... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
إلى متى يبقى البعير على التل؟

فاروق يوسف

تاريخ النشر       03/01/2011 06:00 AM


   إلى متى يبقى البعير على التل؟ شــعـــب أمّـــي ســعــيـــد بــمــطــبــخـــه الـخــيـــالـي  
  
 
فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا (سورة الكهف)

1

ما يحدث هناك، في بلدي، شيء أشبه بالمعجزة المضادة. ثقب أسود مفتوح على الفجائع. أهدي اليك كربلاء واحدة فتهدي اليَّ كربلاءات لا حصر لها. إفقأ عينيك أيها الزمن لكي لا ترى. ضع حجراً على أذنك. ما من موسيقى. الجنازات صامتة. مر خفيفا كما لو أنك ريشة. ظلّك لا يهدي العمي. الكهوف أغلقت على أهلها. الناس نيام والمأتم لا صاحب له. لن يكون في إمكانك أن تقيس المسافة بينك وبينك. الماضي أبوك والمستقبل إبنك. غير أن الحاضر ليس أنت. اسمع إذاً: أنا حزين ومتشائم وعصبي وغاضب وعدمي ولا أنفع في شيء. "دليمي حضرتك؟"، "لا من الجبايش". "عفواً حلّت البركة"، "ما كو فرق. أعمى يقود أعمى. وما من أحد منا يفكّ الخط". خمس سكان العراق أمّيون، تقول الحكومة، والحكومات تكذب كما تعرف. ستة ملايين أضربها في ثلاثة، يصبح العدد ثمانية عشر. فاكهة عثمانية يابسة. ستقول كل هذا الليل في حاجة إلى أصابع. شعب بأكمله يتمرغ في العبودية. ما من نهار لينبعث من بين شفتيه الفجر، وما من قوس ليغلق. النهاية مفتوحة على بدايات مسمومة. الانكشاريون يسدّون الطرق، والطريق الى اسطنبول تغصّ بقطّاع الطرق. هناك مدارس كثيرة لتعليب الألم. جرعة صبر من أجل آل البيت. جرعة توبة من أجل قتال الأحبّة في صفّين والجمل، وهلمّ. هناك خلاف تحت السقيفة يستحق الكثير من التأمل. عمر واحد لا يكفي. إن كان البصل من إيران والباميا من الهند والطماطة من تركيا والخيار من بنغلادش والأرز من باكستان، والكنافة، يا عيني على الكنافة، من عمان، فما ذلك إلا نوع من الخيال الغذائي الفائض. مطبخ متفائل. "فينيسيا العراق يحاصرها البرغش"، قال أحدهم، وتذكرت حوريات الجنة. في الجنة لا يقرأ الناس الكتب. ما من كتابة. بورخيس مات أمّياً. ستقول: "النبي كان أمّياً هو الآخر". "ولكنه كان عربيا يا صاحبي". "تلك مشكلة معقدة فعلاً". ولأن الزمن لا وجود له في الجنة، فلن يكون هناك معنى للماضي ولا للمستقبل. في الأمّية بركة، ما دمنا نحمل كتبنا الصامتة في أيدينا اليمنى.

2

تعال يا رزّاق. تعال يا ساطع الحصري. علّمتُ رزّاق ما تعلّمته على يد الحصري. قدري قاد بقرنا. رزّاق هو صديقي الهندي الذي تعلّم العربية حباً بالقرآن. أما الحصري فقد زرع في مهجتي أول الأسئلة الوجودية: إلى متى يبقى البعير على التل؟ لم تكن هناك علامة استفهام. البعير هناك. يصيح البدوي "ملح ملح"، ونتبعه. في إبريق العراق الساخن شاي. لم يكن ذلك السؤال الوجودي سؤالا بل كان قدرا. ركّب ساطع الحصري الكلمات بأناقة لافتة لينتهي إلى تبديد فوضى الخلق. هي ذي جملته تواصل حياتها في كل لحظة فجيعة. العراق كلّه هناك. في القراءة الخلدونية، الكتاب الذي ألّفه الحصري لتعليم القراءة والكتابة في أول سنة دراسية، قراءة مدهشة للغة. تشترك من خلالها الحواس كلها في صنع واقع بديل. نعم، جمالية خارقة تنبعث من عنفوان لغوي عاصف. في النغم هناك الكثير من نظافة التعبير. الخط نفسه يموسق حاله ليشكل فضاء شاسعا. صار للخربشة معنى. يقول رزّاق في صلاته كلاماً يفهمه. عام 1972 اعلنت منظمة الأونيسكو أن العراق بلد خالٍ من الأميين. لم يكن الأمّيون الكبار قد اعتلوا سدة السلطة بعد، وكان العراقيون سعداء بالحروف والأرقام كما لو أنها هبة إلهية حملها البعثيون إليهم. يومذاك، كان بوش لا يزال يتتلمذ في الحضانة التلمودية. قرأ حجي راضي لأمّ غانم رسالة إبنها بالهندي. فكّ الحروف ولم يفك الكلمات، فلم يصل إلى المعنى. ولأننا كنا نضحك، فقد فاتنا المغزى. كل الفنون بدأت بضبابها الذي يخفي قارات من المعاني. صار للغة جسد. العصر صار ثلاثة حروف، والشاي وقت العصر صار له طعم آخر. لم يعد قدري الذي قاد البقر غريباً. هو إبن الحي الذي ينظر إلى جارته بحياء وشهوة من خلف أشجار الرمّان. كان هناك في العراق رمّان وبرتقال ولالنكي وميوه ونومي وتمن عنبر والو بالو وتمر بأنواع لا تحصى وفجل وبصل ورشاد وكرفس ونارنج وبابونج. كيف لي أن أزيح رائحة الكلمة الأخيرة من أنفي؟ أنا حزين.

3

القساوسة هناك ينصتون إلى باخ. "أنا واكف على المسعودي حيران". مَن كتبها عبقري. ولكن من يقرأها يكون أكثر عبقرية. يقول الجدار: "البول للحمير". ما من أحد كتب "هنا". الحمير وحدها هي التي تبول. كانت الحمير تنهق. لم تغيّر الحمير أفكارها. كانت العقائد في الشارع. في العربات كتب من فرانكلين، من يوسف الخال، من "دار الهلال"، من جرجي زيدان، من مطبعة "الغري"، من "دار العودة"، من "دار التقدم". كيم ايل سونغ كان حاضراً بابتسامة حذرة. عشرات الأيدي تقلّب الكتب، فيما لوثة غريبة تملأ القلوب والعيون معاً. شعب مريض بالقراءة. بغداد تقرأ. في "أورزدي باك"، كان هناك جناح كبير لبيع الكتب الإنكليزية والفرنسية. كان نجيب المانع يبشّرنا بقرب ظهور بروست عربياً. لم تكن هناك مقبّلات. يا ويلك إن لم تكن تحمل كتاباً. أدعياء الثقافة المرحون كانوا يبالغون فيحملون معهم أكثر من كتاب. العقائديون كانوا يلعبون كرة المنضدة، فيما كان الفقراء يخططون لراشد مستقبله. لم يكن راشد فلاحاً، غير أنه صار كذلك في خيال الملايين ممن صاروا يفكّون الخط. راشد يزرع. لم يره أحد يقوم بذلك، لكن حلمته الملايين مزارعاً. اللغة تخدع. الكتابة تتخيّل. لقد أعجب الجميع براشد. لم يكن الفتى في حاجة إلى صورة. "تكسر جناحي ليش يلماردتني"، يقول المغنّي. كان هناك راشد وكان هناك سوق السرايا، وكان خان جغان، وكان طوب أبو خزامة، وكان "مقهى المعقدين" وكان المبغى العام وكان الباشا نوري السعيد لا يروق له إلا شرب العرق. مستكي أو عصرية. لا فرق. كان سلمان السعدي يبشر بمستقبل قصيدة النثر. حين مر الشعب كله تحت نصب الحرية، لم يجد إلا نفقا. يميناً سنمضي، وما من خطأ. فاليساريون شمّعوا الخيط وهربوا. ولم يعد أمامنا سوى أن نقرأ ما امحى. أثر قدمي تروتسكي على ساحل المكسيك، وهناك العزيز أنور خوجا ينادينا بلغة صينية من تيرانا. تعال يا رزّاق لتعلّمني صفاء اللغة. المعاني تهرب. راشد كسر محراثه وأبقار أبي غريب حزينة. ما من عربات لبيع الكتب. فرانكلين أصيب بالزهايمر، وعبد العزيز الحكيم مات بالسرطان وموسى كريدي يرقد في مقبرة السلام.

4

معجزة حقيقية: الشعب الذي علّم البشرية الكتابة انتهى إلى الصفر الكتابي. خيط من البراغيث يسيل على حجر. مادة ديموقراطية جاهزة للبيع. شعب يبصم. الحبر البنفسجي جاهز. صناعة تايوان. لن يكون النفق طويلاً. حياة واحدة تكفي. يمكرون. العقائد تمكر. العقائديون يرثون العبودية ويصنعون منها عدوى. شعب لا يقرأ، ولتأتِ الكتب التي تؤلَّف في القاهرة وتُطبَع في بيروت. "قومي من يمي قومي"، رائحة الوردة تشقّ صدري. لن يبقى البعير على التل. سيجبره الحلفاء على الهبوط. بطائراتهم، بقذائفهم، بصحفهم، بسيقان فتياتهم، بقصة المارينز على رؤوس فتيان مقتدى. هناك من يفاوض بدلاً منا. هناك من يدافع عن مصالحنا حتى لو كان الطرف الآخر بعيراً عنيداً. لن ينفعكم ساطع الحصري ولا انجيلا جولي ولا روبرت دو نيرو ولا حتى نعوم تشومسكي. المسألة واضحة. السادة هم أهل الذكر، وسنسأل أهل الذكر. إن كانت بعوضة فسنسأل عنها. لا تنسوا أن هناك اجهزة إرشاد في السيارات تتحدث بلسان نسائي ناعم ترشدنا إلى الطرق. صار العالم شفاهياً، وما علينا سوى أن نتعلم أسرار الخيانة. قلت ثمانية عشر مليون أمي، ماذا عن الاثني عشر مليوناً الآخرين؟ سنعلّمهم كيف ينظرون. "صورة، صورة، صورة كلنا كدا عايزين صورة". وسنفرح وتطمئن قلوبنا. إلى الهاوية درْ.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  فاروق يوسف


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni