... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  في السياسة

   
كنيسة النجاة وما وراءها

د. جابر حبيب جابر

تاريخ النشر       07/11/2010 06:00 AM


يأتي العمل الإرهابي الذي استهدف مواطنين مسيحيين في كنيسة النجاة ليستكمل جهدا منتظما للقضاء على الأقليات الدينية غير المسلمة في العراق، ولوضع حد للوجود المسيحي في هذا البلد وفي الشرق الأوسط عموما. بالطبع، هذه الأحداث تجري في الوقت ذاته الذي يشهد فيه الصراع المذهبي والأحقاد بين الفرق الإسلامية المختلفة صعودا دمويا لافتا، وبشكل يعكس مزاجا عاما من التعصب وعدم التسامح. وفي الوقت نفسه، تغرقنا وكالات الأنباء بالأخبار يوميا عن طرود ملغمة، وطائرات تغير خطوط سيرها، وانفجارات محتملة، وتهديدات وشيكة، وكلها مذيَّلة بتوقيع الأصوليين الإسلاميين و«القاعدة». يبدو الأمر كأنه محاولة يشارك فيها أكثر من طرف، بهدف تكريس عدم التسامح في هذه المجتمعات، وتحوير الإشكاليات الاجتماعية والسياسية وتسطيحها لتغدو مجرد إشكاليات تتعلق بنزاعات دينية قديمة تمتد لقرون بعيدة، واستغلال جروح الدول الهشة كالعراق ولبنان لإطلاق دورات عنف هائلة في وسط الفوضى العامة وبشكل تذهب فيه دماء الضحايا بلا حساب.
ليس المسيحيون الأقلية الدينية الوحيدة التي استهدفت في العراق، فقد تم استهداف الصابئة والإيزيديين في أكثر من مناسبة، وتاريخ العراق الحديث حافل باستهدافات من هذا النوع ضد جماعات دينية أو قومية أقلوية، سواء من قبل السلطة أو من قبل «الغوغاء»، فمذابح الآشوريين عام 1936 كانت أول استعراض للروح العسكرتارية للطبقة السياسية العراقية، أما الهجوم على المجتمع اليهودي العراقي بداية الأربعينات من قبل الغوغاء والتيارات التي استهواها التفسير النازي للقومية والتصنيف العنصري للشعوب، فكان بداية إفراغ العراق من يهوده، وفي الثمانينات كانت محنة الكرد الفيلية من خلال تسفيرهم الجماعي من قبل نظام صدام بعد إسقاط الجنسية عنهم ومصادرة أموالهم...
في كل هذه الممارسات دائما كانت الأزمة السياسية أو معضلة العلاقة بين الدولة والمجتمع تنتج أكباش فداء، عبر محاولة لاختلاق عدو داخلي يقدم على أنه يشكل خطرا كبيرا على «الأمة ووجودها» وطابورا خامسا، ويتم الاستئساد عليه والفتك به بلا شفقة لجعله «عبرة»، وللتنفيس عن أزمات وعقد متراكمة مرفقة بالعجز عن الانتصار في المعارك الحقيقية. ما أسهل الفتك بأقلية لا تمتلك القدرة على الدفاع عن نفسها من أجل أن تشعر هذه العصابات بقدر من «الرجولة» والاستزلام وهي تجتر وضعها الهامشي وفقدانها للجدوى والهدف!
الخطر اليوم أن هذه العصابات تكتسب صفة عابرة للدولة وتحمل مشروعا تدميريا هدفه ليس فقط تكريس سيطرتها الدموية، بل وأيضا ترسيخ صورة التعصب وعدم التسامح التي باتت في نظر البعض سمة لمجتمعاتنا. الجماعة التي هاجمت كنيسة النجاة في الكرادة وضعت بين مطالبها «إطلاق» سراح امرأتين مصريتين تقول «القاعدة» إنهما اعتنقتا الإسلام ومحتجزتان من قبل المجتمع القبطي. ما علاقة المسيحيين البغداديين بهذا المطلب، وبأي منطق يذهب هؤلاء الأبرياء ضحية لعدم تنفيذ هذا المطلب؟! إنها محاولة لجعل الهوية الدينية للفرد مساوية لوجوده، وإعادة إنتاج لفكرة الحروب الدينية، حيث يفرض على الإنسان هوية جمعية معينة ويحاسب على انتمائه إليها دون أن يترك لديه أي خيار. إن هذه هي الخطوة الجذرية باتجاه ما تسعى إليه كل الجماعات المتطرفة، أي تقوية الخطوط الفاصلة بين الجماعات والقضاء على أي مساحة رمادية، ورفض أي تعددية في هوية الفرد، لأن تلك التعددية وحدها هي التي تضعف المشروع المتطرف. محاولة تحويل مسيحيي العراق والشرق إلى مجرد «مسيحيين»، وتجرديهم من عراقيتهم وإنسانيتهم ومحليتهم، بل قتلهم في عقر دارهم من مجموعة يؤلف غير العراقيين معظم أفرادها، إنما يعكس هذا الميل لحذف كل الهويات الأخرى، القومية والوطنية والمكانية والوظيفية، لإبقاء هوية واحدة طاغية: الهوية الدينية، وبالتالي تحويل الكون كله إلى حقول لأديان متصارعة.
ذلك ما يريده المتطرفون الإسلاميون، فميل «القاعدة» وأشباهها إلى محاسبة الإنسان على هويته الدينية وإلى عدم الاعتراف بأي هوية أخرى، يلتقي مع ميل اليمين المسيحي المتطرف والجماعات اليهودية المتطرفة إلى تغليب صورة العالم الإسلامي كأرض يهيمن عليها التطرف وعدم التسامح، وبالتالي تقوية الحواجز الآخذة بالتزايد يوميا بين العالم «الحر» والعالم الإسلامي، بل وتبرير أي أعمال هجومية قد تتخذ تحت مظلة محاربة الإرهاب.
حادث كنيسة النجاة ليس مجرد مأساة بغدادية أخرى تطوى مع غيرها، لكنها جرس إنذار لننتبه إلى ما يحاك في المنطقة، فإفراغ العراق من مسيحييه يعني تحويله إلى عراق آخر بهوية دينية واحدة ولكن بقدر كبير من التعصب والجاهزية لمزيد من الدم.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  د. جابر حبيب جابر


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni