... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  في السياسة

   
العراق : اللاتسامح الديني

فالح عبد الجبار

تاريخ النشر       11/12/2010 06:00 AM


مدينة عين كاوه (أو عنكاوة)، البهيجة الضاجة بالحياة، في العادة، والمزدانة بأضوية النيون الملونة لمطاعم وبوتيكات أنيقة، تبدو اليوم كئيبة، مجللة بالحزن.

فهذه البلدة التي تقع في سهل أربيل على مبعدة 15 كيلومترا شمال شرق عاصمة اقليم كوردستان: اربيل (هه ولير)، هي أكبر موئل لمسيحيي العراق، من بعد بغداد (حيث 7% من السكان مسيحيين)، وهي اليوم تستقبل العوائل المسيحية النازحة من العاصمة، كما تشيع ضحايا القتل العشوائي على الهوية.

ثمة توتر وغضب مكتوم مرتسم على الوجوه، وثمة توجس يطفح على أكثر الأحاديث لطافة ورقة. الأمر يدور ببساطة حول الحق الأول الذي لا نزاع فيه او نقاش: حق الحياة.

حال المسيحيين هنا آمن، قياسا الى الموصل، او بغداد، حيث العنف الأصولي المنفلت، الذي انتقل من ضرب الكنائس وخطف المقامات الدينية، الى اغتيال مسيحيين فرادى، وفق ما يسميه خبراء الإرهاب: الأهداف السهلة.

هذا التعبير التقني، البارد، يشي في تأويله المباشر بتحول الحياة نفسها الى مصادفة، تحول الوجود الى لحظة عابرة، عائمة في خواء العدم. اما الكائن البشري حامل هذه المصادفة، فيصير بؤرة لهذا العدم المريع، سديم من خوف دائم. في عينكاوة، تساءل مثقف يساري، مدير دائرة الثقافة السريانية (سعدي المالح) عن سبل مواجهة جمهور منفلت من الرعاع يأتمر بمشيئة شيخ بعمامة، ان خطر لهذا الأخير ان يصب جام غضبه "المقدس" على عينكاوة او غيرها.

أمام هذا الشعور بالانكشاف، يغدو الحديث عن "بناء التسامح" الديني بالطبع، ترفا وبطرا وتبطرا. بل ان لمفهوم "التسامح" ذاته وقعا غريبا على مسامع الضحية. فما يلوح للمثقف فكرة عقلانية، هي عماد المجتمع الحديث، تبدو لمستقبلها بمثابة اتهام. فالمسيحيون هنا يتساءلون عما ارتكبوه كي يطلبوا التسامح. واضح انني نسيت أول درس في الفكر المعاصر: تعدد التمثلات للحقيقة الواحدة، او مبدأ الاختلاف في التمثيل.

تلقفنا مفهوم التسامح، والحق يقال، من الحضارة الغربية، التي اكتوت قبلنا، بحروب دينية، ومذابح طائفية، ثم بلورت منظومات فكرية للعلاج، وحولت هذه الأخيرة الى مؤسسات وقواعد دستورية. ولعل أكبر عقل في هذا الشأن هو جون لوك صاحب أطروحة: التسامح. وعمادها بسيط، أربع قواعد ناظمة: ألا يفرض الحاكم دينه على مواطنيه، فواجبه الأول والأخير ليس نجاة النفوس في الآخرة، بل حماية الحياة والأملاك في هذه الدنيا، والا تفرض الطائفة الدينية (أيا كانت)، على رعاياها عقابا يطال الحياة والأملاك، في حال اختلاف في الدين او المذهب، وأخيرا الا يمارس الأفراد طقوس وشعائر المعتقد بطريقة تهدد حق الآخرين في ممارسة طقوسهم، او تهدد حياتهم وأملاكهم.

فكرة التسامح اذن نظام حقوق قانوني يرسم حدود حرية الحاكم (الدولة) والجماعات الدينية، والأفراد.

كلمة التسامح بالانكليزية Tolerance، لها ظلال معانٍ كثيرة، تفيد احتمال وتقبل اعتقادات وأفعال اجتماعية مغايرة لمنظومة قيم المرء. لا أدري من اختار لفظة "تسامح" كمقابل عربي، التي دخلت المعاجم اللغوية، وقواميس السياسة والقانون.

بعد لقاء ضحايا العنف الأصولي، تبدو كلمة "التسامح"، في ظلالها العربية، موضع تساؤل عسير. لا يطال هذا التساؤل المحتوى الفلسفي الغربي لنظام الاحترام المتبادل للمعتقدات، وتحريم التجاوز على حياة وممتلكات المخالفين للمعتقد السائد، بل يمس التلاوين السيمانطيقية والسيموطيقية لهذه المفردة باللغة العربية من وجهة نظر الضحية.

فالتسامح بما تقدمه هذه التلاوين، يلوح بمثابة غفران على ذنب، او التغاضي عن خطأ، واعفاء من ديون، وهلم جرا. ومثل هذه الدلالات مستمدة من الاستعمال اليومي لكلمة "اسامحك" على فعل ما، فعل يكون في العادة نابياً، مستهجناً، او ينطوي على تجاوز وانتهاك لقيم سائدة، او مقبولة.

كان على المرء ان يتفحص عن كثب سيماء المتلقي المسيحي للفظة "التسامح" كي يتأنى لحظة في اختيار الكلمات. فلهذه الكلمة وقع سيء.

اتذكر في تاريخ العراق لحظات عسيرة من اندلاع حروب على المعاني، في هذا العالم الفوكوي اللاواعي بعبودية الكائن البشري فرداً او جماعةً للغة.

من الأيام الأولى للإحتلال البريطاني للعراق صاغ اقطاب عصبة الأمم مفهوم "الإنتداب" و "الوصاية" من الامم المتقدمة، على الأمم حديثة النشوء. غضب العراقيون من لفظة "وصاية". فقالوا نحن لسنا أطفالاً كي نحتاج الى "وصي" فالوصاية بالعربية هي سلطة الكبار على القاصرين حتى يبلغوا سن الرشد. وببليغ العبارة فهم عراقيو عهدذاك ان الكلمة تنطوي على اتهام لهم بـ"قصور العقل".

ولكلمة "التسامح" بعدٌ مماثل. فمدلولاتها لجهة المتلقي المسيحي، مشحونة بإتهام ضمني بأن حامل الديانة المسيحية مرتكب خطيئة، ما يوجب السماح، اي الغفران او التغاضي. بل ان تعبير "السمح" و"السمحاء" مما يلصقه خطباء الجوامع نعتاً لشتى الأسماء، يرسل في ثناياه موجة منذرة بوجود خطاة من اصحاب الديانات الأخرى.

نحن نعرف ان الجوامع في عصر الديمقراطية "السعيد" هذا تحولت الى ترسانات سلاح، واوكار ارهاب، مثلما تحولت منابرها في عالم الثقافة الشفاهية المقدسة، السائدة اليوم، الى محرضات على الأديان والمذاهب. وما يزيد الوضع سوءاً ان الجوامع شأن منابر اعلامية اصولية كثيرة، فالتة من اية رقابة مجتمعية (عرفية) او قانونية (دستورية).

الجوامع في بطون كتب الفقه، هي وقف لعامة المسلمين، لا ملك لداعية قتل، او مهرج تشنيع طائفي، او مذهبي.

وان كان على قطاع الثقافة والقضاء أن يعيد النظر بلغة "التسامح" لننتقل الى لغة "التعايش" وإرساء ذلك على قاعدة دستورية ومؤسساتية تطبيقية، فإن على القطاع الديني أن يعيد للجامع حرمته بوصفه وقفاً عاماً، لا مكاناً خاصاً، وأن يزيل تأويلات مفهوم "الذمة"، المترع بالعداء للآخرين، والممتلئ بزهو وعجرفة حامل السلطة.

وبين هذا وذاك ينتظر المسيحيون، أقدم بناة بلاد ما بين النهرين، ان تستيقظ الدولة من غفوة "الحسناء النائمة" لترى الى هذا الحال المزري، حتى يمكن الشروع في إرساء المؤسسات اللازمة لحماية الأديان كلها سواء بسواء.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  فالح عبد الجبار


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni