... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
عن النجـف . . مرة اخرى

د. حيدر سعيد

تاريخ النشر       22/08/2010 06:00 AM


           نجف .. أبعد من اللاهوت ، و أبعد من الحلم  
     ( 1 )
     في سنة 1980 ـ كنت في العاشرة ـ، في أحد أيام شهر نيسان، عرفت فيما بعد أنه التاسع منه أو العاشر، كنت أسير في شارع الصادق، الشارع الرئيس في المدينة، القريب من ضريح الإمام علي. الشارع خال من السيارات، والناس متجمهرون. مظاهرات وإطلاق نار وهتافات: (عاش عاش عاش الصدر / الدين دومة منتصر).
     لم أكن أفهم الأمور حينها. عرفت، بعدئذٍ، أن تلك اللحظة كانت إحدى الذروات الكبرى لصعود الإسلام السياسي في العراق، وأن الناس كانوا يحتجون على إعدام محمد باقر الصدر.
     أعرف، أيضا، أن الأمر يتعدى محمد باقر الصدر، الشهيد، ويتعلق، أساسا، بالناس، بمعتقداتهم وأفكارهم ورموزهم، بحراكهم ولغة شعاراتهم، فتلك اللحظةُ كانت انعطافة حاسمة في التطور الوجداني لشيعة العراق، انعطافة نحو اختيار الحوزة العلمية ورجال الدين صيغة للهوية وفضاء للذات والانتماء.
     و لذلك، كان ضريح الإمام عليّ مكاناً للتظاهر والاحتجاج.

    ( 2 )
     صنعت النجفَ أسطورة مقدّسة: أن ناقة قادت جثمانَ الإمام علي إلى أن يُدفَن في هذا المكان، المزيج من زرادشتية آفلة ونصرانية قديمة، والمدفون فيه آدم ونوح. دُفِن علي إلى جانب آدم ونوح، وقد يكون دُفِن في عين نوح. هذا القبرُ السرّي كشفته غزالة كان يطاردها هارون الرشيد في إحدى رحلات صيده، ظلت ساكنة عند بقعة الأرض التي تحتضن جثمانَ الإمام علي.
     علي الذي يمتزج بحكايات الجدّات وخيالات الأطفال، علي الشجاع، الفارس، العادل، الزاهد، المظلوم، القتيل، المعصوم من الخطأ، نصف الإله، البطل الذي قذف صخرة عملاقة من الهند فسقطت في العراق، وليد الكعبة، الذي افتدى الرسول، الذي تزوج في السماء، الذي أعاد الشمس الغاربة بإشارة من يده، الذي قاتل الجن، المتعفف في الحكم، الذي لم يقاتل مغتصبي حقه في السقيفة لأنه لا يريد سفك الدماء، الذي مات فقيراً وقد حكم الأرض والسماء، علي صنعه الخيال. ليس المهم في صورته أنها تطابق الواقع أو لا، بل علاقة الناس بهذه الصورة المخيالية التي تتداولها.
     هذا التأريخ المقّدس أعطى المدينةَ هويتها الفارقة: أنها تحتضن ضريحَ الإمام علي، وأن الطوسي ـ الذي يُسمَّى شيخَ الطائفة ـ اتخذها سكنا ومقرا للدرس الديني، وأنها، الآن، العاصمة المقدّسة للعالم الشيعي.
     ولذلك، كان اللاهوت هويةَ المدينة وضميرَها.

    ( 3 )
     ولكن النجف لم تسبِّح لله وحده.
     لم تكن مدينة للطهر فقط، بل مدينة للرذيلة والخرافات والعشق والسياسة والحكايات والدهاء والشعر والتحزبات. هكذا تكتمل أسطورتها، من سفينة نوح التي رست في مسجد الكوفة إلى محراب المسجد نفسه حيث ضرب ابنُ ملجم الإمامَ علي وقتله، ومن آدم، أول الخلق، الذي يرقد إلى جانب الإمام علي إلى حصار الإنكليز، من جيوش كسرى المنهزمة إلى مشهد الجموع تفترش الأرض لتمنع الأمريكان من الوصول إلى ضريح الإمام علي، من كف العباس التي تطوف على طقوس العزاء إلى دماء مسلم بن عقيل المغدور، ومن خطى الحسين المنتَظَرة في عاصمة أبيه إلى حكايات أم البنين، من زيد بن علي المصلوب في ظاهر الكوفة إلى الحرس القومي يطارد الشيوعيين، من الكنائس التي لم تعد تُسمَع أجراسها إلى الأذان الطالع من قبّة مذهّبة، من الزهراء التي تراود النساءَ في أحلامهن إلى النضال من أجل مدرسة للبنات، من المصحف المكتوب بخط الإمام علي إلى كتب الجفر والسحر والجمّل، من أبي حنيفة الذي آوى زيدا في بيته في الكوفة ودعمه في الثورة على الأمويين إلى الحبوبي، الفقيه الثائر على الإنكليز، المدفون في باب ضريح الإمام، من قصر الإمارة إلى مدارس القرآن والفقه، من حكايات الأئمة أشباه الآلهة إلى مآثر الشقاوات والشذّاذ، من السراديب والمقابر إلى الشعراء والعبّاد والزوّار والمصلين والأولياء والشهداء.
     أية رذيلة، لا نعلمها، في المدن المقدّسة؟ (الرذيلة طبيعة الإنسان، الخطّاء حتما).
     والنجف ليست مدينةَ ملائكة، لم تسبِّح لله وحده، ولم تنم يوما على اللاهوت. كانت، كسائر مدن الأرض، تستجيب لإيقاع الزمان العجول. وكانت تصارع هويتَها اللاهوتية، حين كان التأريخُ يعصف ببنيان مؤسسة اللاهوت، وحين كان صوتُ الحداثة يُوقِظ المدينةَ، نافرة، متمردة.
     كانت تريد أن تخلع لاهوتَها، كما خلع الجواهري ـ ابنُها ـ عمامتَه.
     الفردُ، المونادا، يحمل هويةَ المدينة، والشكَّ فيها كذلك. وصورة الجواهري وهو يُلقِي عمامتَه هي استعارة للمدينة، للنجف كلها، في تلك اللحظة، حين كانت تريد أن ترتدي رداءَ العصر.

    ( 4 )   
في سنة 1991، في أوائل آذار، . . في اليوم الثالث منه على وجه التحديد، إذ كنتُ، في ذلك الوقت، بدأت أعي الأمور بشكل مختلف، وبدأت أحفظ السيَر والتواريخ. في الشارع نفسه، قُرب ضريح الإمام علي أيضا، خرج المتظاهرون، من جديد، يرفعون صور محمد باقر الصدر رمزاً للثورة، ويحرقون صور صدام حسين، ويهدمون رموزَ السلطة من مبانٍ وأشخاص. كنت معهم. بعد أن تطهّر (بهذه الكلمة المغمّسة بالسياسة والأيديولوجيا والعقيدة) الضريحُ من آخر حارس بعثي، دخلتُ إليه. كان فارغا إلا من بضعة رجال ونساء كبار في السن انقطعت بهم السبل بعد اندلاع المظاهرات. قبّلتُ شباك الضريح، كما يفعل أهلونا. ها هو الضريح تحرر.
     تحرَّرَ ضريحُ الإمام علي. تحررٌ ليس لمكان ديني مقدس فقط، بل لذاكرتنا ولأحد رموزنا الثورية، فليس المهم في علي أنه ابن عم الرسول وأحد الأئمة المعصومين، بل إنه الرمز الذي تشكّل في سرودنا وخيالاتنا، معلم الشجاعة والقيم الكبرى والعدالة والزهد السياسي. وأن تُقبّل شباكَ ضريحه في آذار 1991 يعني أنك تقوم بفعل ثوري، يعني أنك تستعيد الثورة.

    ( 5 )
     تحيا النجف على شعور بظلم تأريخي. الظلمُ هو حكاية المدينة ومرويتُها الكبرى، ظلم يتجدِّد عبر الأزمنة، تتغير الوجوه والسنوات، والظلم واحد، منذ اغتصاب حق علي في الخلافة إلى إعدام محمد باقر الصدر.
     الظلم ـ أيضا ـ هو تراجيديا الجماعة التي توحِّدها، هو الأليغوريا التي تنفخ فيها روحَ العصيان.

    ( 6 )
     لقد غيّرت الدكتاتوريةُ صراعَ المدينة من كونه صراعَ حداثة إلى أن يكون صراعا عَلى الهوية.
     هنا، قبضت مؤسسةُ اللاهوت على روح المدينة وصادرت صوتَها ونطقت باسمها.
     كان رمزا الثورة رجلي دين، محمد باقر الصدر ومحمد الصدر. غير أن ثوريتهما لم تأت من مجرد إرادتهما للثورة. ثوريتهما صنعها أنهما يعبِّران عن هوية أسيرة، هوية مدينة وشعب وتأريخ، ثوريتهما صنعها الجمهور، المطعون في هويته هذه والمحظور من القول، الجمهور الذي أعطى لهما ـ دون غيرهما ـ صوتَه، هما الخارجان من المؤسسة التي بنت وحمت هذه الهوية.
     لقد أعاد محمد باقر الصدر ومحمد الصدر صياغةَ شكل المعارضة لدكتاتورية صدام حسين بطريقة ثورية ساحرة، فيها من الجنون والنزق والقوة ما لا يليق إلا بثوار أصلاء. هكذا هي الثورة دائما، لا تتعقّل مليا ولا تفكر طويلا. كانا لاهوتَ تحرير، يمكن أن يجمع حوله ملحدين ويساريين وعلمانيين ووطنيين وليبراليين وقوميين ومتديِّنين. للحظة ما، بل في قلب اللحظة التي عشتها معهما، كنتُ أرى فيهما نسخة عراقية من (لاهوت التحرير) اللاتيني، بما أن الشرط التأريخي للثورة الآن شرط ديني. هكذا كنتُ أنظِّر.
     غير أن المسافة بين إعدام الأول (1980) واغتيال الآخر (1999) كانت بناء محكما لفكرة (الثورة الدينية)، ولاهوتُ التحرير كان يدمج معارضةَ الدكتاتورية بأيديولوجيا ثيوقراطية، والثورة كان ثمة مَن يصوغ لها ظلالا قاتمة من المعنى، تبدأ من (ولاية الفقيه) ولا تنتهي بالاستعارة التأريخية للثورة الإيرانية، لنصل ـ من ثم ـ إلى فكرة شديدة القسوة: أن بديل دكتاتورية صدام حسين هو نظام ثيوقراطي ديني.
     كان الإسلام السياسي الشيعي يتغذّى من عقدة الاضطهاد الطائفي الذي عاناه الشيعة، وكان يطلق هذه العقدةَ عبر لغة ثيوقراطية، أو بالأحرى: كان يؤسس العقدةَ الطائفية على عقيدة ثيوقراطية.
     هذا الدمج بين (العقدة الطائفية) و(الثيوقراطية) لخّصه الشعار الرئيس لثوّار آذار 1991: (ماكو ولي إلاّ علي/ نريد قائد جعفري)، الذي يعني بلغة السياسة الحديثة: دولة إسلامية بزعامة شيعية.
     ربما لم يكن الثوّار يعون (أو يقصدون) المحتوى الثيوقراطي لهذا الشعار، ولا الدمجَ السالف بين (العقدة الطائفية) و(الثيوقراطية)، أو ربما كانوا يبرّرونه ـ مثلي ـ بأنه لاهوت تحرير على غرار لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية.
     كان ثمة التباسٌ ما يحرِّك الجمهورَ المنتفِض، أدركه الآن، وأنا أكتب على بعد هذه المسافة التأريخية من انتفاضة 1991. أدرك أن الشعار الإسلامي فُرِض على ثوّار آذار 1991، و أنه جرت أسلمة قسرية للانتفاضة، وأن الثوّار اختُزِلوا إلى مجرد إسلاميين ثيوقراطيين.
     لم يكن في بال الثوّار سوى الخلاص من الدكتاتورية، ولم يكن الشعار الإسلامي مُمَفهما لديهم. كان ثمة امتزاج غامض بين (الثورة) و(الجهاد)، بين (الخلاص من الدكتاتورية) و(الانتقام لرجال الدين الذين أعدمتهم)، بين (المقاومة) و(الدفاع عن الرموز الدينية)، بين (علي الثورة) و(علي العصمة والقداسة)، . . امتزاج غامض كان يقود المدينةَ إلى ما هو أبعد من المقاومة وأكبر من الجهاد.

    ( 7 )
     بعد أسبوعين من بدء ثورة آذار، بدأ الجيشُ قصفا عشوائيا على المدينة. التجأ الآلاف من أبناء المدينة إلى ضريح الإمام علي، المكان الوحيد الذي يمكنه أن يمنحهم الأمانَ كرامةً إلهية.
     لكنه خذلهم هذه المرة.
     ثمة صراع على الرموز أكثر منه صراعا على الوقائع.
     مَن يقبض على الرمز؟
فالضريح الذي حرّره الثوّار في بدء الانتفاضة، قصفه الجيش، لا لأنه موقع عسكري، ولا لأن عددا من الثوّار ظلوا متحصنين فيه، بل لأنه أراد أن يذبح رمزَ الخلاص والاعتصام، أراد أن يذبحَ رمزَ الثورة، لتسير بعده المدينة في طريق شاق من العدمية.

( 8 )
     كنتُ أدير ظهري إلى النجف، وأفكِّر بالقبلة التي تركتُها على ضريح الإمام علي نهارَ الثورة. أي عسكري سيمحوها؟ أية صرخة ستذبحها؟ هل هزّها ارتجاجُ الضريح حين سقطت عليه القذائف؟ هل بقيت متماسكة والآلاف المحتمية بهذا المكان مذعورة مما سيفعله بهم جيشهم الوطني؟ أية قبلة سنضعها بعد الآن على ضريح علي؟ قبلة الذلّ و الرجاء من جديد؟ أية دماء ستفتدي الثورة؟
     البربرية، دائما، أكبر من (الثورة) و(الحرية) و(الخلاص). البربرية، التي صنعها مشهدُ الجيش وهو يطمر الآلاف من أبناء المدينة تحت التراب في آذار 1991، عارنا. البربريةُ عارنا جميعا: عار المجتمع الذي طلعت منه، وعار الوطن الذي أنجب هذه القسوة، وعار الإنسان الذي لم يبرأ بعدُ من وحشيته.
     هذا العار كان مصداقاً تراجيدياً لتلك الروح الثيوقراطية المفروضة على المدينة. مؤسسةُ اللاهوت سرقت أسماءَ الضحايا و ألبستهم العمامة.
      أية سياسة للضحايا هذه؟ أية سياسة للعذاب؟

    ( 9 )
     لم تعد النجف، بعد ذلك، مهيأة للثورة، التي سيتكفل بها الأغراب. كانت رموزُها الثورية تُصفّي، وهي صامتة، . . صامتة.

( 10 )
     غير أن صراعها مع هويتها اللاهوتية لا يوقفه زمان، مهما غطّى عليه شيء.
     لم يكن الصراعُ مع الدكتاتورية صراعا تأريخيا أبدا. إنها لحظة نشاز في التأريخ، زحاف فيه، ومهما استبدت وتجبّرت وطالت، فإنها ليست أكثرَ من ندبة سوداء صغيرة.
     تحدّث اثنان من أبناء المدينة عن حتمية زوال الدكتاتورية، الجواهري الذي قال: "أعمار الطغاة قصار"، ومحمد باقر الصدر الذي قال: "الجماهير أقوى من الطغاة". كان الاثنان يؤرشفان للمدينة، مبكرا، لحظةَ الدكتاتورية، العابرة، لتكون، عارية، أمام صراعها العميق: هل ستسمح للاهوت في قلبها أن يحدِّد مصيرها؟ أن يسوس عذابها؟ أم ستحدد هي مصيره؟ كما حدّدت أوربا مصيرَ اللاهوت الكاثوليكي؟ هل سيكون تأريخُها المقدّس وثقافتُها الماضية طقوسا مجردة أم هوية؟ فلكلورا أم طريقة حياة؟ . . .
     لا تزال النهاية مفتوحة، ووجه المدينة لم يكتمل بعد، لأن هذه اللحظة لا يمكن أن تكون النهاية، ولا أية لحظة يمكنها أن تكثّف التأريخ فيها أو أن تقبض عليه.
     ليس هناك جوهري وثابت في حياة المدن.
     أعلم أن الذات الكاتبة تكتب هذه الكلمات بوعيها هي، بأوهامها ورغباتها، فهل أملك حقَّ أن أحدِّد ما هو وهمي وما هو واقعي؟ مَن الذي يحدِّد للمدينة غاياتها التي تسير إليها؟ وعن أي وجه للمدينة أتحدث؟
     يختتم بورخس كتابَه (الصانع) بالفقرة الآتية:
     "يوكل رجل لنفسه مهمةَ رسم العالم. وخلال السنين يعمر الفضاءَ بصورة الأقاليم والممالك والجبال والبحار والسفن والجزر والأسماك والغرف والأدوات والنجوم والخيول والناس. وقبل موته بقليل، يكتشف أن ما ترسمه تلك المتاهة الطويلة من خطوط هي صورة وجهه".
     أنا الذي أتحدّث الآن.
 
                 عن النجف ولاهوتها وأحلامها مرة أخرى
                (1)
لقد غيّرت الدكتاتوريةُ صراعَ المدينة من كونه صراعَ حداثة إلى أن يكون صراعا عَلى الهوية.
هنا، قبضت مؤسسةُ اللاهوت على روح المدينة وصادرت صوتَها ونطقت باسمها.
كان رمزا الثورة رجلي دين، محمد باقر الصدر ومحمد الصدر. غير أن ثوريتهما لم تأت من مجرد إرادتهما للثورة. ثوريتهما صنعها أنهما يعبِّران عن هوية أسيرة، هوية مدينة وشعب وتأريخ، ثوريتهما صنعها الجمهور، المطعون في هويته هذه والمحظور من القول، الجمهور الذي أعطى لهما ـ دون غيرهما ـ صوتَه، هما الخارجان من المؤسسة التي بنت وحمت هذه الهوية.
لقد أعاد محمد باقر الصدر ومحمد الصدر صياغةَ شكل المعارضة لدكتاتورية صدام حسين بطريقة ثورية ساحرة، فيها من الجنون والنزق والقوة ما لا يليق إلا بثوار أصلاء. هكذا هي الثورة دائما، لا تتعقّل مليا ولا تفكر طويلا. كانا لاهوتَ تحرير، يمكن أن يجمع حوله ملحدين ويساريين وعلمانيين ووطنيين وليبراليين وقوميين ومتديِّنين. للحظة ما، بل في قلب اللحظة التي عشتها معهما، كنتُ أرى فيهما نسخة عراقية من (لاهوت التحرير) اللاتيني، بما أن الشرط التأريخي للثورة الآن شرط ديني. هكذا كنتُ أنظِّر.
غير أن المسافة بين إعدام الأول (1980) واغتيال الآخر (1999) كانت بناء محكما لفكرة (الثورة الدينية)، ولاهوتُ التحرير كان يدمج معارضةَ الدكتاتورية بأيديولوجيا ثيوقراطية، والثورة كان ثمة مَن يصوغ لها ظلالا قاتمة من المعنى، تبدأ من (ولاية الفقيه) ولا تنتهي بالاستعارة التأريخية للثورة الإيرانية، لنصل ـ من ثم ـ إلى فكرة شديدة القسوة: أن بديل دكتاتورية صدام حسين هو نظام ثيوقراطي ديني.
كان الإسلام السياسي الشيعي يتغذّى من عقدة الاضطهاد الطائفي الذي عاناه الشيعة، وكان يطلق هذه العقدةَ عبر لغة ثيوقراطية، أو بالأحرى: كان يؤسس العقدةَ الطائفية على عقيدة ثيوقراطية.
هذا الدمج بين (العقدة الطائفية) و(الثيوقراطية) لخّصه الشعار الرئيس لثوّار آذار 1991: (ماكو ولي إلاّ علي/ نريد قائد جعفري)، الذي يعني بلغة السياسة الحديثة: دولة إسلامية بزعامة شيعية.
ربما لم يكن الثوّار يعون (أو يقصدون) المحتوى الثيوقراطي لهذا الشعار، ولا الدمجَ السالف بين (العقدة الطائفية) و(الثيوقراطية)، أو ربما كانوا يبرّرونه ـ مثلي ـ بأنه لاهوت تحرير على غرار لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية.
كان ثمة التباسٌ ما يحرِّك الجمهورَ المنتفِض، أدركه الآن، وأنا أكتب على بعد هذه المسافة التأريخية من انتفاضة 1991. أدرك أن الشعار الإسلامي فُرِض على ثوّار آذار 1991، و أنه جرت أسلمة قسرية للانتفاضة، وأن الثوّار اختُزِلوا إلى مجرد إسلاميين ثيوقراطيين.
لم يكن في بال الثوّار سوى الخلاص من الدكتاتورية، ولم يكن الشعار الإسلامي مُمَفهما لديهم. كان ثمة امتزاج غامض بين (الثورة) و(الجهاد)، بين (الخلاص من الدكتاتورية) و(الانتقام لرجال الدين الذين أعدمتهم)، بين (المقاومة) و(الدفاع عن الرموز الدينية)، بين (علي الثورة) و(علي العصمة والقداسة)، . . امتزاج غامض كان يقود المدينةَ إلى ما هو أبعد من المقاومة وأكبر من الجهاد.

( 2 )
بعد أسبوعين من بدء ثورة آذار، بدأ الجيشُ قصفا عشوائيا على المدينة. التجأ الآلاف من أبناء المدينة إلى ضريح الإمام علي، المكان الوحيد الذي يمكنه أن يمنحهم الأمانَ كرامةً إلهية.
لكنه خذلهم هذه المرة.
ثمة صراع على الرموز أكثر منه صراعا على الوقائع.
مَن يقبض على الرمز؟
فالضريح الذي حرّره الثوّار في بدء الانتفاضة، قصفه الجيش، لا لأنه موقع عسكري، ولا لأن عددا من الثوّار ظلوا متحصنين فيه، بل لأنه أراد أن يذبح رمزَ الخلاص والاعتصام، أراد أن يذبحَ رمزَ الثورة، لتسير بعده المدينة في طريق شاق من العدمية.

( 3)
كنتُ أدير ظهري إلى النجف، وأفكِّر بالقبلة التي تركتُها على ضريح الإمام علي نهارَ الثورة. أي عسكري سيمحوها؟ أية صرخة ستذبحها؟ هل هزّها ارتجاجُ الضريح حين سقطت عليه القذائف؟ هل بقيت متماسكة والآلاف المحتمية بهذا المكان مذعورة مما سيفعله بهم جيشهم الوطني؟ أية قبلة سنضعها بعد الآن على ضريح علي؟ قبلة الذلّ و الرجاء من جديد؟ أية دماء ستفتدي الثورة؟
البربرية، دائما، أكبر من (الثورة) و(الحرية) و(الخلاص). البربرية، التي صنعها مشهدُ الجيش وهو يطمر الآلاف من أبناء المدينة تحت التراب في آذار 1991، عارنا. البربريةُ عارنا جميعا: عار المجتمع الذي طلعت منه، وعار الوطن الذي أنجب هذه القسوة، وعار الإنسان الذي لم يبرأ بعدُ من وحشيته.
هذا العار كان مصداقاً تراجيدياً لتلك الروح الثيوقراطية المفروضة على المدينة. مؤسسةُ اللاهوت سرقت أسماءَ الضحايا و ألبستهم العمامة.
أية سياسة للضحايا هذه؟ أية سياسة للعذاب؟

( 4)
لم تعد النجف، بعد ذلك، مهيأة للثورة، التي سيتكفل بها الأغراب. كانت رموزُها الثورية تُصفّي، وهي صامتة، . . صامتة.

( 5 )
غير أن صراعها مع هويتها اللاهوتية لا يوقفه زمان، مهما غطّى عليه شيء.
لم يكن الصراعُ مع الدكتاتورية صراعا تأريخيا أبدا. إنها لحظة نشاز في التأريخ، زحاف فيه، ومهما استبدت وتجبّرت وطالت، فإنها ليست أكثرَ من ندبة سوداء صغيرة.
تحدّث اثنان من أبناء المدينة عن حتمية زوال الدكتاتورية، الجواهري الذي قال: "أعمار الطغاة قصار"، ومحمد باقر الصدر الذي قال: "الجماهير أقوى من الطغاة". كان الاثنان يؤرشفان للمدينة، مبكرا، لحظةَ الدكتاتورية، العابرة، لتكون، عارية، أمام صراعها العميق: هل ستسمح للاهوت في قلبها أن يحدِّد مصيرها؟ أن يسوس عذابها؟ أم ستحدد هي مصيره؟ كما حدّدت أوربا مصيرَ اللاهوت الكاثوليكي؟ هل سيكون تأريخُها المقدّس وثقافتُها الماضية طقوسا مجردة أم هوية؟ فلكلورا أم طريقة حياة؟ . . .
لا تزال النهاية مفتوحة، ووجه المدينة لم يكتمل بعد، لأن هذه اللحظة لا يمكن أن تكون النهاية، ولا أية لحظة يمكنها أن تكثّف التأريخ فيها أو أن تقبض عليه.
ليس هناك جوهري وثابت في حياة المدن. أعلم أن الذات الكاتبة تكتب هذه الكلمات بوعيها هي، بأوهامها ورغباتها، فهل أملك حقَّ أن أحدِّد ما هو وهمي وما هو واقعي؟ مَن الذي يحدِّد للمدينة غاياتها التي تسير إليها؟ وعن أي وجه للمدينة أتحدث؟
يختتم بورخس كتابَه (الصانع) بالفقرة الآتية:
"يوكل رجل لنفسه مهمةَ رسم العالم. وخلال السنين يعمر الفضاءَ بصورة الأقاليم والممالك والجبال والبحار والسفن والجزر والأسماك والغرف والأدوات والنجوم والخيول والناس. وقبل موته بقليل، يكتشف أن ما ترسمه تلك المتاهة الطويلة من خطوط هي صورة وجهه".
أنا الذي أتحدّث الآن.

رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  د. حيدر سعيد


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni