألقها، أغانيها وموسيقاها، مسارحها، ألوانها، دور السينما فيها، أزقتها العتيقة، بل الأكثر من هذا ناسها.
لا شيء تبقى من بغداد في بغداد اليوم، فهي ليست بغداد الأمس، وهي ليست بغداد البغداديين، هي ليست بغدادكم أو بغدادنا، أو بغداد كما عرفها أي زائر لها في السابق.. إنها وببساطة بغداد التي هي ليست ببغداد، ليست المدينة التي كان يتبغدد فيها المقيم والزائر منذ أن بنيت.. وحتى خربت. «الشرق الأوسط» استغرقت لأكثر من شهر في سطح المدينة وعمقها، حولها وفوقها، فوق أرصفتها وعلى حافات نهرها، وبين ناسها وفي أسواقها، بحثا عن روح بغداد الألقة، فلم نجد سوى بقايا مدينة تتخرب كل ساعة ويوم أمام أهلها. وبرصد شهود عيان: بعضهم يبكي من أجلها، وبعض آخر يمعن في خرابها، وبعض ثالث لا يهمه ما يراه من مشاهدها الحزينة. هنا اكتشاف جديد لبغداد.. التي لم تعد بغداد. بغداد التي خرجت من بوابات الحروب والدمار متألقة دوما، إلا في هذه المرة، فقد خرجت ولم تعد حتى اليوم.
بغداد خربة.. خربة.. خربة بالثلاث، وقرار خرابها لا رجعة فيه، قرار «اتخذ مع سبق الإصرار والترصد من قبل كل من يتمتع بعقدة نقص من هذه المدينة التي كانت عامرة حتى ما قبل الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003»، هكذا يرى المهندس المعماري سعيد الطائي، الذي اتهم الأميركيين «بضلوعهم في تنفيذ قرار إحالة العاصمة العراقية إلى خراب، وهذا القرار لقي ترحيبا من غالبية الحكام الجدد الذين أوغلوا في تدمير معالم هذه المدينة التي كانت تحمل ملامح جمالية بعمارتها وحدائقها وأسواقها».
لا شيء بغداديا في بغداد، إذ لم تتبق أي علامات تميز عاصمة أبو جعفر المنصور الذي اجتثه الطائفيون ذات يوم من أيام شتاء عام 2005 وفجروا تمثاله بعبوة ناسفة بتهمة طائفية بحتة.
ويرى الطائي، الذي يستند إلى نظرية العالم الاجتماعي البغدادي علي الوردي التي تتعلق بترييف المدينة، ترييف بغداد، أن «من غزا هذه المدينة الكبيرة العامرة من الريفيين هم من عملوا على تخريبها جماليا واجتماعيا، فعقدة هؤلاء الذين كانوا يتعاملون من باب الحسد مع سكان الأحياء الراقية والمتحضرة، مثل المنصور والحارثية والقادسية واليرموك في جانب الكرخ، والأعظمية والجادرية وزيونة وشارع فلسطين، يدفعون اليوم الأموال الطائلة لشراء فيلات وقصور وبيوت هذه الأحياء لطمس معالمها الحضارية وإشاعة ثقافة الريف بين سكان هذه الأحياء»، لافتا إلى أن «القوة التدميرية أو التخريبية عادة تنتصر على قوة الإبداع والبناء في زمن اللا استقرار وغياب القيم الاجتماعية والقانون الذي يحكم الناس، لهذا نرى مثلا انتشار الأحياء العشوائية التي تلقب شعبيا بالحواسم، بين جميع أحياء بغداد وحتى في مراكزها التجارية، حتى أنه يصعب علينا اليوم أن نؤشر على أي منطقة أو حي باعتباره حيا راقيا أو مركزا متطورا».
بغداد ستغدو بعد فترة ليست قصيرة بلا بغداديين، بلا أهلها الأصليين، وبلا مبدعين حقيقيين، بلا محبين لشوارعها وأزقتها وأسواقها ومقاهيها ونهرها الذي تحول إلى «ساقية» ضيقة بفعل ندرة مياه دجلة من جانب، ودفن جانبيه بالتراب والرمل من قبل وزارة الموارد المائية التي تعمل على كراء منتصفه فقط، من جانب آخر، ويعلق الطائي قائلا: «حتى إن غالبية أعضاء مجلس محافظة بغداد هم ليسوا من بغداد أصلا»، معبرا عن استغرابه «وجود ثلاث جهات تحكم وتتحكم في بغداد، وهي أمانة العاصمة وأمينها، محافظة بغداد ومحافظها، وأخيرا مجلس محافظة بغداد ورئيس المجلس، يضاف إليهم الأحزاب والتكتلات السياسية التي تتخذ من بغداد مقرا لها وساحة لعملياتها، وعلى ذلك فنحن لا نعرف من يحكم بغداد ومن يصدر الأوامر ومن يعمل لبنائها».
ويؤكد الطائي الذي رافقته «الشرق الأوسط» في جولة بين بعض أحياء المدينة وشوارعها المعروفة، بواسطة السيارة تارة، ومشيا تارة أخرى، أنه «على مدى سبع سنوات لم يبن في بغداد أي معلم معماري أو حضاري»، منبها إلى أن «الأمر لم يقتصر على عدم البناء فقط، بل تجاوز ذلك إلى تخريب ما كان مبنيا وقائما أصلا، فالشوارع خربة ولا تصلح لأن تسير عليها أي مركبات، العمارات التي كانت تعطي لبغداد هويتها المعمارية شوّهت وهدمت من دون أن تمتد إليها يد التعمير، مثلا، عمارة اتحاد الصناعات في ساحة الخلاني، وبناية مركز الاتصالات في شارع الرشيد للمعماري المعروف رفعت الجادرجي، حيث تعدان من العلامات المعمارية المميزة لبغداد، فالأولى تآكلت واجهاتها وتغيرت جماليتها، والثانية مهدمة منذ أن قصفت بعض أجزائها عام 1991 من قبل القوات الأميركية، وبناية وزارة التخطيط التي تعد واحدة من أجمل الأبنية عراقيا وعربيا تحولت إلى خرابة، بعد أن أهملت تماما، أما بناية المجلس الوطني التي بنيت في العهد الملكي لتكون مقرا للبرلمان العراقي والتي تقع بمحاذاة دجلة في حي كرادة مريم، فقد كانت متألقة حتى 2003 إذ كان يستخدمها الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين كمكتب له، ومنذ الاحتلال الأميركي تحول جزء منها إلى مقر لوزارة الدفاع، وقد عاث الخراب داخلها بفعل الإضافات والتهديم لتتناسب مع الاستخدامات الجديدة. بينما أهملت واحدة من أجمل مباني بغداد القديمة، وهي وزارة الدفاع السابقة التي تسترخي على نهر دجلة من جهة الرصافة والتي يرتبط بأحد جدرانها بقايا سور بغداد العباسي القديم.. وهذا الكلام ينطبق على جميع أبنية بغداد».
ولم تبن الحكومة العراقية المنتهية ولايتها سوى دار ضيافة لمجلس الوزراء في المنطقة الخضراء، وهي بناية اعتيادية لا تحمل أي جماليات معمارية على الإطلاق، تم الانتهاء من إنشائها قبل أقل من شهرين لغرض استقبال ضيوف رئيس الوزراء. وتكاليف البناية أصلا هدية من الإدارة الأميركية.
المعالم الفنية في بغداد هي أكثر معالم العاصمة العراقية تضررا، فالأنصاب الفنية التي أبدعتها عقول فنانين كبار ومعروفين عالميا أخذت نصيبها من التدمير والتخريب المتعمد، وكان نصب «المسيرة» للنحات الراحل خالد الرحال، الذي كان يقف مثل سفينة تبحر إلى الأمام في منطقة علاوي، الحلة، قبالة المتحف الوطني العراقي، تم تهديمه واقتلاع مفرداته النحتية النحاسية بواسطة الشفلات والبلدوزرات التي هاجمته مثل وحوش ضارية.
وكانت حكومة إبراهيم الجعفري قد أمرت بتهديم هذا النصب الجميل بعد أن اتهموه بأنه نصب بعثي ويجب اجتثاثه، بينما يعبر النصب عن قصة الخليقة كما ترويها الأساطير العراقية القديمة، وبقي مكان النصب الذي يتضمن نافورة ضخمة تنحدر منها المياه كما في الحدائق المعلقة، خاليا اليوم ومشوها، وبالتالي عكس تشويهه قبحا على وجه المدينة وبدا مثل ندبة في جسدها.
وترك نصب «الجندي المجهول»، وهو أيضا من أعمال الرحال، حيث يقع في المنطقة الخضراء عرضة للإهمال بعد أن كان واحدا من أجمل الأنصاب الفنية، إذ يمثل ترسا عربيا يوشك على السقوط لحماية جسد الجندي المجهول.
أما نصب «الشهيد» في جانب الكرخ للنحات الراحل إسماعيل فتاح، الذي نال جوائز عالمية رفيعة كونه عملا فنيا مهما من جهة، ولإبداع الفنان في استغلال الفضاء، تماما مثلما فعل المعمار الإسلامي الذي صمم وشيد المئذنة الملوية في سامراء.
نصب «الشهيد» عبارة عن قبة فيروزية منشقة بفعل الشهادة، وتجري وسط شطري القبة مياه نبع يطلع من قبر الشهيد. هذا النصب الذي يبدو متحركا كلما درنا حوله كان قد أنشئ من زجاج وخزف يدوي خاص، أما هيكله فقد بني من أسلاك كاربونية هي ذاتها التي تصنع منها المركبات الفضائية لكي تقاوم عوامل ارتفاع وانخفاض درجات الحرارة. وحسب المقاييس والدراسات العلمية، فإن هذا النصب يجب أن يعمر لأكثر من ألفي عام، لكن قنابل الهاون أوجدت له ثقبا في قمة القبة، والإهمال المتعمد من قبل الحكومة جعل منه أثرا وعلامة من علامات خراب بغداد.
تهمة هذه الأنصاب أنها بعثية ويجب اجتثاثها وإلغاء وجودها من خارطة بغداد الحضارية، تماما مثلما حدث مع نصب «اللقاء» للدكتور علاء بشير في حي اليرموك بجانب الكرخ من بغداد، وهو نصب رمزي من المعدن والمرمر ويرمز إلى المصافحة والمصالحة والمحبة واللقاء.. وحسب بشير فإن «النموذج المصغر لهذا النصب عرض ضمن معرض فني لي في باريس، وقد طلبت بلدية باريس تنفيذه كنصب في إحدى ساحات العاصمة الفرنسية، لكن صدام حسين أصر على تنفيذه في بغداد، وهذا ما كان»، ويستطرد بشير قائلا: «لهذا اعتبروه نصبا بعثيا مع أن لا دلالة سياسية فيه». وبسبب هذه التهمة تم تهديم هذا النصب الجميل الذي يعد واحدا من علامات بغداد الحضارية.
لقد ضخت الإدارة الأميركية أمولا ضخمة لأغراض البناء وإصلاح البنية التحتية، لكن أي شيء لم يتحقق، وعلى ذمة أحد موظفي لجنة العقود في السفارة الأميركية ببغداد، فإن هناك «أكثر من 400 مليار دولار تم ضخها إلى الحكومة العراقية حتى 2008، وقد تصل المبالغ التي سلمت للعراق حتى اليوم 600 مليار دولار»، الرقم يبدو عاليا، عاليا جدا ومن الصعب تصديقه، لكن الموظف الأميركي الذي التقيته في المبنى الجديد للسفارة الأميركية ببغداد، أكد ذلك بينما كان زميله يومئ برأسه موافقا ومؤيدا ما يقوله زميله. أين يمكن أن تذهب مبالغ طائلة مثل هذه؟ يجيب الموظف الأميركي بسهولة: «سرقت.. هذه المبالغ كان يجب أن تخصص لأغراض البناء والتعمير وتحسين أوضاع العراقيين، لكنها سرقت، ولا تستغرب ذلك، فموظف بسيط في رئاسة الوزراء تبلغ أرصدته في البنوك الخارجية ملايين الدولارات». وعندما نسأل عن سبب تسليم هذه المبالغ إلى جهات فاسدة إداريا وماليا، يجيب الموظف الأميركي: «لمن نسلمها، إلى الحكومة العراقية طبعا، فإذا كانت الحكومة غير حريصة على بناء البلد ولا تشعر بمعانات الناس فما هو ذنب الولايات المتحدة، مع أن لا سلطة لنا على ملاحقة الحكومة العراقية قضائيا».
ويستذكر هذا الموظف حادثة وزارة المالية، يقول: «عندما كان هناك فريق من البريطانيين يؤسسون لبرنامج يحارب الفساد والسرقة في وزارة المالية تم اختطاف الفريق من قبل من أطلقوا على أنفسهم عصائب أهل الحق، وقتل عدد من أفراده، وكان هذا إنذارا لمن يفكر في تكرار تجربة الفريق البريطاني، غير هذا نجد أن وزارات المالية والنفط والبنك المركزي ومصرف (الرافدين) ومصارف أخرى تتعرض للتفجير وحرق بعض أقسامها بين فترة وأخرى للتخلص من وثائق تتعلق بسرقة الأموال من جهة وطمس حقائق مهمة من جهة ثانية

بغداد تشرب الماء من قنان مستوردة من الخليج.. والكهرباء فيها أصبحت تجارة

ماذا بقي في بغداد، من بغداد؟ وماذا تبقى من معالمها الحضارية، أبنيتها، مساجدها وكنائسها، شوارعها، حدائها، مقاهيها، أسواقها، مكتباتها، جامعاتها القديمة والحديثة، نهرها، نصبها الفنية، روحها، بهجتها وألقها، أغانيها وموسيقاها، مسارحها، ألوانها، دور السينما فيها، أزقتها العتيقة، بل الأكثر من هذا ناسها.
لا شيء تبقى من بغداد في بغداد اليوم، فهي ليست بغداد الأمس، وهي ليست بغداد البغداديين، هي ليست بغدادكم أو بغدادنا، أو بغداد كما عرفها أي زائر لها في السابق.. إنها وببساطة بغداد التي هي ليست ببغداد، ليست المدينة التي كان يتبغدد فيها المقيم والزائر منذ أن بنيت.. وحتى خربت.
»الشرق الأوسط» استغرقت لأكثر من شهر في سطح المدينة وعمقها، حولها وفوقها، فوق أرصفتها وعلى حافات نهرها، وبين ناسها وفي أسواقها، بحثا عن روح بغداد الألقة، فلم نجد سوى بقايا مدينة تتخرب كل ساعة ويوم أمام أهلها، وبرصد شهود عيان بعضهم يبكي من أجلها، والبعض الآخر يمعن في خرابها، وبعض ثالث لا يهمه ما يراه من مشاهدها الحزينة. هنا اكتشاف جديد لبغداد.. التي لم تعد بغداد. بغداد التي خرجت من بوابات الحروب والدمار متألقة دوما، إلا في هذه المرة، فقد خرجت ولم تعد حتى اليوم.
وراء أبواب الغرف المغلقة والمكيفة بصورة جيدة جدا وحول طاولات عامرة بالفواكه الصيفية العراقية وقناني المياه الصحية الباردة للغاية، وعلى إيقاع حركة الملاعق في أقداح (استكانات) الشاي البغدادي، تدور حوارات ونقاشات السياسيين وأنصاف السياسيين العراقيين، باسترخاء تام، لا حسابات فيه للوقت أو لمعاناة العراقيين الذين يتلظون بجحيم درجات الحرارة التي تتجاوز في أيام كثيرة من أشهر الصيف الطويلة الخامسة والخمسين، ووسط عواصف ترابية ترسل المئات من الأطفال وكبار السن إلى المستشفيات التي تشكو من أزمات في توفر أجهزة التنفس، يضاف إلى هذا انقطاع للتيار الكهربائي استمر في غالبية مناطق رصافة بغداد وكرخها إلى أكثر من عشر ساعات، وشحة غير مسبوقة في المياه.
»السياسيون العراقيون في نعيم»، هذا ما تقوله ندى عبد الكريم، (موظفة في إحدى الوزارات العراقية). وتضيف: «هم لا يعانون من انقطاع التيار الكهربائي ولا من شحة المياه ولا من عطل أجهزة التبريد، ولا من هموم عطل مولدات الطاقة الكهربائية البيتية السيئة المنشأ، ولا من أزمة النقل والاختناقات المرورية التي تجبر المواطنين على الانتظار في الشوارع وتحت أشعة شمس قاسية لأكثر من 45 دقيقة أو ساعة، كل هذا يجري بينما طلابنا يستعدون لخوض الامتحانات التي ستقرر مصيرهم ومستقبلهم». وتستطرد: «العراقيون تغلبوا على السياسيين في وطنيتهم، وفي صبرهم وقابلياتهم على التحمل». وتضيف هذه الموظفة ذات الـ34 عاما والتي تحمل شهادة ماجستير في اللغة الإنجليزية، في لهجة هي أشبه بالشكوى منها إلى الإيضاح: «لقد خرجنا وانتخبنا من اعتقدنا أنه يمثلنا وسوف يحقق التغيير الذي ننتظره منذ سنوات، ونتحمل كل يوم معاناة ليست إنسانية بكل المقاييس، ومع ذلك فهم يجرجرون مرة بالطول ومرات بالعرض ليس من أجلنا وليس لأغراض وطنية بل لأسباب شخصية ولمصالح ذاتية تخلو من الكياسة واللياقة»، مختتمة حديث شجونها بالمثل الشعبي: «من يده في الماء، ليس مثل الذي يده في النار وسياسيونا أيديهم في ماء بارد ونحن أيدينا في نار لاهبة».
من يعش ظروف هذه المرأة العراقية، وملايين العراقيين فسوف يبرر لها تماديها المشروع في الحديث عن السياسيين العراقيين «الذين يتمتعون بامتيازات هي أقرب لامتيازات الآلهة في الديانات الوثنية القديمة، سيارات فارهة محصنة ضد الرصاص، سيارات أخرى لحماية هذا السياسي وذاك البرلماني السابق واللاحق، سيارة تطلق المنبهات لفتح الطريق أمام السياسي الذي يسرع للوصول إلى بيته الفاره سواء في المنطقة الخضراء أو في حي القادسية المخصص للوزراء وأعضاء البرلمان المزمنين، بيوت لا ينقطع عنها التيار الكهربائي أو التبريد، مع وفرة في المياه وفرة تسمح بملء المسابح المترفة الملحقة بفلات حي القادسية بجانب الكرخ، ورواتب ومخصصات مالية تفوق كل التصورات، هذه الامتيازات التي شكلت غشاوة على أعين الكثير من أهل السياسة فلا يشاهدون واقع حال الناس وبوضوح»، حسبما يقول فائق الجنابي، مدرس في جامعة بغداد، مضيفا: «الموضوع ليس أزمات في الخدمات وحسب بل إن هناك أزمة في مشاعر السياسيين، أعني مشاعرهم الوطنية، وإحساسهم بمعاناتنا اليومية، وأزمة في أن نتفاءل بحدوث تغيير حقيقي خاصة بعدما سرقوا أصواتنا في الانتخابات، فنحن صوتنا للتغيير، للقائمة العراقية التي فازت بغالبية المقاعد البرلمانية، ثم فوجئنا بأكثر من مؤامرة تحاك ضد أصواتنا ومصادرتها للالتفاف على خيارات الشعب العراقي وإبقاء الأوضاع على ما هي عليه».
في بغداد بالكاد تستطيع أن ترى لون السماء وفي وضح النهار لوجود ملايين الملايين من الأسلاك المتقاطعة مع بعضها لتشكل شبكة هائلة فوق هذه المدينة الكبيرة، هذه هي الأسلاك التي تزود البيوت والمحلات التجارية بالطاقة الكهربائية المشتراة من أصحاب المولدات الكهربائية الخاصة والمنتشرة بين كل الأحياء السكنية والمناطق التجارية.
ويقول الجنابي: «لقد تشكلت طبقة جديدة من الأغنياء، من تجار الطاقة الكهربائية التي تباع حسب الأمبير، فأنا مثلا أدفع ما يقرب من نصف مليون دينار شهريا ثمنا للامبيرات التي اشتريها وبواقع 22 ألف دينار عراقي (20 دولارا أميركيا) للأمبير شهريا، ويكفي العائلة المتوسطة العدد من 10 إلى 12 أمبيرا، أي عليهم أن يدفعوا مبلغ 340 ألف دينار عراقي (250 دولارا) شهريا، علما أن هذه الامبيرات وبهذا المبلغ المرتفع بالنسبة للعائلة العراقية لا تبعث البرودة لا في أرجاء البيت ولا في الثلاجات، إذ لا يشغل سوى ثلاجة واحدة وبعض المراوح والأضوية من دون أن تتمكن من تشغيل جهاز تبريد واحد وبذلك يعني أن دفع هذه المبالغ فقط لإضافة إحساس لدى العائلة أن هناك طاقة كهربائية»، موضحا أن «التيار الكهربائي الذي تجهزه الحكومة (الوطنية) يصيب الناس بالإرباك، فما أن تأتي الوطنية ويتم تشغيل الأجهزة الكهربائية البيتية حتى ينقطع التيار بعد عشر دقائق أو ربع ساعة».
أزمة الكهرباء التي بدأت منذ عام 1991 على أثر القصف الجوي والصاروخي الأميركي للبنية التحتية العراقية، استفحلت كثيرا بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، وكان العراقيون قد اعتقدوا بأن وجود الأميركيين في بلدهم سوف يصلح ما يمكن إصلاحه، وعلى الأقل موضوع أزمة الكهرباء والماء، لكن المشكلة تعقدت كثيرا، وتشابكت مثل تشابك أسلاك التيار الكهربائي في سماوات العراق عامة، وسماء بغداد خاصة. وفي ذلك يقول صفاء الدليمي، مدرس ومن سكان حي العدل بجانب الكرخ من بغداد: «لقد كان قادة المعارضة في الأمس يقولون ويطبلون في القنوات الإعلامية العربية والعالمية بأن صدام حسين يتعمد قطع التيار الكهربائي لإشغال وإلهاء الشعب العراقي عن الأمور السياسية من جهة، ويستخدم هذا الموضوع كعقوبة ضد أبناء شعبه، مع أن التيار الكهربائي وقتذاك كان ينقطع ما بين ساعتين أو أربع ساعات في أسوأ الحالات، ولا ندري ماذا يقول قادة معارضة الأمس الذين يحكمون العراق اليوم وهم يقطعون التيار الكهربائي ما بين 10 إلى 14 ساعة في اليوم، هل هي عقوبات جديدة يفرضونها علينا، أم إنهم يريدون إشغال الشعب عن أخطائهم واختلاساتهم وسوء الأوضاع الأمنية عامة».
ووجد البعض في الأزمة فرصة للكسب السريع والخيالي وظهرت طبقة أصحاب مولدات الطاقة الكهربائية وباعة الكهرباء الذين يثرون على حساب الناس وهناك تجار المولدات الكهربائية البيتية الذين سجلت مبيعاتهم أرباحا هائلة على مدى السنوات الماضية، ومعهم برزت في الضرورة فئة باعة وقود المولدات (بنزين وديزل) في السوق السوداء وبأسعار عالية، كما طفت على السطح، بالضرورة، طبقة مصلحي أعطاب هذه المولدات بسبب «استيراد هذه المولدات من مناشئ رخيصة وسيئة»، حسبما يوضح الدليمي. معاناة أخرى تضاف إلى حياة العراقيين الصعبة للغاية، تلك هي انقطاع مياه الشرب التي لا تصلح أصلا للشرب حسب تأكيد الدكتور زيد معلة، اختصاصي طب عام، الذي قال «إن المياه القادمة عبر الصنابير شحيحة وغير صالحة للشرب»، وتأكيدا لكلامه أحضر قدح ماء شفافا وملأه من ماء الصنبور فجاء الماء ممزوجا بالطين ذا لون مائل للبني، وقال: «هذا أوضح دليل، وفي بعض الأحيان يكون الماء مصحوبا بالحشرات الناعمة».
العراقيون المتمكنون ماديا يشترون زجاجات المياه الصحية الصغيرة منها والكبيرة لاستخدامها للشرب وأحيانا لغسل أجسادهم، وتشكو مريم حسن، تعمل صيدلانية في حي الحارثية بجانب الكرخ من بغداد، قائلة: «لاحظت أن شعر راسي بدأ في التساقط، وأن حبوبا ناعمة ظهرت على جلدي، وبعد المراجعات الطبية وإجراء التحاليل تأكدت بأن ما يحدث هو بسبب استخدام مياه الحنفيات القادمة من إسالة الماء الحكومية، كونها مياها غير معقمة، والمعروف أن نسب التلوث في أنهار العراق تبلغ درجات قياسية وغير صالحة للاستخدام البشري، لهذا يجب معالجتها كيميائيا بصورة جيدة وهذا لا يحدث على الإطلاق».
وتعلق مريم قائلة: «نحن نشتري قناني المياه المستوردة من الأردن أو الكويت أو السعودية»، تسخر بمرارة وهي تنوه: «هل من المعقول أن يستورد العراق، بلد الرافدين والأنهار قناني المياه
من دول لا أنهار فيها».

رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  معد فياض


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni