... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  في السياسة

   
مأزق النظام السياسي

د. يحيى الكبيسي

تاريخ النشر       22/08/2010 06:00 AM


كشفت مفاوضات تشكيل الحكومة، على الرغم من دورانها في حلقات مفرغة عديدة، عن حقيقة وحيدة يمكن التعاطي معها بوصفها أفقا لواقعية سياسية ظلت مفتقدة في المشهد السياسي العراقي حتى اللحظة، ألا وهي الاتفاق الضمني بين الجميع على أن النظام السياسي، او نظام الحكم الذي أنتجه دستور العام 2005 لم يعد قابلا للاستمرار، وانه لا بد من إيجاد صيغة جديدة.

صحيح أن البعض ما زال يصر على أن هذا الدستور خط أحمر، وأنه لا يجور المساس به، بل قد يصل الأمر إلى المطالبة الصريحة بضرورة الالتزام بإحكامه. إلا أن بعض هذا البعض قبل بالتفاوض على بعض هذه الأحكام، كما طالب البعض الآخر في الوقت نفسه بمطالب تضرب النظام السياسي الذي افترضه الدستور نفسه.

بعد إعلان نتائج الانتخابات مباشرة، برز الخلاف بين العراقية من جهة ودولة القانون والائتلاف الوطني من جهة أخرى على تفسير المادة 76 من الدستور، وعلى الرغم من التفسير الذي قدمته المحكمة الاتحادية قبيل يوم واحد من إعلان النتائج النهائية! إلا أن العراقية رفضت، وما زالت ترفض القبول بهذا التفسير. ولا يقتصر هذا الأمر على العراقية، فالكتل البرلمانية التي تتشكل من هذه الكتل السياسية نفسها فضلا عن التحالف الكردستاني، سبق لها أن تجاهلت حكما آخر للمحكمة الاتحادية بشأن الكوتا النسوية في مجالس المحافظات. وهذا يعني أن الكتل السياسية تتعامل مع الدستور من دون أية مرجعية، وأن الاتفاق السياسي أحيانا، واحتكار السلطة أحيانا أخرى، أطاح ويطيح بالكثير من الأحكام الدستورية الصريحة وغير القابلة للتأويل.

ثم جاء إعلان التحالف الوطني، الذي استند ضمنيا إلى القبول باشتراطات الائتلاف الوطني الخاصة بصلاحيات رئيس الوزراء، وتحديدا تلك المتعلقة بمرجعية الكتلة وليس بمرجعية رئيس الوزراء المعين فيما يتعلق بالقرارات الوزارية. وهو مطلب يمس جوهر نظام الحكم الذي أقره الدستور، فهو يسحب الصلاحيات التي منحها الدستور لمجلس الوزراء حصرا، ويمنحها لكتلة سياسية محددة.

ثم كنا أمام مفاوضات ماراثونية بين العراقية ودولة القانون، كان جوهرها الأساس محاولة تقاسم السلطة بين الطرفين من خلال منح أحدهما منصب رئاسة الوزراء، ومنح الثاني منصب رئاسة المجلس السياسي للأمن الوطني، الذي تحول، من دون أن نعرف كيف، إلى المجلس الوطني للسياسات الإستراتيجية، مع منح المنصب الأخير بعض الصلاحيات. أي أن الكتلتين كانتا تتباحثان، وتحاولان تقسيم الصلاحيات بعيدا عن أية مرجعية دستورية! فهذا المجلس، بتسميته القديمة والحديثة، لا يستند إلى أي إطار دستوري أو قانوني. بل وصل الأمر إلى الحديث عن قانون خاص بهذا المجلس يمرر في البرلمان، ومن ثم نكون أمام منصب رئاسي رابع يضاف إلى الرئاسات الثلاثة التي تحدث عنها الدستور!

وفي هذه المعمعة ازدادت لائحة مطالب قدمها التحالف الكردستاني، تتضمن إعادة صياغة للنظام السياسي الذي حدده الدستور. فاللائحة المكونة من تسعة عشر مطلبا، والتي تبدأ بالمطالبة بالالتزام بالدستور وبنوده كافة ومن دون انتقائية، تتضمن مطالب تناقض هذا المطلب بالكامل. فهي تتحدث عن مجلس امن وطني "يشارك في القرار"، وعن "توازن" في كل مؤسسات الدولة، وعن تمويل "البيشمركة" بوصفهم جزءا من منظومة الدفاع الوطني، وعن أن الحكومة تعد مستقيلة في حالة انسحاب الطرف الكردستاني منها.

وهذه المطالب الأربعة تناقض تماما مواد دستورية صريحة، كما تتضمن اشتراطات لم يقل بها الدستور. فالحديث عن مجلس امن وطني يشارك في اتخاذ القرار صيغة لا تحتاج فقط إلى قانون وإنما إلى تعديل دستوري، والحديث عن التوازن لم يرد في الدستور إلا في المادة المتعلقة بالقوات المسلحة (المادة 9/أولا)، أما الحديث عن البيشمركة فينتهك أحكام المادتين 9 و 121 من الدستور ويستند المطلب الأخير إلى النموذج اللبناني، لكن مطلب التحالف الكردستاني يتجاوز هذا النموذج إلى الحديث عن إسقاط الحكومة نفسها مع أي فيتو!

لقد اعتمد النظام السياسي الذي أنتجه الأميركيون في العراق بعد نيسان 2003 فكرة أن العراق بلد تعددي لا بد أن يحكم من خلال الشراكة، تحديدا بين المكونات الرئيسية الثلاثة: الشيعة والسنة والأكراد، وقد تم تكريس هذا النموذج الذي يطلق عليه في العلوم السياسية "الديمقراطية التوافقية"، من خلال الممارسة السياسية (الحكم من خلال ائتلاف واسع يضم القطاعات الهامة في المجتمع التعددي، والتمثيل النسبي في التعيينات في مجالات الخدمة المدنية). ومن خلال قانون إدارة الدولة الذي منح في (المادة 142/ رابعا)، للأقليات المفترضة، حق الفيتو في رفض الدستور، في بند حق رفض ثلثي ثلاث محافظات أو أكثر، وأيضا من خلال المادة (36/ ج) التي نصت على أن قرارات مجلس الرئاسة تتخذ بالإجماع، وحيث إن المجلس يشمل المكونات الرئيسة الثلاثة، فكل ذلك يعني ان القرارات تتم عبر الفيتو المتبادل.

وقد تم الالتزام بهذا النموذج في مرحلة الحكومة الانتقالية والجمعية الوطنية، ولكن عملية كتابة الدستور شهدت محاولات منهجية لرفض هذا النموذج، وأصبحنا بازاء نظام سياسي برلماني يقوم بالكامل على مبدأ "الأكثرية". من خلال اتخاذ القرارات بالأغلبية البسيطة في مجلس النواب، وإغفال الفيتو المتبادل بعد الدورة الأولى الخاصة بمجلس الرئاسة، وكذلك إغفال الإشارة إلى قضية التمثيل النسبي في التعيينات في الإدارة المدنية العامة. أما بالنسبة للخصيصة الرابعة للديمقراطية التوافقية والمتعلقة بالإدارة الذاتية، فهي متحققة في ما يخص إقليم كردستان حصرا، الأمر الذي يجعلنا بشكل واضح بعيدين تماما عن فكرة الإدارة الذاتية للمكونات. بمعنى آخر فقد تمت الإطاحة بالكامل بنموذج الديمقراطية التوافقية في نص الدستور العراقي.

وما شهدناه من ممارسات سياسية طوال السنوات الأربعة الماضية، كانت محض ممارسات براغماتية، لا تستند إلى أي إطار دستوري أو قانوني، كما أنها لم تتحول إلى أعراف غير مكتوبة، أو قواعد متفق عليها بدليل هذه التصريحات المتكررة عن رفضها، ومن أعلى المستويات.

واليوم، نشهد اعترافا ضمنيا، ومن جميع الأطراف، بأن النموذج الذي أنتجه دستور 2005 قد انتهى إلى مأزق حقيقي، وإنه غير قابل للاستمرار.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  د. يحيى الكبيسي


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni