... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  أخبار و متابعات

   
مذكرات فؤاد عارف : حزمة من الضوء على تاريخ العراق المعاصر

جمال العتابي

تاريخ النشر       28/12/2010 06:00 AM


وجد فؤاد عارف.. بعد ان طوى الثمانين من عمره ان يستعيد قول (جيفرسون) قبيل وفاته وهو في الثالثة والثمانين من عمره، بالتمني ان يعيش حياته كلها من جديد والشعور بالاستمرار في الحياة، وكأنه مازال شابا، لقد غمرته المتعة وهو يستعرض مسيرة الاحداث التي عاشها خلال السنين، وقد حملته بالمزيد من التجارب، هي جزء من كيانه ووجوده، لكنها تاريخ العراق الحافل بالدروس والصراعات والانقلابات والمفاجآت السياسية والتناقضات.

هل تستحق هذه التجربة تدوينا؟ تبدو الإجابة على هذا السؤال في غاية البساطة بالقول نعم.

وان تأخر تسجيل وقائعها لدى فؤاد عارف سنوات طويلة، اذ كنا ننتظر بفارغ الصبر صدور هذه الاضافة منذ سنوات بعيدة، وعلى القارئ ان ينتبه جيدا للتمييز بين المسار الذاتي بما يحمله من صور وذكريات خاصة وبين المسار التاريخي السياسي بما يحمله من عناصر تلقي الضوء على مساحة واسعة من تاريخ العراق المعاصر.

لم يكن فؤاد عارف من اتخذ من التاريخ مهنة بحث وتدريس، ولم يضع في حسبانه ان يكون رجل سياسة يصلح لكل العهود، والانظمة، وان تعددت أشكالها وفلسفيوها في الحكم... بدأ طالبا في الكلية العسكرية وتخرج منها ضابطا في الجيش العراقي منذ ثلاثينيات القرن المنصرم، لكنه وجد نفسه منخرطا في أفكار واتجاهات وخيارات ومغامرات في اقتحام ميادين متعددة، وكان الخوض في المعترك السياسي أهم الملامح التي شكلت الإطار الأوضح لتجربة فؤاد عارف. واذ أحاول أن أربط بين هذه الميادين في منظور من المعرفة التاريخية، فانني استدرك لأقول: ان ذاكرة السيرة الذاتية تظل مشحونة دائما بصور الذاكرة الجمعية بآمالها وإحباطاتها.

تصدرت (مذكرات فؤاد عارف) التي صدرت عن دار (ئاراس) للنشر في أربيل عام 2009 مقدمة للعلامة المؤرخ كمال أحمد مظهر مبينا فيها أهمية مذكرات اللواء فؤاد عارف كونها تروي أحداثا غريبة لا تخلو من فائدة ومغزى، بل تلقي أحيانا حزمة من الضوء على حدث معين تعالجه المراجع الأخرى بما فيها الوثائق الدبلوماسية التي تحتل المقام الأول من حيث الأهمية بين المصادر.

ولاشك في أن من يتذكر آثار الحرب العالمية الأولى في منطقته يضيف الدكتور مظهر بالقول – ويعيش أحداث حركات الشيخ محمود وانتفاضاته منذ العام 1919 ويجلس مع الأمير غازي على رحلة الدراسة، ويرافقه بعد ان ينتقل العرش اليه ويكون على أوثق صلة بمعظم الضباط الأحرار بغض النظر عن قناعاتهم الفكرية، وشغل مواقع حساسة في العهد الجمهوري محافظا لكربلاء ووزيرا ونائبا لرئيس الوزراء، ويتمتع بحب وثقة الكرد الذين عاصرهم من دون استثناء ويلتقى زعماء من أمثال جمال عبد الناصر وميكويان وسوكارنو وشوان لاى وجها لوجه، لابد ان يكون لديه الكثير ليرويه ويسجله.

توزعت المذكرات على جزأين الجزء الأول بسبعة فصول، تناولت طفولته وصباه ومرحلة التلمذة في الكلية العسكرية مع الامير غازي مرافقا له، ثم المرحلة ما بعد الملك غازي، وثورة 14 تموز، و(ثورة) 14 رمضان كما يسميها، اما الجزء الثاني من المذكرات فتتضمن ذكريات عن أحداث مهمة في تاريخ العراق، لعل ابرزها (لغز مقتل ناصر الحاني) الذي كان وزيرا لخارجية العراق بعد انقلاب تموز 1968 واتفاقية آذار 1970 ومحاولات اغتيال القائد بارزاني بعد تلك الاتفاقية، كما توقف اللواء عارف عند لقاءاته الواسعة مع العديد من الزعماء والسياسيين العرب أمثال: جمال عبد الناصر، عبد الرحمن عارف، وعبد الله سلوم السامرائي، وكمال جنبلاط وصدام حسين.

دخل فؤاد عارف الكلية العسكرية عام 1928 ضمن فئة المقبولين من ابناء رؤساء العشائر، اما أبرز زملاء الدراسة فهم عبد لكريم قاسم واحمد صالح العبدي والأمير غازي الذي يصفه بانه كان طالبا اعتياديا وهو المرشح لعرش العراق من بعد أبيه وله صداقات مع عدد من الطلبة، مسالما محبا لكل الطلبة، يحب مهنته بوصفه طالبا في الكلية العسكرية نشيطا بين أقرانه يحب الرياضة كثيرا، ومن المتقدمين بجدارة، يقوم بأعمال بنفسه اسوة بباقي الطلبة ومن المصادفات ان تتحول زمالة عارف للأمير غازي الى مرافقة له حتى حادث مقتله المعروف، نظرا لما تمتع به عارف من ثقة العائلة المالكة آنذاك.

ان علاقة فؤاد عارف بالعائلة المالكة وملامسته المباشرة حياتهم الخاصة مكنته من الإحاطة الواسعة بكثير من الأحداث من أسرار ودقائق، واشتغاله عليها لأكثر من نصف قرن، ومتابعته للمشكلات السياسية وتعقيداتها، جعلت من آرائه مرجعا مهما لايستهان به في الكثير من المواقف.

وحسبي في هذه المتابعة ان أكون موفقا في التعريف بشخصية كردية عراقية وبيان فضلها ومنزلتها الوطنية. تكشف المذكرات حقيقة الحياة الخاصة المتواضعة الى عاشها ملوك العراق وعفتهم وتواضعهم وزهدهم وترفهم عن الردايا، لعلو في أخلاقهم وتربيتهم ... ويذكر عارف بهذا الصدد ان الملك غازي لم يكن في وضعية مالية مترفة كملك، وكان يشعر بضائقة مالية ازاء ماهو مخصص له من الميزانية، وصلاحياته محدودة جدا بالصرف، وهذا ما دعاه ان يفكر بتحسين أموره المالية عن طريق الزراعة، فابتاع مزرعة خاصة في خانقين طمعا في تغطية وارداتها بعض مصاريفه، ويحاول عارف أن يبدد الكثير من الشكوك والشائعات التي تحيط بتصرفات الملك غازي بالقول: بوصفي مرافقا لهذا الرجل فلم أجد في سلوكه ما هو مشين.

ان حادثة واحدة يرويها عارف تكاد تختصر القيم النبيلة التي تتمتع بها الإدارة آنذاك ، والمهنية العالية التي يتصف بها رجال الحكم واحترامهم للتقاليد التي ارست نظاما مدنيا يستحق الاحترام منذ ثلاثينيات القرن الماضي.

يقول فؤاد عارف: كان المرحوم عبد القادر خطيب آمرا للحضيرة التى تضم الامير غازي في الكلية العسكرية، وطلب من غازي التدخل لدى آمر الكلية في مساعدته لاجتياز امتحان الصف المتقدم، ما أثار ضجة كبيرة لم يتوقعها أحد يتقدمها الرائد سعيد سلمان الذي أعلن رفض وساطة (صاحب الجلالة)، وطرد الطالب عبد القادر من الكلية لأن سلوكا (منحرفا) لايستحق صاحبه ان يكون ضابطا في الجيش العراقي.

أي طراز من البشر هؤلاء.. ربما يبدو بنظرنا ان خلقا بهذا المستوى استثائي وعمل مجيد، في ظل الاجتياح الذي كرسته العسكرتارية في اقتلاع النواتات الاولى للمدنية العراقية.. انه لأمر محزن حقا.. ان نقيس الأشياء.. بما آل اليه العراق وما أصابه من كوارث أنتجتها الانقلابات.

من الصعب استعراض مذكرات فؤاد عارف بصفحاتها التي تجاوزت الثلاثمائة والخمسين بهذ العجالة والاختصار الشديد.. لكننا سنتوقف عند بعض المحاور المهمة التى تناولها عارف، ولعل هذا الاختصار سيكون حافزا للقراء لمتابعة التفاصيل كما رواها بدقة وأمانة وحرص.

فالكتاب بحاجة الى المزيد من الدراسة والبحث، لأن كاتبه تسعفه ذاكرة حادة تمتد في كل ضرب من ضروب المعرفة التاريخية، وتتوغل بعمق في أدق الأحداث والمنسيات منها.. امتاز بالترفع عن العواطف والأهواء. ومن المفيد ان نشير الى علاقة المودة والصداقة مع الكثير من الضباط الأحرار، وفي مقدمتهم عبد الكريم قاسم، واكتفى عارف بهذه العلاقة دون الانخراط بتنظيم سياسي، وهذا لم يمنعه من المشاركة في عملية إسقاط النظام الملكي صبيحة 14 تموز 1958 وسيطرته على اللواء التاسع في الحلة.. ومن ثم اختياره متصرفا للواء كربلاء، كما كان عارف الشاهد الوحيد على حادثة محاولة عبد السلام عارف حين سحب مسدسه الشخصي ليهجم على عبد الكريم قاسم، إذ أكد فؤاد هذه المحاولة، وكان دوره معروفا في انتزاع المسدس من يد عبد السلام محاولا الاحتفاظ به، ثم سقط على الأرض وهو يبكي وفي خضم السجالات بين القوى المتناحرة وجد عارف نفسه معارضا للكثير من القرارات التي أقدم عليها قاسم خاصة تلك التي قرر فيها إعلان القتال ضد الكرد وهم يطالبون بحقوقهم المشروعة في عام 1961.

اختير فؤاد عارف وزيرا للدولة لشؤون الأوقاف في أول وزارة لانقلاب (8) شباط عام 1963 الذي أصر على تسميته (ثورة 14 رمضان) متناسيا، صفته الدموية والقمعية التي اتسم بها، وكان على صلة بالانقلابيين قبل ذلك التاريخ.

انه من المؤسف حقا ان ينخرط عارف في تلك التشكيلة التي تعد صفحة سوداء في تاريخ العراق المعاصر على الرغم من المبررات التي قدمها للقارئ لهذا الفعل.

لكن لفؤاد عارف مواقف ايجابية مهمة، تتجلى في قناعته بعدالة القضية الكردية وايمانه بالحياة البرلمانية والديمقراطية ورفض أشكال العنف.

يختتم فؤاد عارف مذكراته بوقائع حديث جرى في اللقاء الأخير مع صدام حسين في أواخر عهده بترتيب من مكرم الطالباني ويعده من اهم اللقاءات مع صدام، لانه انطوى على حديث صريح ومهم ونصيحة بعدم الاعتماد على معلومات عزت الدوري وطه الجزراوي وأمثالهما، ممن لايقولون الحقائق كلها كما هي لأنهم يهمهم ان يرضوك قبل أي اعتبار آخر، بينما صديقك من صدقك وهنا قاطعه صدام مصححا القول قائلا: ابو فرهاد هذا القول للإمام علي(ع) ونصه صديقك من صادقك لا من صدقك. ولا يخفي عارف إعجابه بشخص صدام وهو يتابع بشغف كبير وقائع جلسات محاكمته معجبا بمنطقه ومداخلاته!!

ان المنهج الذي اتبعه عارف في سرد أحداث العراق مضافا اليه سعة اطلاعه عزز قيمة مذكراته بوصفها وثائق حية ستظل معينا مهما لجهه الباحثين ورافدا في الكشف عن العديد من الحقائق.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  جمال العتابي


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni