... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
دكتاتورية الكراهية :الفرد العراقي من مجتمع التعبئة الى حالة الصدمة والترويع

سلام عبود

تاريخ النشر       31/07/2010 06:00 AM


(الصورة : بؤساء احتلوا جريدة الجمهورية بعد الاحتلال - بعدسة زياد تركي)
خلال خمسة عقود متصلة تعرضت ذات الفرد العراقي الى سلسلة من الهزات والصدمات والأدوار العنيفة، المتعددة المصدر، المتنوعة الأسلوب، المختلفة الاتجاه، يجمعها رابط واحد هو القسوة والعنف والميل الى كسر شوكة الخصم وإذلاله والاستحواذ عليه: سقوط الملكية العنيف، سقوط حكومة قاسم وقيام انقلاب 14 رمضان الدموي، سقوط سلطة عارف، الحرب الكردية، الحرب البعثية الداخلية، الحرب ضد القوى الوطنية، الحرب العراقية - الإيرانية، حرب الكويت، انتفاضة عام 1991، الحصار والحرب عن بعد، الاحتلال المباشر، الحرب الأهلية والارهاب. خمسة أجيال متعاقبة عوقبت علناً من طريق الخضوع القسري الى مسلسلات الرعب السياسي، أقدمها جيل الخمسينات، الذي يضم في صفوفه جلّ القيادات السياسية العليا الراهنة. من الحبال، والسكاكين، والبلطات، والصعقات والمثاقب الكهربية، الى المسدسات الصائتة والصامتة، وصولا حتى الى الـ"توما هوك"، والقنابل المشعة. من الإهانة، والتحقير، والعزل، والطرد، والتهجير، وإسقاط الجنسية، الى التبول على السجناء، وارغامهم على ممارسات شاذة، والاغتصاب، وهتك الأعراض، والسجون الجماهيرية العلنية والسرية، والطمر أحياء في حفر جماعية اسمها القبور المجهولة. من الوشم على الجباه، وقطع الألسن والآذان والأصابع والأطراف، وسمل العيون، الى آخر مبتكرات العقل العصابي: قطع الرقاب، وبقر البطون، وتعليق الجثث في الشوارع، ورمي الأجساد في المزابل، وتفجير الأحياء بالديناميت. من التماثيل، والنصب، والمناهج المدرسية المؤدلجة، والأطاريح التعبوية، الى الأهزوجة، والأنشودة، والقصيدة، والقصة، والبحث الثقافي الشرير. من استقبال الطعنات، والإجبار على رؤيتها تمارس على الآخرين، والاختباء ذعرا في الطبقة العلوية أو السفلية من جهنم الوطن، الى التلذذ بتسديد الطعنات، وتمجيدها، والسكوت عليها، والتغزل بها شعراً ونثراً وتشكيلاً وتمثيلاً وبحثاً، وصولاً الى الاعتراف بها عقيدة مقدسة. من التملق، والمحاباة، والمسايرة الذليلة، الى الوشاية، والتلذذ بالألم، وصولاً الى الإيمان المطلق بواحدية مشروع العنف ايديولوجيا سامية وهدفاً وطنياً. كيف تستطيع الذات مواجهة كل هذا العبء النفسي الثقيل من دون خسائر أكيدة؟ كيف يستطيع هذا الجهاز الصغير والحساس، الذي اسمه الأنا، أن يواجه هذا القدر المرعب من البشاعة والتدمير؟ إن الوقائع الحية الماثلة أمامنا، وتجربة الحياة اليومية العراقية، بعجائبها السياسية، تؤكد تأكيداً قاطعاً أن أجيالاً عدة من الشعب أضحت مصابة بمرض فقدان السوية النفسية، شاءت أم أبت، اعترفت بذلك أم كابرت وانكرت. يصل فقدان السوية في بعض الأحوال الى مديات كارثية، حينما يغدو تفسخاً تاماً للضمير، وتعفناً يتغلغل عميقاً في ثوابت الذات البشرية ومثلها الإنسانية العامة المعروفة. من ينظر إلى أعلى جهاز سياسي في الدولة العراقية، مجلس الرئاسة والوزراء والبرلمان، ير أننا نقف أمام ردهات مشفى للأمراض النفسية والعصبية، عامر بالنزلاء السعداء، مشفى يخلو تماما من حكيم أو ممرض أو ممارس طبي، مشفى يديره نزلاؤه السعداء بتعاستهم الدائمة.
على الرغم من أن التحضير لإسقاط صدام كان طويلا ومتعرجا ومتناقضا، في شكله التهديدي الاستعراضي منذ حرب الكويت 1991، وفي طوره التدميري عن بعد، الأقرب الى الجدية، منذ صدور قانون تحرير العراق 1998، وفي صورته الأكيدة منذ أول جلسة لمجلس الأمن القومي دعا اليها جورج بوش في مطلع عام 2001، والتي أذيع هدفها في مؤتمر لندن 2002 واضحاً، صريحاً، لا لبس فيه: "الاحتلال"، وفي شكله الحسي المحقق منذ اعلان بدء العمليات العسكرية لغزو العراق 2003، بيد أن لحظة السقوط، التي اقترنت بأسرار السقوط السريع والغامض، كانت مفاجئة للجميع، للمجتمع العراقي بأسره، وربما حتى لصدام ولبعض حلفاء الأميركان المقربين.

من مركزية العنف الى فوضاه

مفاجأة السقوط هنا، لا تعني سرعة سقوط النظام، إنما تعني مفاجأة الوجود (العيش) في لحظة عجيبة، لا تطوّق فيها قوانينُ الطاغية وأناشيده وحرسه وأساليب إدارته للحياة جسدَ الفرد العراقي وعواطفه وأفكاره وأنماط وجوده الشخصية والاجتماعية. لحظة سقوط "الصنم الأكبر"، رمز الحروب المتكررة والطغيان السياسي الطويل والخوف المزمن، لحظة التحرر من الكابوس الطويل تلك، بكل تناقضاتها السياسية والنفسية، كانت لحظة استثنائية فريدة، بل عظيمة التفرد والجدة والإرباك للمشاعر وللأحاسيس الفردية والجماعية. لحظة تشبه ضربات القدر الخاطفة، مزّقت بطرفة عين كل تلك الأحاسيس المعيشة والتجربة النفسية والاجتماعية والشعورية، التي اعتادها الناس وألفوها طوال ثلاثة عقود ونصف العقد، ودرّبوا أنفسهم فيها تدريباً صارماً وحاذقاً على التكيف والانسجام مع متطلباتها وشروطها المميتة، حتى غدت نمطاً  ثابتاً، معروفاً ومجرباً يحدد سبل إدارة حياة الفرد والمجتمع. سواء أكان الفرد مع عنف السلطة أم ضده، فإن ذاته خضعت الى أشكال محددة من صور التكيف النفسي والسلوكي، قامت فيها الغرائز- غرائز الحب وغرائز التدمير معاً- بتنظيم فاعليتها واختيار موضوعاتها أو إجبار الذات على تقبلها (صلاتها العملية مع الواقع)، بالطرق المتاحة التي تفرضها العوامل الثلاثة المعروفة: الدافع الغريزي الداخلي وما يصاحبه من لا شعور، والأنا كسلطة رقابية داخلية، والواقع الاجتماعي المحيط كقوة ضغط جبارة، عسيرة التقبل، عصية التعديل والإزاحة أو الإلغاء أو النسيان.
كانت المعضلة الكبرى للذات الفردية، في لحظة السقوط، تتركز تركزاً مكثفاً في هدف نفسي واجتماعي وسياسي واحد ومحدد، هو كيفية ابتداع آلية مقبولة للانتقال من مركزية التنظيم الاجتماعي الصارم الى حرية تنظيم المجتمع سلمياً من دون خوف. أي الاستعداد النفسي التام للتحول شعورياً في اتجاه مغاير. بيد أن الذات المرتبكة والمضطربة والمدمنة الخوف والخضوع والقسوة والقلق، وجدت نفسها فجأةً تنتقل من مركزية الكبت والقوة الى فوضى الحرية، ومن عبادة شرير محلي الى الخضوع الى محتل أجنبي، ومن عبادة الفرد الى عبادة الذات. فبدلاً من مواجهة نمط معروف، محدد، من العنف والأعداء والأصدقاء، وما يرافقها من صلات ووسائل مجربة، وجدت الذات نفسها في مواجهة أنماط جديدة غير مطروقة على نطاق واسع من أنماط العنف، ومن الأعداء والأصدقاء، وما يستدعيها من استثمار لغرائز الحب والكره وغرائر العدوانية والحياة. الأهم من هذا، أن الذات واجهت عملية تبدل الدور الاجتماعي في ميزان العنف والعداوات والصداقات، وتبدل مواقع الدفاع والهجوم لدى الأفراد والجماعات. لقد وجدت ذات الفرد العراقي نفسها فجأةً أمام ديكتاتور أوحد جديد، أشد فتكاً وتخلفاً وغموضاً وأنانية، اسمه حرية الكراهية.
إن العدو الأكبر الذي واجهته الذات العراقية (ذات العراقي الفرد) في تلك اللحظة الفريدة، أنها وجدت نفسها تنتقل من قسوة الديكتاتورية الى ما سمّاه الأميركان تبجحاً: الصدمة والترويع، الذي سرعان ما غدا العنوان الرئيسي لحقبة ما بعد الديكتاتور.
ربما لهذا السبب شاع بين الناس، أو أشيع، الرأي القائل إن الذات والأحاسيس قد درّبت نفسها على سبل تلقّي الصدمات والتكيف معها لعقود طويلة، بما في ذلك مشاعر الكبت والحرمان والقسوة والإذلال و"مراوغة الموت" وغيرها من التجارب النفسية والسلوكية المحزنة. فالشعب العراقي هو الشعب الوحيد في العالم المعاصر، الذي خاض أطول حرب نظامية على جبهة واسعة. لكن هذا الافتراض خاطئ وجاهل وشرير تماماً، من الناحيتين النفسية والعملية، على الرغم من مسحة التفاؤل الكاذب فيه، التي يُروَّج لها في الخطاب السياسي السائد وفي نصوص الصحافة الإنشائية السطحية، التعبوية والدعائية. إن العنف الجديد غيّر مواضع اصطفافه أولاً، أي غيّر مواقع الدفاع والهجوم. ثانياً: قامت فوضى الحرية، ببعثرة آليات التقبل والرفض، التي كانت محددة ومقننة ومعروفة لدى الذات المهاجمة والمدافعة على حد سواء. ثالثاً: تعرضت الذات الى خديعة منكرة، لم تكن تتوقعها أو تعدّ نفسها لها إعداداً لائقاً. كان سقوط الطغيان الديكتاتوري يعني، أو يفترض تفاؤلاً، سقوط الخوف والقلق النفسي واندحاراً تاماً (تعطيل أو تجميد أو إشغال) للغرائز العدوانية وغرائز الموت والتدمير تحديداً. وتلك أمنية دفينة قائمة بقوة في كيان كل إنسان يعيش في نفق مظلم. هكذا أعدّت الذات الاجتماعية نفسها سراً أو علناً، وهذا يشمل الجميع، حتى أولئك الذين يعارضون الاحتلال وسيلة ونتيجة من معارضي الحكم الديكتاتوري. لكن ما حدث هو العكس. فقد أصيبت الذات الفردية والاجتماعية، في هذا الموضع المحدد، بصدمتين عنيفتين: الأولى نتجت جراء تبدد الحلم بالأمان والتغيير، والثانية جراء عودة الخوف من جديد بطرق أشد عنفاً وأكثر جدةً ومهارة ولا معقولية وجنوناً. أمّا على المستوى الأخلاقي، فإن الأنا، لا الأحاسيس وحدها، أصيبت بطعنة مفاجئة وجارحة لم تكن مستعدة لها أيضاً. لقد سقط طاغية وجاء بديلاً منه احتلالٌ أجنبي تقوده قوة عاتية، معروفة للجميع بغطرستها واستعلائها وعدائها الطويل لمكوّنات المجتمع التاريخية وموروثاتها وثوابتها، قوة غريبة لا تنفع معها كثيراً حجج تقاسم المصالح والشراكة وغيرها من التخريجات الدعائية السياسية. قوة جبارة، غريبة بمثلها ووسائلها وغاياتها، راحت تدير الحياة بمعاونة جماعات محلية تفتقر الى التأهيل المهني والثقافي والسياسي، جماعات هي في الأصل إنتاج سلبي وإفراز مرضي من إفرازات ثقافة العنف الديكتاتوري نفسها. فهذه الجماعات ليست منفصلة نفسياً وثقافياً عن بنية نظام العنف السابق الذي أنتجها، لأنها لم تصنع بديلها بنفسها، ولم تتدرب على صناعته، بل اكتفت بدور القمّام، المساعد والمنفّذ والمجرّب والمستأثر بالسلطة والثروة والرأي. إنّ الإحساس بالطعنة وما ولّده من مشاعر متناقضة ومضطربة، ردّ فعل نفسي قوي (ظاهر أو خفي) موجود في نفس كل فرد من أفراد المجتمع العراقي، حتى في نفس أكبر من خدم مشروع الاحتلال وأخلص له، وهذا ما نراه بوضوح في تبريرات الجلبي وكنعان مكية وحتى علاوي وتقلباتهم، وغيرهم من قادة مشروع التحرير بواسطة الاحتلال. سبب ذلك يعود الى أن الذات تقيم علاقتها مع الموضوع من طريق خبراتها الحسية المعيشة، لا من طريق الدعاية السياسية لهذا المجرّب أو ذاك، لهذا السعيد والمحظوظ أو ذاك. إن قسوة الواقع أرغمت الجميع على الاعتراف بخطأ تسليم الوطن الى أجنبي محتل، على الرغم من أن بعض الجماعات السياسية قد تنتفع موقتا من هذه الدعاية لمصلحتها الخاصة، وعلى الرغم من مقدرة الذات على تمويه سبل انفعالها وتعبيرها عن موضوع ما وهدف ما.
ماذا تفعل الذات بتراث ثورة العشرين، الذي يملأ القصائد والأناشيد والكتب والحكايات؟ لقد غدت هذه المعضلة أعظم لدى الذات التي تقيم علاقة ايديولوجية أو سياسية مع الواقع. ماذا يفعل الشيوعي والوطني بشهداء مكافحة الاستعمار، الذين اعتاد أن يفتخر بهم ويتخذهم مثالاً ووسيلة دعائية معبّرة عن قيم التضحية والفضيلة؟ أين وكيف سيطمر ذكراهم؟ كيف سيتحدث الشيوعي والوطني بفخر عن أبرز مقارعي الديكتاتور، "أبو كاطع"، الذي هاجم الاحتلال في كل صفحة من صفحات رباعيته القصصية الشهيرة؟ في أيّ مقبرة سيدفن الشيوعي هذه المشاعر "النبيلة" المحببة، التي تغنّى بها مدى عقود طويلة؟ ماذا يفعل حاملو الفكر الديني المعارض، الذين توارثوا مبادئ الدفاع عن نقاوة العقيدة في مواجهة "قوى الطغيان العالمي"؟ تلك معضلة ذاتية وأخلاقية وثقافية يواجهها الفرد حينما يخلو الى نفسه، أو حينما يواجه نقيضه. لكن هذا الإحساس بالقلق والتناقض الضميري لم تحترمه القيادات السياسية الجديدة، لأنها تدرك حجم الخطر الذي تستدعيه مثل هذه المكاشفة. لذلك لجأت القوى السياسية العراقية الحاكمة، من دون استثناء، الى نظرية التصعيد الجماعي للغرائز، لكي تلغي أو تُخمل أو تنيم تأثرات الضمير، وتخرس التداعي الحر للعقل الباطن وتميت مرجعياته التاريخية. في هذا التناقض الداخلي العميق، نجد تفسيراً للكثير من الغوامض والمفاجآت السياسية الحزبية، والانهيارات السياسية الكبيرة، التي مرّت بها الحركات السياسية، ولم يجد لها الناس تفسيراً واضحاً. ماذا يفعل أولئك الذين هاجموا أميركا إبان حقبة الديكتاتور، تصنعاً أو إيماناً أو تكسباً ونفاقاً؟ حتى هؤلاء، الذين أداروا مقود السيارة وذهبوا يتبعون، بخشوع أو بهتاف منافق، رهط عجلات "الهامفي"، اعترتهم الهزّة، واضطرتهم الى البحث عن آليات جديدة للتكيف مع الوسط الجديد؛ فقد فرضت لحظة الصدمة والترويع عليهم قدراً من الصدام النفسي، والمعاناة الداخلية، غير المرئية، ولكن الأكيدة.
لقد ظهرت أعراض الصدمة والترويع ونتائجها على الجميع، الأفراد والكتل على حد سواء. فقد عاشت الكتل الاجتماعية الحالة ذاتها وهي تلعب دوراً مركّباً، الأول في مواجهة أعضائها كأفراد، يسري عليهم ما يسري على أفراد المجتمع العراقي كافة، والثاني كجماعات لها ضغطها المتنوع على الأفراد من أعضاء الجماعة نفسها أو من الأفراد خارجها وعلى الكتل المنافسة.

الكراهية دستوراً للوحدة والتمايز

لقد أدى سقوط سلطة الديكتاتور الى بلورة نوع جديد من الوحدة، تعود بواعثه بجذورها الى حقبة الديكتاتور، وتتركز في مشاعر الكبت جراء الظلم الموجه الى الكتل، كالشيعة والأكراد، الذين وجدوا في هذا التمايز شكلاً جماعياً لمواجهة كبت الماضي، فأضحت الصلة بالمواطن لا تقوم إلا عبر هذا الشكل الجديد أو من خلاله أو بواسطته. لقد أصبحت الكتلة مركزاً من مراكز القرار الاجتماعي الفعلي، بعدما كانت مغيبة، ليس كأفراد، وإنما ككتلة سياسية ذات قرار. إن عامل الوحدة هذا تمّ تكوينه على قاعدة ثابتة هي رابطة إعادة المظلومية، أي على قاعدة تصحيح مسار العنف، من طريق مواجهة الآخر وسلبه ما آخذه سابقاً، حقاً أو باطلاً. لذلك نشأت إثارات جديدة، تطلبت استجابات جديدة من الأفراد باسم الجماعة، انتظمت جميعها حول قاعدة ردّ الحقوق الجوهرية: السلطة؛ فنشأ تعبير عدواني جديد مغلّف بألوان عديدة من الغلف الخيّرة والشريرة، مثل حرية الطوائف، والتحرر من الطغيان الديكتاتوري، التي أفاد منها سياسيو الجماعات الطائفية والعرقية لغرض تعزيز سلطتهم، باسم المصالح العليا للجماعة. كان المبدأ الأول لهذه الوحدة هو التمايز عدوانياً، أي التمايز بالاختلاف والتناقض القائم على قياس حجم الأثر العدواني السابق (استحدثت حكومة كردستان مثلا وزارة فريدة اسمها "وزارة الشهداء"، ومديرية "القبور الجماعية"، وأنشأت السلطة العراقية ما عرف بهيئة الاجتثاث)، أي الشراكة على قاعدة تمايز القوة الجديدة، التي يتم قياسها وحسابها من طريق قياس حجم القوة السابقة المسلطة على الكتلة (عدد القبور). من أطرف أشكال التعبير السياسي عن الوحدة على قاعدة الكراهية، ما نجده في الشعار الايديولوجي الذي رُفع عقب تلاحق هزائم عملية بناء الحياة وتطبيعها، والقائل: "أسوأ ديموقراطية تبقى أفضل من أحسن نظام ديكتاتوري في العالم". أي تصعيد عناصر التمايز من طريق الروابط الدونية المشتركة: الوحدة وفق قانون الأسوأ. لقد وصل سياسيو مرحلة ما بعد السقوط الى كرسي الحكم تحت شعار "أسوأ الخيارات"، ثم شرعوا يؤسسون ديموقراطيتهم تحت شعار "أسوأ الديموقراطيات". أي أن الشعب العراقي مرغم على اختيار أسوأ أشكال سبل إسقاط السلطة وأسوأ أشكال سبل إدارة الحياة؛ أي أنه مرغم بالضرورة على القبول بأسوأ أنواع السياسيين والحكام. وهذا حد بليغ وحيّ يوضح عمق سيطرة التفكير المعوق والمرضي على عقول السياسيين العراقيين الحاكمين الجدد؛ وفي هذا النموذج العقلي يجد المواطن جواباً شافياً عن السؤال الذي أرّق الجميع: لماذا تتعثر فرص إقامة مجتمع عادل وسليم؟ لأن مبدأ إدارة الحياة يقوم على أساس التوافق وفق قانون تبادل منافع الشر والكراهية، واتخاذ الأسوأ نموذجاً وشعاراً. هنا يسقط المجتمع بأكمله في هاوية الحد الأدنى إنسانياً، الحد الذي تتفسخ فيه مكوّنات الضمير والوعي تفسخا تاما.
لذلك نشأ اتحاد مضمر للإرادات والميول العدوانية الثأرية، قوامه الأساسي مبدأ التمايز بالكراهية، فتح الباب واسعاً للرغبات الأنانية والشره الاقتصادي والسياسي التي سيطرت على مجمل خطوات القوى السياسية الحاكمة. إن استخدام العدوانية الغريزية كمبدأ داخلي للوحدة، يظهر بأشكال متنوعة ومعقدة جداً، وأحياناً متناقضة، وقد أدى ذلك الى  بلبلة عقول الناس وجعلهم، بما فيهم مثقفوهم، في حيرة من أمرهم، ولم يفد من هذه البلبلة سوى طرفين، الأول المسيّر والمتحكم بالواقع كله: المحتل، والثاني جيش المنافقين السياسيين، من محترفي المصانعة السياسية، الذين كانوا سند الديكتاتور: السياسي المبتذل، والمقاول الفاسد، والعسكري المتعطش للعنف، والصحافي التعبوي، والعامل في المجال الثقافي والإعلامي الحزبي الدعائي، الذين وجدوا في هذه الخلخلة فرصة نادرة لممارسة هوايتهم المفضلة: بيع الضمير. لكنهم لم يكونوا بمنجاة من عذاب الذات (تأنيب الضمير) وتناقضاته، وإن كانوا الأقدر على حل تناقضاتهم الداخلية ومنغصاتها النفسية بيسر بالغ وشفافية وأريحية، متبعين سبيلين لا ثالث لهما: الأول الدعوة البكائية الى النسيان الفوري، أي نسيان كل ما جرى وما يجري وما سيجري (التنويم المغناطيسي الأبدي). أي استخدام الخداع التاريخي المصاحب للأزمة الاجتماعية لغرض استمرار فعل الشر ومواصلة تسخير آلياته وكوامنه الداخلية الموروثة لأغراض ومصالح ومسميات جديدة؛ والسبيل الثاني هو تدنيس المثل البشرية العليا وتسفيهها: الخير، الحرية، الحق، الديموقراطية، نكران الذات، المسؤولية الشخصية، واعتبارها بضاعة استهلاكية شخصية، يمكن بيعها أنّى نشاء، لمن يرغب.
من مظاهر استخدام المظلومية أداةً للكراهية، ما نجده في الدور الجديد المنوط بالتشكيل المسلح المعروف باسم "البيشمركة". وهو تكوين "عبثي"، تم القبول به على قاعدة التحاصص والمظلومية أيضا. فعناصره مقاتلون ضد الطغيان القومي والسياسي سابقا، وبناء عليه تم جعلهم جزءاً من المؤسسة العسكرية الوطنية. بيد أن دورهم العملي، في الواقع اليومي، يؤكد عكس هذا تماما. فهم "لا يستطيعون" مواجهة عناصر حزب العمال الكردي (قُتل المئات من تلك العناصر في أوقات سابقة على يد البيشمركة!)، وهم لا يسمحون بانتشار الجيش العراقي في إقليم كردستان أو التقدم الى ما يُعرَف بالمناطق المتنازع عليها، وهم يعرقلون عملية تسليح الجيش العراقي، وهم لا يقوون على ردّ انتهاكات تركيا وإيران اليومية وهجماتهما. لماذا هم موجودون إذاً؟ إن وجودهم الراهن، كما أسلفنا، تحاصص سياسي وعسكري، قائم على قاعدة ردّ المظلومية، أمّا استمرارهم فمن أجل كسب المزيد من التعاطف مع مظلومية الشعب الكردي الراهنة. الرسالة هنا واضحة وبليغة: لم نزل نتعرض الى اعتداءات "الغير" القومية، ولا سند لنا يحمينا، حتى قواتنا المغلوبة على أمرها. ليس خافيا على أحد أن مثل هذه "الشطارة" السياسية لا تخلق سوى أمر واحد في نفوس الناس: الكراهية. أما تعميمها عراقياً فنجده في الحق الخاص في الوجود الذي اكتسبته الجيوش المحلية: جيش المهدي، فيلق بدر، القوات الخاصة، وحتى "قوات الصحوات"، ليست سوى محاولة للتقاسم فق مبدأ ردّ المظلومية، الناتجة بسبب التمرد على القاعدة وشغل موضعها شرعيا، استنادا الى مبدأ تقاسم الأرض عسكريا.
في الجانب الشيعي لا يختلف الأمر كثيرا. فعلى الرغم من أن السياسيين الشيعة يحمّلون النظام السابق مسؤولية مظلوميتهم طائفيا، أي يحمّلون المؤسسة الحاكمة، كنظام وليس كطائفة، لكنهم - شاؤوا أم أبوا- مرغمون على إبراز مظلوميتهم وتسويتها طائفياً عند مواجهة طائفة أخرى؛ أي لا بد أن يُدفع هذا النزاع الى تصعيد العدوانية الطائفية من الطرفين، للدفاع عن حدود السلطة وسبل تقاسمها الجديد. أضحى لزاماً أن يضع المتقاسمون الطائفيةَ، كمشروع سياسي، فوق الوطن، وأن يضعوا روابط الجماعة الطائفية فوق روابط المواطنة، وفي الأخير باتوا يضعون الميول العدوانية التكتلية سدّاً في مواجهة الآخر. وبذلك أضحى مبدأ تسيير فعلَي الوحدة والتمايز يقوم على ضوء قانون العنف العلني والمضمر المقرون بالكراهية، أو ما عرف بـ"ردّ المظلوميات".

إدخار الكراهية لوقت الشدة

لقد نجا السياسيون الأكراد الحاكمون، حتى هذه اللحظة، من محنة تصعيد العدوانية الطائفية، أي استخدام الورقة "السنّية". ويظن بعض المتشائمين وناقدي السياسة القومية الكردية، أنهم ادخروا طاقات الورقة الطائفية العظيمة الى وقت مقبل، واكتفوا بأن وجدوا لهم حياداً نافعاً ومريحاً، وقفوا فيه باردي المشاعر طائفياً، بين عدوانيتين تتصارعان أمام أعينهم، يقومون هم فيها بتوجيه بعض حركتها، إن استطاعوا، بما يلائم مصالح كتلتهم. أي الإفادة من تصعيد العلاقة الخلافية لدى الطرفين السنّي والشيعي لتحقيق المزيد من المكاسب العرقية الخاصة، بطرق استحواذية ونفعية خالصة، جرى تسميتها من قبلهم بـ"ردّ المظلومية وفق مبادئ الدستور". وقد دفعت شدة الضغط القومي النهم والسافر الطرفَ الشيعي والسنّي العربي والتركماني والمسيحي الى بعض لحظات الصحوة الموقتة. فكلما قويت الشروط التعجيزية القومية الكردية، تعالت، موقتاً، الدعوة الى وحدة تتجاوز حدود الطائفة والعرق، قوامها المواطنة (العراقية)، بينما يميل السياسيون الكرد في مثل هذه اللحظات - الإحساس بالخطر "العراقي" لدى العرب والتركمان والكلدو آشوريين- الى إعلان مشاعر الانفصال من دون لبس، وتكرار التهديد به، بصيغ صريحة، مخططة تخطيطاً منهجياً، ومقصوداً. أي استخدام القوة للوحدة أو التمزق، تبعاً للحالة والموقف المعالج. هذه العلاقة "غير الأخوية" المعقدة، هي لا أكثر من إعادة رسم خريطة القوة وخريطة تنظيم الدوافع والغرائز (الموت والحياة)، وما يصاحبها من توزيع للأدوار السياسية، على قاعدة واحدة: العنف المحلي، مسيطراً عليه من أعلى، بواسطة جهاز القوة الدولي. بيد أن السياسيين الأكراد، الذين أفادوا حتى هذه اللحظة من إخفاء طائفيتهم، ربما سيستخدمون هذه الورقة عند الصدام المؤكد بالدور الشيعي، أو في حال ميل الاقتسام لغير ما ترتضيه رغباتهم ومطالبهم الخاصة.
هذه العلاقة المعقدة والشائكة انعكست بشكل عميق على سلوك الطائفة السنّية، وأصابتها بالشلل التام عند بدء الصدمة والترويع، ثم أغرقتها في حالة مروعة من التشظي والانقسام، ولم تزل هذه الطائفة تعاني بشدة من تداخل عناصر الوحدة والانفصال، الكره والحب، التدمير والبناء، العزلة والتعاون. سبب ذلك معلوم للجميع. فلو نظرنا الى مواطني هذه المنطقة، كأفراد لا ككتلة جغرافية أو طائفية، لوجدنا أن حلقة منهم كانت قريبة من الحكم السابق تناصره مناصرة أكيدة، ومنهم من كان يعمل ضد السلطة من داخل مؤسسة الحكم، حتى العسكرية منها، ومنهم من كان يعمل ضد السلطة الحاكمة من خارجها، وهناك قطاع واسع من المحايدين، الذين كانوا يتمتعون بقدر أفضل من التطمين النفسي قياساً بسكان المناطق الكردية والشيعية، ويتمتعون جميعاً بإحساس تاريخي مفاده أنهم معنيون بمركزية السلطة أكثر من غيرهم. فالسلطة هي سلطة الجماعة منذ الخلافة الراشدية حتى اليوم، عدا بعض الفترات الموقتة الضئيلة. وحتى ما يعرف بالدولة العراقية الحديثة، التي جاءت بعد انهيار الدولة العثمانية، تم تركيبها على قاعدة القيادة السنية، العرش ورئاسة الوزارة، بينما كانت رئاسة مجلس النواب للفريق الآخر، عدا استثناءات محدودة ظرفية تطلبت تغيير الوزارة لإمرار قضايا معادية للمصالح الوطنية. ربما لهذا السبب نجد أن الفرد من أبناء الطائفة السنية أقل ميلاً من غيره الى الحركات السياسية الجذرية أو المعارضة للنظام السائد، ويشمل هذا العرب والتركمان على حد سواء، كما أنهم أكثر ميلا الى الشكل الأصولي الديني والى أفكار الجماعات الكبيرة (وحدة عربية، إسلامية). إن هدم هذه المركزية في الواقع صدمة عنيفة للطرفين، لكنها كانت أكثر عنفاً على مشاعر الطائفة السنية. لقد زلزلت الصدمة الإرث التاريخي النفسي الطويل، الذي طالما ربط الذوات الفردية بعضها ببعض وبقيادة جهاز الحكم والسلطة المركزية، فأربكها هذا التبدل، وجعلها تحس بالفقد والخسارة، وبشيء من الضياع واليأس وعدم اليقين. في الجهة الثانية تعاظم الإحساس بالانتصار، الذي أيقظ مشاعر الطمع والإثرة والنهم الأناني لدى السياسي الشيعي. إن المشكلة الكبرى التي أحدثها التغيير المفاجئ تكمن في شدّة تمييز الطائفية طائفياً، وتمييز المناطق الشرقية جغرافياً، أي إعادة توزيع الخريطة الطائفية جغرافيا ومركزتها طائفيا. بذلك اندفعت، أو دُفعت، المكوّنات الطائفية بهوس وذهول الى البحث عن عناصر جديدة للوحدة، لكي تعيد الثقة الى نفسها، وترجعها الى المركز، أو الى توازن لا يهمّش دورها السياسي، ولكن على قاعدة ردود الفعل العنفية أيضا. وقد أنيطت بـ"القاعدة" وخصومها المباشرين مهمة رسم الحدود ووضع إشارات الخرائط على الأرض بالنار والدم، لكي يكون التمايز أمراً واقعاً، معترفاً به، حتى في الأماكن المختلطة كبغداد. وقد أفادت القوة المحتلة بشكل منهجي من الموروثات التاريخية المحلية والاقليمية، وهي في هذا الجانب اعتمدت على الخبرات البريطانية الثرية، وأضافت اليها مبادرتها الخاصة وخبراتها المميزة ونصائح مهندسي عملية تحرير العراق من المحليين. ربما يقول قائل هنا، إن علاقة الفرد في المناطق السنية بالسلطة السابقة، وحزب البعث تحديداً، لا تختلف كثيرا عنها في المناطق الأخرى، الشيعية خصوصاً. هذا صحيح، وغير صحيح أيضاً. صحيح بشكل عام من الناحية الكمية، لكنه غير صحيح من حيث المدلول الحسي والمدلول التاريخي. وهما المدلولان الأكثر تأثيراً في صناعة الخصوصيات المجموعية وسبل تنظيم علاقتها بالموضوع موضع الارتباط، أي بالموضوع موضع تبادل التأثير لدى الذات الاجتماعية. ففي الحروب والصدامات الاجتماعية الكبيرة تنتفي حاسة التفكير الفردي، ويصبح الصوت الجماعي، والذات الاجتماعية هي الضمير القائد، المنذر، والموحد، والحامي. هذا الاستنفار جزء من حاسة طبيعية، فطرية، موجودة في كيان الإنسان، حاله كحال الحيوانات الأخرى. وهذا ما نراه في سلوك القطيع الحيواني حينما يعبر، في رحلته السنوية المعتادة، ممراً مائياً مليئاً بالتماسيح. فالفرد يحافظ على نفسه بطريقتين متناقضتين ترتبطان ارتباطاً سببياً، وليس عقلياً: التزاحم والتلامس الحاد، والذي يعني اتخاذ الآخر درعاً وقائية من جهة والذوبان في الآخرين ككتلة متراصة. فالقطيع لا يبالي كثيراً بالخطر حينما يتحد جسمياً في كتلة كبيرة واحدة تركض في ايقاع واحد منظم كجسد متكامل موحد الأعضاء، من طريق التدافع والتلامس الجسدي بالأفراد المحيطين بها. إن التغلب على الإحساس بالخوف يتم بسبب كون "الجماعة" تخلّت عن صفاتها الفردية لمصلحة كيان الكتلة، وبذلك لم تعد التماسيح (الموت، العنف) قادرة على القضاء على الكتلة (النوع)، لكنها، من دون شك، قادرة على افتراس عناصر القطيع المنفردة أو التائهة. لذلك يصبح الإحساس بالجماعة دافعاً أساسياً محركاً للفرد. في حين أن الفرد نفسه، الذي يفقد خوفه من طريق ذوبانه في حركة الجماعة، قد يغدو جباناً، متردداً، وغير قادر على اتخاذ فعل العبور، إذا كان وحيداً، لأنه يواجه قدره الشخصي، كفرد، لا كنوع، وبذلك فإنه يحكم على نفسه بالهلاك مسبقاً. هذه المعادلة وما يرافقها من أحاسيس ومشاعر تبدو غالباً أكثر صفاء عند الحيوان، لكنها أكثر تعقيداً لدى الإنسان. لأن الإنسان لا يُغلّب، في مثل هذه الأحوال، حواسه وقواه الجسمانية فحسب، بل يستنفر معها عقله المضطرب والمشوّش وميوله السلوكية وخبراته وتجاربه السابقة، وكل ما يملكه من ذكاء ومكر وأنانية وقوة تفكير لمصلحة غريزة البقاء.
إن الظلم الذي وقع على العراقيين واحد، لكن الناس يعرفون جيداً أن أغلب قيادات المؤسسات العسكرية، والأمنية على وجه التحديد، كانت تعود الى أجزاء محددة من العراق. هذه حقيقة لا تقبل الجدل، وهي حقيقة لها أهمية عظمى عند الحديث عن التمايز، كتفصيل حسيّ، لو ربطت بتفصيل مثالي تاريخي: مركزية الدولة وسبل الارتباط بها شعورياً. تلك الخصوصية لا تقل وضوحاً عن الخصوصية المعترف بها من الجميع للأكراد، مع الفارق في الأدوار والمصالح. كل تلك العوامل والتغيرات كانت في حاجة مباشرة الى استحداث آليات دفاعية وآليات فنية، سلوكية وعقلية وتنظيمية، لكي تتمكن الجماعة من "جرّ نَفَسِها"، وإعادة تنظيم نفسها، وإعادة تأهيل الفرد وتدريبه على "اكتشاف" سبل ملائمة تنظّم عمل أدوات استقباله وإرساله، وتضمنها على نحو يمكّنه من التكييف مع الواقع الجديد.

من عبادة الفرد الى عبادة الأنا

كانت الصدمة عميقة، وكان الترويع أكثر عمقاً، وقع على كاهل الذات الفردية المسالمة والمحاربة على حد سواء، المنتصرة والمهزومة، الرابحة أو الخاسرة، أو التي لم تزل تبحث عن مساحة للربح والخسارة. وكانت آثار تلك الصدمة أكثر عنفا على الكتل التي وجدت نفسها تغيّر أدوارها تغيييرا جذريا، والتي دفعها التنافس الشديد وشدة إظلام مرحلة الديكتاتورية الى حلول متطرفة، وربما يائسة، جعلها تستسهل، أو تستسلم، أو تقع تحت إغراء الهدف النبيل: الخروج من نفق الطغيان بأيّ ثمن، والذي دفعها مرغمة أو مختارة، الى خيار شرير، فوجدت نفسها في تناقض عميق مع شعاراتها: ردّ المظلومية، ولجأت الى تحقيق الخير بوسائل الشر، وتحقيق الحلم الوطني بالاحتلال الأجنبي، وإقامة دولة الوحدة الوطنية العادلة بالتقاتل الوطني، وإقامة مركزية جديدة بشعارات التمزق والانفصال، وإعادة الثروة الى أصحابها من طريق التفنن الإعجازي البارع في نهبها وتبديدها علناً. كل تلك الأعباء، التي فوجئ بها الفرد وهزّت يقينه، وأفقدته المقدرة على التعامل السليم استناداً الى فطرته وتجربته، بلبلت بالقدر نفسه الكتل الاجتماعية كلها، وجعلتها - حتى من يمسك بنفسه جيدا، كالقيادات الكردية- نهباً لمشاعر جديدة، ورغبات جديدة، وطموحات جديدة، بعضها دفين تم استدعاؤه على عجل من متحف الذاكرة، وبعضها قديم قيد الاستخدام، والبعض الآخر جديد وطارئ ومبتكر، خلقته تداخلات اللحظة الحاسمة، وتعقيداتها واضطراباتها: الصدمة والترويع.
كيف تواجه الذات نفسها في هذه اللحظة الجديدة، الانعطافية، الهائلة؟ ما العدّة التي تمتلكها للمواجهة؟ ما الجديد الذي يجب أن تبتكره للتوافق مع الواقع والتكيف مع متطلباته الجديدة الصادمة؟ هنا يجيب كثير من الجاهلين بقوانين العلم خاصة، الإجابة المنافقة المعروفة: إن الفرد العراقي اعتاد على رؤية صور الموت وتأقلم معها، كما يعتاد الطبيب الجرّاح على رؤية الدم والمبضع. لكنّ الطبيب الجراح لم يعتد قط على رؤية المبضع يتحرك حافراً جرحاً في جسده، ولم ير الدم ينفر من عروقه أو عروق أحبائه. أما الخوف، كآلية تنبيهية، أو كأوالة مرضية، فإنه لا يعرف الاحتراف، والأهم أنه يتطلب بيئة نمطية لكي يمارس دوره التكراري المتوارث أو المكتسب أو المعتاد. وحينما تتغير الأدوار  تتغير المعادلات، فيغدو الشبح المخيف نفسه معرضاً الى مشاعر الخوف. وحينما يمارس الفرد الخائف، الذي أخافته الأشباح سابقاً، دور الشبح المخيف الآن، تتغير المعادلة أيضاً. وحينما تختلط الأشباح إختلاطاً جنونياً، بفعل الصدمة والترويع، تتغير معادلات التعامل مع الخوف، ومع الواقع الذي ينتج الخوف، وتتغير ردود الأفعال نحوه ونحو الموضوعات المرتبطة به. ذلك كله يحدث من دون أن تفقد الغرائر المرتبطة بالخوف والعنف مكانتها، ومن دون أن تمحى التجارب السابقة المرتبطة بهذا الموضوع من خبرات الأنا الفردية والجماعية، وإنما تتداخل وتعدل سبل ظهورها، فتغدو حزمة من الدوافع، تسمّى في علم النفس بالدوافع المركبّة. يقول فرويد في كتابه  "أفكار لأزمنة الحرب والموت" (ص 53): "إن الافعال الانسانية تخصع الى تعقيد من نوع مختلف، فإنه يندر تماما أن يكون فعل ما نتيجة دافع غريزي واحد، (وهو ما لا بد أن يكون مركبا من شبق وتدمير) إنما لا بد - كقاعدة لجعل فعل ما ممكنا- من وجود رابطة من هذه الدوافع المركبة".
كيف تواجه الذات هذا القدر من التعقيد النفسي والأخلاقي والسياسي والمعتقدي والايديولوجي؟ إن ما نراه الآن أمامنا، وما يصيبنا بالصدمة، هو لا أكثر من الترويع الناشئ من الصدمة: صدمة رؤية الذات مروّعةً. حيرتنا هذه هي الصورة الناطقة لكل هذا التعقيد، الذي يشبه الى حد بعيد الهذيان العصابي، أو الذهان الهستيري، ينهال علينا في الصحف وقنوات التلفزيون في هيئة أخبار ومقابلات وتفسيرات وتحليلات مملة، قاتلة، لا تقل إرعاباً عن أفعال القتل والنهب نفسها، ولا يختلف عن ذلك ما نسمعه من السياسيين ومن الحاكمين أو ممن نسمّيهم ممثلي الشعب. كيف تواجه الذات كل هذا الهجوم الذي يهدد بقاءها في كل ثانية من ثواني وجودها؟ كيف تقوم الذات بتنظيم حساباتها، التي كانت تنظمها بسهولة بالغة، مريرة وقاسية، ولكنها معروفة ومتقنة، حينما كان العدو عدوا والصديق صديقا؟
ماذا تفعل الذات في هذه الامتحان العسير، غير البهيج؟
ربما لا تفعل شيئاً، سوى المحاولة المستميتة لامتلاك وسائل دفاع مستمدة من خبرات سابقة مشوّشة، وأخرى غامضة في طور النشوء، وتجريبها، علّها تجدي نفعاً. وهذا ما نفعله جميعاً، كلٌّ بطريقته، ووفق مقدرته، تماشياً مع ما يمليه عليه ضميره. لقد فقدنا كل شيء، بيد أن آخر ما تبقّى لدينا هو الحقيقة. لذلك وجب علينا الاعتراف علنا، أمام الملأ كله، من دون خجل، بأننا شعب أرغم على أن يفقد جزءا عظيما من سويته النفسية، يقوده سياسيون حمقى، لا سوية لهم على الاطلاق


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  سلام عبود


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni