... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  في السياسة

   
سيزيف في بغداد

عبد الكريم العبيدي

تاريخ النشر       11/09/2010 06:00 AM


 العيد: جرعة فرح للعراقيين. أو مضة مسرة عابرة. أو مصافحة (حذرة) مع أطراف أصابع السلام.
لكنه بصمة اصرار عجيبة على البقاء والتواصل، التواصل وليس التحدي، الدفاع وليس الهجوم، البقاء وليس التنازل، العراقيون يتشبثون بالبقاء، وهذا البقاء العنيد صنع لهم انتظارا عنيد أيضا. انهم ينتظرون، يحيون داخل انتظارهم، ويتواصلون به، ويحلمون به.. لا شيء داخل المرئي أو اللا مرئي، المتصور أو المحسوس سوى شحنة الانتظار.
في ليلة العيد يحزن الآباء والأمهات فقط. يستذكرون (أوجاع) طقوس ليلة العيد القديمة. ليلتهم الغاربة، ليلتهم وحدهم. (احاطة صينية الكليجة والمشاركة في صنعها، الذهاب مع أمهاتهم وشقيقاتهم وهن يحملن الصواني الى الفرن اليدوي، تقليب بدلات العيد ووضعها أسفل وسائدهم، السهر وتنظيف صالة الاستقبال والحلم والفرح الذي لا يسع صدورهم، "الاستحمام المميز" ومشاهدة أغاني وأفلام التلفزيون "بالأسود والأبيض"، واطلالة ناظم الغزالي السنوية: "أي شيء في العيد أهدي اليك...".
لا أحد من أبنائهم يشاركهم اعادة هذا الحزن ومضغ أوجاعه. فالأبناء لم يألفوه، لم يعرفوا صينية الكليجه وانتظار العائلات قبالة نار الفرن واطلالة "أي شيء في العيد أهدي اليك".
في صبيحة أول أيام العيد يحزن الآباء والأمهات أيضا. يحزنوا وحدهم فقط، يستذكروا طقوس صبيحة ذلك العيد "القديم"، فرح غامر داخل واحة الأمان، مسرة بلا خوف ولا رعب، صخب جميل بلا مفخخات ولا أحزمة ناسفة، عيد، عيد حقيقي، يرفل بالبهجة والفرح، ويبدأ ب "ريوك عراقي مميز" بعيد صلاة العيد، وبعد شهر من الصوم" كيمر وعسل وخبز حار وشاي عراقي منعنع"، ثم تنهمر طقوس العيد: تزاور سريع، نبذ الخلافات، الطرق المكرر على الأبواب، لن يبقى باب موصد، أصم. ساكن، كل الأبواب مشرعة، والكبار والصغار، الرجال والنساء يقبل بعضهم بعضا، يتعانقون ويتصافحون ويتجددون. وداخل كل هذه المسرات يرتدي الصغار، الآباب والأمهات اليوم "ملابس العيد". لأول مرة تلامس أصابعهم ثيابا جديدة!. ولأول مرة تمتلئ أكفهم بالقطع النقدية المعدنية، "العيدية"، ولأول مرة يشاهدون "المسحرجي" في النهار، المخلوق الليلي الذي طالما أيقضهم وشاهدوه من خلف زجاج النوافذ خلسة، بينما الآن يحيطون به، ويطوفون معه حول البيوت لاستلام الهدايا، "كليجه وجكليت وحامض حلو".
الأباء يستذكرون طفولتهم وحدهم. الذهاب في صبيحة أول أيام العيد الى دور السينما، أمكنة الخيال والدهشة، الصور العجائبية الملونة التي طالما شاهدوها على مقاعد "أبو 40 فلس" الخشبية ووسط الظلام.
لا أحد من الأبناء يشارك الآباء (أحزان العيد)، مباهج الفرح والأمان والمسرات القديمة، فالتزاور الذي يكاد ينقرض صار "مسجات تهاني" عبر أجهزة الموبايل، منذ نشوب موجة القتل على الهوية وتصاعد أعمال العنف وجرائم الارهابيين. والأبواب ظلت شبه موصدة منذ موجة الهجرة والتهجير القسري التي اندلعت بعيد التفجير الارهابي الذي طال مرقدي الامامين في سامراء قبل ما يقرب من خمسة أعوام، "والمسحرجي"، المخلوق الليلي الذي ترك مهنته منذ حظر التجوال الليلي والمخاوف والمفاجآت التي تعترضه أستعيض عنه بتوقيت جهاز الموبايل أو الساعة المنضدية، أما دور السينما العامرة فلا أحد من الجيل الجديد يكاد يعرفها لأنها تحولت الى أماكن موبوءة منذ ثمانينيات القرن الماضي، ثم استهدفتها الجماعات والميليشيات المسلحة بعد التاسع من نيسان عام 2003 فأغلقت الى الأبد!.
الآن يجلس الآباء والأمهات داخل بيوتهم في نهارات وليالي العيد خلف الأبواب الموصدة، يتبادلون التهاني "موبايليا"، بينما يشتري الأبناء بمبالغ عيدياتهم القاذفات والمسدسات والبنادق ليمارسوا ألعاب العنف ويتراشقوا فيما بينهم "بالصجم" في ألعاب: الشرطة والارهابيين، أو "مافيا 2"، أو حرب الشوارع!.
حقا، جفت نهارات الأعياد وماتت لياليها، ولكن يبقى اصرار العراقيين على التماهي مع الانتظارهو العجب العجاب، وهو خيارهم الوحيد داهل دوامة الانفجارات والاغتيالات. انتظار منزوع الأمل، يصطدم بالعدم ولا يتوقف أو يفقد معنى اللا معنى!، "تعال يا سارتر وشوف شنو اللي يحصل بالعراق"، فهنا، في بلدي الجميل ينتظر أكثر من ثلاثين سيزيف عراقي، ينتظرون من أجل البقاء، البقاء فقط منذ عقود!.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  عبد الكريم العبيدي


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni