... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  في السياسة

   
لا نقوى على شتم جرافة؟

طالب عبد العزيز

تاريخ النشر       31/10/2010 06:00 AM


نقرأ في الحديث الشريف عن أسباب قيام الساعة، سببا اضافيا عما هو مألوف، حيث يقول في الأثر: ".. وإذا سادتِ الأمةُ ربَّتها". بمعنى إذا تولى الأمرَ أناس ليسوا من أهله، وهذا ما يحدث في مدننا العراقية اليوم، وما تعاني منه مدينة البصرة بشكل خاص.

ولمن يتجول في البلدات الجنوبية للبصرة، وفي أبي الخصيب على وجه الخصوص يجد العجب العجاب، فقد عملت الجرافات والشفلات، بالنخل والأنهار ما لم تعمله آلة حرب صدام حسين مجتمعة، حين اتخذ من المدينة حامية لعسكره، وما طريق التعاون الذي شقه بين النخل، بمسافة 120 كلم، من قرية البراضعية نازلا حتى رأس البيشة بالفاو ببعيد عنا، نحن جيل الحرب.

ولا مقارنة بين نظامين هنا، لكن، ليكن الوصف مرعبا، لأن الجرح عميق، وقد صمت غير واحد من أعضاء مجلس محافظتنا، رغم وقوف كثير من أبناء المدينة أمام مكاتبهم صارخين يائسين، لكن لا حياة لمن تنادي أيها الخصيبي. وكان أقصى ما سمعناه من مجلسنا انه أصدر تشريعا يمنع تفتيت البساتين، لكأنهم يعتقدون بأن التشريع في عراقنا اليوم كاف لفعل ما! وكم من القوانين ديس عليها أمام القضاة وأصحاب الرأي، في زمن تفاخر فيه حملة البنادق والمسدسات، على كل ما هو شرعي وإنساني. لكنْ من لا يؤلمه مشهد نخلة تسقط، من لا يوجعه قلبه لمشهد نهر يردم، فلا يخرج من مكتبه شاهرا سيفه انتصارا لتشريعه؟

لا أبالي إذا كررت مقولة إدغار آلان بو "سأبكي المجد الذي كان يوما روما، العظمة التي كانت أثينا". المجد والعظمة هنا بغداد والبصرة وأبي الخصيب، وكل مدينة عراقية مهضومة.

في سجلات الطابو لدينا مئات وآلاف الأسماء لقرى وبساتين وانهار وشخصيات، هي دهر من المعاني وزمن من اللطف والظلال والنعيم، روح كانت تهدر بالجمال والعذوبة، لكن لا يسمعها احد اليوم، وقد أتت عليها بيوت الأسمنت القبيحة والمحال التجارية ودكاكين تصليح السيارات، وخربها الذين لم يغرسوا نخلة في حياتهم.

لم يفتحوا نهرا وسط السباخ ليرتوي فسيل صغير هناك، بل أتت الجرافات على غابة النخل كلها، أحرقتها وسجت الجذوع هامدة على الطرقات. ها هي المدينة تصرخ بأعلى الصوت، لكن مجلس محافظتنا لا مجلس له، ولا صدى لكلمات على الماء.

مستخدم الطريق إلى ابي الخصيب اليوم يشعر بغياب كامل للسلطات هناك، ولا يعدم أيُّ داخل لقرية من قراه التي تتجاوز المائة، رؤية الجرّافين والردّامين والمحطمين من الملثمين وغير الملثمين وهم يسقطون النخيل ويقشطون البساتين ومن ثم البنائين وهم يشيدون المنازل وسط ما تبقى من ذكرى الظلال الخضر، وإن سألت عن المشترين الجدد من محدثي النعمة، فيا ويلك، لأن عصابات منظمة تفعل بك ما تشاء. هي عصابات جل أفرادها من غير أهل البلدة، وأهل أبي الخصيب خائفون مرعوبون، اذ لا أحد منهم في مجلس المحافظة، ولا احد صار محافظا او قائد شرطة او ضابطا كبيرا في الجيش. هؤلاء الفقراء ذوو الأنساب الموغلة في النخل والماء، ليس فيهم من يقوى على شتم جرافة حتى.

تعود معظم بساتين النخيل في أبي الخصيب لمالكين من أسر معروفة، توارثوها عن آبائهم، وهناك أملاك كثيرة تعود لملاكين غادروا العراق عبر الزمان المتغير دائما، بفعل الانقلابات والثورات والحكومات الجائرة، وسكنوا وهاد وفيافي الأرض، لكن أملاكهم ظلت بيد الفلاحين والمزارعين، من الفقراء الذين لم يجدوا قوت يومهم، ولما طحنتهم السنوات برحاها الكبيرة اشتغلوا بالبلدية وشركة الموانئ كناسين وزبالين وحدقجيه، وتركوا بساتينهم بسبب غياب أسيادهم، ولأن الدولة منشغلة دائما، وسجلات دائرة الطابو مهجورة بيد موظفين مسحوقين أساسا، فقد تسرب للدوائر أصحاب الحيل والنصب من مزيفي السجلات. فبيعت الكثير من البساتين والأوقاف والسبلان (مفردها سبيل) وهي الأرض التي يوقف ثمرها صاحبها –على حياته- للفقراء والمساكين، واشتراها هؤلاء، فتحولت بيدهم إلى (ملك صرف) ثم باعوها للأغيار وقساة القلوب من الذين دخلوا المدينة عبر ثلم في تأريخها، وها هي تباع وتشترى إلى اليوم.

قد يقول قائل: ما المشكلة في هذا، فالعالم متغير وهناك غابات كبيرة في العالم تتحول إلى مدن وضواحي، لكن اتركوني أسجل هذا الوصف. فقد أحصى المؤرخون أنهار البصرة فقالوا 600 ، عدا 1000 قناة تفرعت في الأرض، وفي فتوح البلدان يتحدث البلاذري عن 120 ألف نهر، وحتى منتصف القرن الماضي تتحدث الإحصائيات الرسمية عن 150 ألف جريب نخل مثمر في البصرة (الجريب = 3967 متر مربع)، وحتى السبعينات كان هناك 200 مكبس للتمر، وكانت أول باخرة تخرج من فم شط العرب باتجاه أسواق الولايات المتحدة وبريطانيا قادمة من أبي الخصيب. كان العالم لا يعرف من النخل والتمر غير القادم من البصرة.

أتعلمون من أين جاءت تسمية العراق بأرض السواد؟ لأنها غابة النخل. أتعلمون من هي البصرة؟ فأقول أبو الخصيب. أتعلمون من هي أبي الخصيب، فأقول هي جيكور، أشهر قرية عربية على الإطلاق. والعربي ليتصفح مدونات التأريخ الحديثة فلا يجد فيه قرينة لها. أتعلمون من هي جيكور؟ نعم لأن بويب أشهر نهر عربي رسمته الخرائط. أتعلمون من هو الكاتب العربي الأكبر فأقول: أبو بحر عثمان الجاحظ سيد الوراقين وإمام الكتبة، صياد السمك في سيحان. أتعلمون من هو الشاعر في العربية كلها، فأقول هو بدر شاكر السياب. هل أضيف؟ لماذا لم تقم الساعة اذن وقد "سادت الأمة ربتها"؟


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  طالب عبد العزيز


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni