... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  في السياسة

   
يحيى الكبيسي : العشيرة والمدينة

د. يحيى الكبيسي

تاريخ النشر       14/08/2010 06:00 AM


كانت سنوات التسعينيات، وبفعل الحصار الاقتصادي الدولي الذي فرض على العراق، وبفعل تغير سياسي الدولة/ السلطة تجاه العشائر بعد الأحداث التي تلت حرب الكويت، ومحاولتها إعادة إنتاج العشيرة كأداة من أدوات الضبط السياسي والاجتماعي معا، في ظل عدم قدرة الدولة على السيطرة، كما كان عليه الأمر قبل ذلك التاريخ، عاملا أساسيا في محاولات إعادة إنتاج وسائل بديلة للمساحة الجغرافية التقليدية للعشيرة، ولبناها المتحولة بفعل الحياة الحديثة. هكذا وجدنا الكثير من البيوتات ذات المرجعية العشائرية، أو تلك التي تنتمي في أصولها إلى حواضر منذ زمن طويل، تحاول البحث عن منظومات عشائرية تراتبية على أكثر من مستوى: مستوى أول يحاول التجمع على مستوى البيت، المستوى الثاني على مستوى الفخذ، ومستوى ثالث مع العشيرة الأصل. والحاكم في حضور هذه المستويات طبيعة وحجم العشيرة الأصل.
إن إعادة إنتاج العشيرة هذه، نتجت عن الحاجة إلى ملء الفراغ الذي نتج عن تدمير الحراك السياسي بداية من العام 1978 وانهيار الجبهة الوطنية؛ وتدمير مؤسسات المجتمع المدني الذي بدأ مبكرا جدا، وتحديدا منذ العام 1958؛ حيث حكم الاستقطاب الحزبي هذه المؤسسات بشكل كامل، وتحولت إلى رديف للحركات السياسية المتصارعة؛ وتدمير المجتمع المديني (ولا أقول الطبقة الوسطى) مع العقوبات الاقتصادية. إن إعادة الإنتاج هذه لم تهدف إلى استعادة العشيرة لدورها في مجالها الطبيعي في المناطق الريفية وحسب، وإنما تعداه إلى تنمية حضورها في المجتمع المديني نفسه، ما أدى إلى تفكيك بنى هذا المجتمع الضعيفة والمتهالكة أصلا.
والسؤال الأساسي الذي لا بد من الإجابة عليه هو لماذا لم تستطع المدينة العراقية، على الرغم من التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي مارستها الدولة الوطنية على مدى أكثر من ثلاثين عاما، من عام 1958 حتى عام 1991 ( أي قبل التحول نحو إعادة إنتاج العشيرة لأغراض براغماتية بحتة بعد حرب الخليج الثانية) تفكيك، أو على الأقل الحد من سلطة العصبية العشائرية، ليس على المستوى العاطفي حسب، وإنما على المستوى الاجتماعي؟
ويرتبط بذلك سؤال آخر عن دور الطبقة المتعلمة في تآكل هذه الولاءات الأولية التقليدية في لحظات صعودها كطبقة وسطى، ووعيها بذاتها ولذاتها (بالمفهوم الماركسي) كطبقة، ودورها اللاحق في إعادة إنتاج هذه الولاءات؛ وبشكل خاص العشائرية والمذهبية، في لحظات تحللها كطبقة اجتماعية؟ لا بد أن نشير هنا إلى أننا نعني بالطبقة الوسطى هنا الطبقة المتعلمة ذات الوضع الاقتصادي المحدد من دون أن يحيل المصطلح إلى أية منظومة قيمية، فبسبب من طبيعة المدينة العراقية الناشئة، وطبيعة العلاقات فيها، والنمو السريع لظاهرة الهجرة، وترييف المدن، بغداد على وجه التحديد، وبسبب من طبيعة التحولات السياسية التي حكمت العراق منذ العام 1958، وطبيعة النخب السياسية التي أفرزتها، لم تستطع الطبقة المتعلمة في العراق، التي حاولت تمثل مقولات الطبقة الوسطى، أن تنتج منظومة قيمية تتسق مع وضعها دائم التحول.
لقد كانت "الحواضر" هي العامل الأساس في الفتك بالعصبيات البدوية عند ابن خلدون، وإذا كانت قد ساعدت في مرحلة ما، وتحديدا في ظل الحكم الملكي، في تآكل الولاءات التقليدية لدى المهاجرين إليها من المتعلمين، فان الحجم الديمغرافي الكبير للمهاجرين غير المتعلمين، بداية من نهاية الأربعينيات. فضلا عن الأسباب المتقدمة، جعل الولاءات التقليدية للقادمين تفرض نفسها على المدينة لاحقا، خاصة بعد ظهور الجيل الثاني من المهاجرين المتعلمين الذين فشلوا في الاندماج في المجتمع المديني/الحضري القائم، بسبب الحساسيات الاجتماعية والمذهبية.
يشير حنا بطاطو في دراسته "التحليل الطبقي للمجتمع العراقي"، إلى أن الطبقات في العراق ظلت كيانات غير مستقرة، وإلى أن الوضع اتسم بحركات دخول وخروج سريعين من وإلى الطبقة القائمة. وعلى الرغم من أنه يؤشر بعض العوامل المؤثرة، مثل الهجرات الكبرى إلى المدن، والنمو الديمغرافي لسكان بغداد. وعلى الرغم أيضا من إشارته إلى أن الطبقة "لا تحتاج، لكي تكون طبقة، إلى أن تملك شعورا موحدا بوصفها وحدة واحدة في كل طور من أطوار وجودها التاريخي ... إنها ليست جماعة واحدة منظمة وواعية لنفسها" (ص15).
إلا أنه يبقى ملتزما بالتعريف السوسيولوجي الكلاسيكي للطبقة بوصفها من حيث الجوهر "تشكيلة ذات أساس اقتصادي" (ص12). فهو يحدد الطبقات الوسطى في العراق بأنها: "ذلك الجزء المكون من المجتمع الذي يتميز بتعددية وظائفه ولكنه يتميز بإشراكه في وضعية وسيطة، أي أنه يحتل موقعا وسيطا بين معدومي الملكية وكبار الملاك، ويضم هذا الجزء عناصر عديدة بينها ضباط الجيش، والموظفون، وأصحاب المهن، والتجار والباعة وملاك الأرض" (ص 25). من دون أن يلتفت بشكل كبير إلى تأثير الأبعاد الثقافية، أو منظومة القيم في تشكيل أو إدامة الوعي بذاتها بوصفها كذلك. على الرغم من أنه سيشير إلى ضعفها في إنماء مشاعر مشتركة، أو الانخراط في فعل مشترك، بسبب ما يسميه: "بقاء الولاءات وأنماط التفكير القديمة" (ص29). وكأن بطاطو يكتفي، متجاوزا التحليل الماركسي، بقيام الطبقة (في ذاتها) على أسس اقتصادية بحتة، من دون أن تكون ملزمة بإظهار وعيها بوضعيتها الموضوعية بوصف ممثليها أعضاء في طبقة (لذاتها) بينهم مصالح مشتركة، ويجب أن يعبروا عنها سياسيا، واجتماعيا، وفكريا بشكل جمعي.
هكذا وجدناه يتطرق إلى قضية السنة والشيعة بالقول: "إن من الخطأ التشديد بدرجة أكبر من اللزوم على ثنوية السنة ـ الشيعة كعامل انقسام في صفوف الطبقة الوسطى، فإن الثنوية ما تزال نشيطة بلا شك، وبخاصة حين تتوافق مع تباينات جهوية، أو حين تتعزز بروح الفئوية المحلية" (ص 28). على أن ما شهدناه من وقائع على مدى السنوات الثمانية عشر الماضية، وبشكل خاص بعد نيسان 2003، يظهر أن هذه الثنوية/الثنائية صارت حقيقة واقعة، صحيح أننا نتحدث هنا، والآن عن وقائع تختلف عما كان عليه الأمر في سنة 1977 حين نشرت الدراسة، حيث كنا بإزاء تفكيك منهجي للطبقة الوسطى سياسيا، وتفكيك قسري اقتصاديا واجتماعيا بسبب العقوبات الاقتصادية الدولية التي أعلنت عام 1990 بعد دخول الكويت، إلا أن هذا لا يلغي حقيقة فشل "الطبقة الوسطى" بمعناه الاقتصادي في أداء مسؤولياتها التاريخية. مسؤولية تماهي مصالحها، بوصفها طبقة لذاتها، وتحويل ذلك إلى وعي سياسي من شأنه أن يدعم مصالحها.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  د. يحيى الكبيسي


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni