... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  في السياسة

   
تمارين لترويض اليأس واختراع الضوء:المنفى أو بطن الوحش

فاروق يوسف

تاريخ النشر       27/12/2010 06:00 AM


1

بعد عشر سنين من الألفية الثالثة صار فشلُنا مادة جاهزة لتمارين مختلفة من اليأس. يأسُنا يفتح الباب في اتجاهين: المنفى أو بطن الوحش. في الاتجاه الثاني الطريق سالكة أكثر. أحبّتنا الميتون سبقونا إلى التجربة. أحبّتنا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. تحيط بهم الجنة بتلالها بعدما ذاقوا وحشة القبر، وقبلها شقاء حياة انتهت إلى طرق مسدودة ولم يكن لها معنى. أخبروهم أن الحرب لم تنته بعد. ولن تنتهي في وقت قريب. قفوا في انتظارنا عند البوابة الخضراء. رضوان يشعر بالخجل. يده الناعمة لا تكفّ عن التلويح. خذوا أمكنتكم. لا يزال الصفير في أوله. من حضر أولا كما لو أنه حضر لتوّه. ومن نام مثله مثل مَن حمل الماء بذراعين مفتوحتين. الكآبة ليست لنا. كنا سلالة مهرّجين وأفّاقين وقطّاع طرق وعبيد وتجار خردوات وباعة فاكهة فاسدة وسياسيين من سوق مريدي والباطنية وسقف السيل. هناك يا حبيبي ستجدني أبحث في الوجوه عن وجهك. لم يعد لدينا سوى بضائع معادة. لا يزال الدينار من ذهب. لا ترمِ الفكة. المعدن هو الأصل. ونحن بلا معدن. نحن بلا أصل. هذا ما اكتشفناه أخيرا. تغيّرنا. تغيّر العالم من حولنا. تغيّر السوق وتغيّرت المكتبة واحتل البوّابون الطبقات العليا من البناية. عين النبع أصيبت بالرمد، وغوطة دمشق من اسمنت، وبعلبك تسهر على باخوس، وبابل يا عيني على بابل، ترك الغزاة على أسوارها ملابسهم الداخلية المهترئة رايات وحملوا آجرها معهم. "أليست هي بلاد خرى؟"، سؤال مهذّب يفصح عن علوّ مقامك. الحزب والحرب. نقطة واحدة. الحرية تنقصها نقطة واحدة لتذهب الى مجاري الصرف الصحي. هي المسافة بين قدم وأختها. مش صحيح. هناك قدم عرجاء، وقدم محتها الخطوة. أخذتها الخطوة إلى خفائها لتؤنسها هناك. بقدم واحدة نصل. ملاك بفمين: فم من ذهب وآخر من تراب. قرينه يضحك. قرين الملاك هو حارس المزبلة، سفيرنا إلى بلاغة المعجنات وآخر المعجزات. تعال معي. هذا النهار لا يطاق. هنالك ليل أكثر رحمة. لست أنا من يقول: "المثقفون حثالة. لا صوت لهم ولا أمعاء. الصحف والاذاعات والجامعات والفضائيات ومعارض الفن ودور النشر والمؤتمرات الثقافية والجوائز تكذب. كذب في كذب". لا نقوى على قول الحقيقة ولا حملها صليباً ولا إطعامها لكلابنا السائبة حتى. الحقيقة تهمة أخلاقية شائنة وطعام مسموم. لذلك تمشي عربتنا عكس السير ولا نعترض. كوارث متحركة. كل واحد منا هو كارثة متحققة. الإنصاف عدوّنا. لا ننصف أنفسنا مثلما لا ننصف الآخرين. أقول لكم: لقد بالغنا في احتقار وجودنا. لذلك صرنا نشكل خطراً على البشرية. وباء. عقدة مستعصية الحل. بومة عمياء. "ألستَ متشائماً؟"، يقول لي.  

2

في حالتنا، فإن كل انتظار هو نوع من ذلك الانتظار الذي تخيّله صموئيل بيكيت. غودو لن يأتي. لا الآن ولا في أي لحظة تنبعث من بين ثنايا زمننا الحالي. وهو زمن نكذب إذ نتبرأ من صناعته ونحن نعرف أننا مادة خياله، المنتهية الصلاحية. لن يجلب التفاؤل غودو. فالتفاؤل في حقيقته هو نوع من الكذب. لا تتابع الأخبار. أدِرْ ظهرك للمجاعات والمجازر والتزوير والصلف القبلي والطائفي والفقر والسجون السرية والتشرد والمدن القبيحة والسلاح المجاني وانظر الى ما تبثّه الفضائيات العربية. هناك احتفال راقص. سعادة بادية على الوجوه والأجساد وترف مجاني تكشف عنه الثياب والأماكن وتسريحات الشعر وأثاث الأغاني. سينما هندية تحلّق في وهم أخلاقي مستلّ من الأساطير الشعبية. كرنفال ريو مجزأ في سلسلة طويلة من الحلقات. فتيات يرقصن على الشواطئ وفي الحقول الخضراء البهيجة وعلى السفن المبحرة بسلام وفي الجزر المحروسة بنداءات ببغاواتها البرية. خيال "روتانا" ينقصه الإنصاف ويتنكر لأي نسبة معقولة من المروءة. صار الفن يستعمل للطعن في الحقيقة وإنكار الواقع وإيهام المتلقي. تسلل القبح إلى أرواحنا ولا نرغب في الاعتراف بأننا أصبحنا أقبح الكائنات. حين طُلب من المغنّي العراقي الياس خضر، وهو مطرب عراقي تكاد تكون حنجرته قارباً مبحراً في بحيرة للبكاء، أن يكفّ عن الغناء الحزين، توقف الرجل عن الغناء كله. كان صادقاً مع حنجرته على الأقل. ولأننا اخترعنا غبار الروح، وهو نوع من الغبار لم تعرفه البشرية من قبل، فلا سواحل فرنسا الجنوبية، ولا جزر الكاريبي، ولا ثلوج فنلندا، ولا أمواج المحيط الهادئ، ولا أسواق فيتنام المائية، ولا قمم هملايا، في إمكانها أن تنقّي الصور التي تستهلكها عيوننا ما إن نفتحها. الشعر والرسم يفعلان الشيء نفسه، فهما يكذبان أيضاً حين تكون التقنية مائدتهما الوحيدة. ماذا تبقّى؟ السينما وهي فن صعب ومركّب وتكاليفه عالية على أمة تنفق أموالها في شراء السيارات والهواتف النقالة والأسلحة والدشاديش ومختلف أنواع الحجاب. المسرح وهو الذي قيل عنه أعطني مسرحاً أعطك شعباً. لا أحد يرغب في أن يبلغ الشعب رشده. الفكر وقد حجره الشيوعيون في سلسلة معقدة من النظريات اللولبية وجاء القوميون ليدخلوه في حلبة هزائمهم حيث جرت مغامرات الديكتاتوريات الخائبة، أما الاسلاميون فصواعقهم تجري من بين أقدامنا كلما حللنا في مطار. هم يلسنون في أقبيتهم السرية ببلاغة هاذية تنتمي إلى لغة منقرضة ونحن نمشي على جمر العيون المرتابة المتربصة. لعنة أن تكون مسلماً. هذه فهمناها على مضض. ولكن أن تكون عربياً، فهذه لا تُبلَع. نفطنا في شرايينهم ونحن جياع، أمّيون، مشردون، حفاة، مذلون، غرباء من تل عفر إلى العيون مروراً بدارفور. مسلم عربي هو قنبلة موقوتة. كارثة نووية ستحل في كل لحظة. ألا يستدعي هذا كلّه تفاؤلاً بالمستقبل؟ ما الذي سيقوله أولادنا عنا؟ ما هذه الخميرة العجيبة التي تركناها فاسدة لهم؟ ليس هناك أسوأ من الكذب. إقرأوا القرآن. ونحن كذّابون.

3

شعوب مخطوفة لا تنتج إلا ثقافة مخطوفة. لا أحد يسأل من هو الخاطف؟ "تسطيح. كلام سلبي وغير مسؤول"، يقول. إذاً، علينا أن نقول كلاماً مسؤولاً؟ وحده الكلام المسؤول ما يحثّنا على الانتظار. هناك مسألة جوهرية تتعلق بالانتظار. منذ أن استُبعدت طرق الحرير من الخريطة التجارية، والصحراء ليست سوى صحراء. تمدد الرمل وارتفع الغبار أمتاراً أخرى. على تل وهمي يجلس المثقفون العرب ليصفوا مشهداً مستعاراً من رسوم الكتب القديمة. كم سألنا ونحن أدرى بنجد. ليست مدننا وحدها كفيفة. فلا قرانا قرى ولا واحاتنا واحات ولا مراعينا مراعٍ ولا خرافنا خراف ولا نواقيسنا نواقيس. النفطيون منا صاروا ينافسون نمرود في محاولته الوصول إلى السماء من طريق السلالم الكهربائية المستوردة. اما حفاتنا فإنهم يوسعون مسامات الجلد ليدخل الذباب من خلالها فيصل إلى الروح.
يا إله كل الكائنات، وكلها تصلّي لك، هبنا فرساً فائضة لتحملنا بعيداً. "لقد بلينا فجددنا"، دعاء أبي حيان يحاصرني، يمشي بي إلى عزلتي. ألا يحق لنا أن نقول: "لقد بلينا" منذ قرون. منذ ساعة تفكُّر سماوية، وهي ألف سنة. منذ بغداد. منذ غرناطة. منذ بيروت. منذ غزة. سياحة خيطية تتبع الدم وتهبط بالضمير إلى الهاوية. قلت لصديقي عبد العزيز جدير ذات مرة: "من بنى تطوان هم الاندلسيون المهزومون. لذلك لم يبنوا نوعا من غرناطة أو قرطبة أو طليطلة. بنوا مقبرة بيضاء تليق بالمهزومين". تطوان مدينة خائفة. ثقافتنا اليوم هي ثقافة خائفة ينتجها مثقفون خائفون وهي لا تنتج إلا كائنات خائفة. عزاء من لا عزاء له سوى الآخرة. لقد حلّت القيامة في بغداد. منذ 1991 والقيامة تنذر بحلولها. ما من أب ولا ولد ولا زوجة ولا كتاب ولا أحجية. كان الخلق في بغداد سكارى وما هم بسكارى. وحين وقع الغزو الأميركي عام 2003 وحلّت الصيحة أخيرا في بلاد ما بين النهرين، ظل الناس نياما. لم يتغير شيء في أحوال المثقفين العرب. لم يتغير الرسم ولا الشعر ولا السينما ولا المسرح ولا الفكر. نعم تغيّرنا. زاد الظلام من حولنا وفي أعماقنا وما من إصبع سائبة توحي بالحرية. هناك صحف وفضائيات وجوائز ومؤتمرات وقصيدة نثر وبوكر وجنادرية وأصيلة ولاذقية وجرش الذي حزن الكثيرون لأن احداً ما قصف عمره. ولكن ما معنى هذا كله بعد أن نكون قد بلينا؟ أسألك الرحمة، فتقول لي: رجمة. نقطة واحدة هي ما نحتاجها. ستجعلني سعيداً ومتفائلاً حقاً. ولكني لست كذلك .


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  فاروق يوسف


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni