... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
قراءة في قصيدة قديمة : ابن الطثرية شاعر المرأة والقصيدة

صلاح نيازي

تاريخ النشر       11/01/2011 06:00 AM


خلت المصادر الأدبية القديمة، وكذلك الحديثة، من اعطائنا نبذةً وافيةً عن يزيد بن الطثرية. فهو شاعر مخضرم مرّة، وأمويّ مرّة أخرى. لكنها تتفق على أنه كان وسيماً جميلاً شريفاً متلافاً ، وأنه عُرٍف منتسباً إلى أمّه الطثريّة.

نشر الدكتور حاتم صالح الضامن شعره ببغداد.

مع ذلك فقد وردت على لسانه عبارة نقلها التبريزي (مختصر شرح الحماسة) تعليق ومراجعة محمد عبد المنعم الخفاجي: (كان يقول اي ابن الطثرية مَن أفحم عند النساء فلينشدْ من شعري، وكان كثيراً ما يتحدث إلى النساء).

هذه العبارة – إن صحّتْ – لها دلالة موحية ، لا أقلّها أنه كان على دراية بشؤون المرأة، وأمزجتها، وأنه على ثقة من أن شعره في هذا الباب تعويذة للعاشقين، أو طبابة – إن صحّ التعبير -.

هل يمكن فهم القصيدة، أو أيّ نصّ، دون الإلمام تفصيلياً بدقائق حياة المبدع؟ ذلك ما انتهي اليه الناقد الفرنسي سانت بيف. لكنّ يوميّات الشاعر قد لا تكون مرآةً كاملة لما يدور في العقل الباطن، ولا تفسّر عمليات التفاعلات المحيّرة التي تجري في تلافيف الدماغ معقّدة وغامضة. يقول بودلير: سيكون العقاب إمّا الموت أو العزل، إذا ما تشابه الشعر بالعلوم أو أصبح مجانساً لعلم الأخلاق. يقول بودلير كذلك إن الشعر وافٍ بذاته.

هذا هو الواقع. ففي قصيدة أصيلة واحدة، مهما كان موضوعها، غزلاً أم فخراً، أم وصفاً، نستطيع أن نقرأ عصراً وعصوراً، في حين لو قرأنا ذلك العصر او تلك العصور فقد لا تكون لها علاقة وثيقة ببنية القصيدة وهيكليتها أو تقنيتها.

على هذا الضوء، نحاول أن نقرأ قصيدة ابن الطثرية وهي قصيدة رعوية بأي معيار:

عُقيلية، أمّا ملاث إزارها

فدعصّ، وامّا خصرها فبتيلُ

وكأنما كان يكفي للشاعر أن ينسب فتاته إلى عقيل، لتكون من خيرة الفتيات، ربما جمالاً، ربما حسباً، ربما خلقاً. أو ربما كانت تلك إشاعة واهمة، إلاّ أن الشاعر وهو مستودع الاشاعات، كان منتشياً بها وثملاً. لا ضير في ذلك. المهّم أن الشاعر آمن بها بفورة شباب. (والقصيدة تنمّ عن شاعر شاب في بواكير سنّه المتوقدة) لكنْ حتى يُفرد الشاعر هذه الفتاة العقيلية عن بقيّة لداتها العقيليّات، صغّر الصفة إلى عُقيلية، جعلها أكثر حميمية ولها ذواق خاص. أكثر هشاشة. أكثر براءة، لم يُعجمْ عودها بعد بتجربة سابقة. ثمّ ألا يدلّ التعبير هنا على ترف جسدي ولدانة وليونة، وتكسر أعضاء.

بعد هذا الانتشاء الذهني، ينتقل الشاعر إلى: ملاث ازارها ويشبهه بالدعص (قطعة مستديرة من الرمل). أي أنه يجعلها صورة بصريّة مجسدة، ولكنها قطعة نحتية ثابتة اول الأمر.

ملاث الإزار، كما جاء في شرح الحماسة: الموضع الذي يُشدُّ عليه الإزار، وهو العجز أو الكفل. إلاّ أن ثمة تداعيات للفعل لاث مثل لفّ الشيء مرتين، أو طيّه، ولاث بمعنى لاذ واللوثة بالضمّ البطء والاسترخاء، ومن المجاز: الملاث... أي الملاذ السيّد (الشريف...) لأن الأمر يلاث به ويُعصب... واللّيث بالكسر نبات ملتف ونبات لائث... التفّ بعضه ببعض... وقال أبو عبيد: لاث بمعنى لائث وهو الذي بعضه على بعض، وقال ابن منظور: واللائث واللاّث من الشجر والنبات: ما قد التبس بعضه على بعض... (عن قاموس تاج العروس).

ما يهمنا هنا هي التداعيات النباتية أولاً، وبطء الحركة واسترخاؤها، بالإضافة إلى لفّ الإزار مرتين. وكأن الشاعر كان يمهد بعصب الازار ولفّه إلى استدارة قطعة الرمل: أي دعص. لا يخفى كذلك ما يثيره الرمل من تداعيات، أقلّها الليونة والنقاء والرخاوة.

هكذا حينما أخرج الشاعر فتاته من تلافيف خياله، جعلها منحوتة محجوبة، وكوّنها ببطء مثل تكوين النبات، ولكنْ له طراوته وغضارته. تستمّر الصورة النباتية في قول الشاعر: وأمّا خصرها فبتيلُ. جاء في شرح ديوان الحماسة: الخصر البتيل: ما دقّ حتى كأنه انقطع ما فوقه عما تحته لدقته. لكنّ البتيل ترتبط كذلك بالنخل وهي الفسيلة التي انفردت عن أمهّا، واستغنت بنفسها... والبتيل من الشجر ما تدلّت ثماره وكبائسه. هكذا يكون الخصر البتيل: ما دقّ وكأنه انقطع ما فوقه عما تحته، بالاضافة إلى النمّو النباتي البطئ، وهو ما يتماشى مع معنى الملاث، وهو التباس الشجر والنبات بعضه ببعض.

حينما نقرأ البيت مرة ثانية نجد الشاعر متلذذاً ومأخوذاً بالفتاة العقيلية، يتطعمها في فكره: وهْماً أم حقيقة، بيد أنها محجوبة عن الآخرين . لكن ما أن يخرجها حتى يتحّول جسدها إلى نبتة أو شجرة تنمو منقطعة عن أمهّا. هكذا نمّ الشاعر عن براءته ونقائه حينما حوّل الجسد الانثوي لحماً وعظماً ودماً، إلى نبات ملتفّ، ونمّوه والتفافه يوحي بربيع نمائه الملبّس بعضه ببعض.

امّا بطء النمو النباتي فيوحي برزانة في المشي والخلق. أي أن الفتاة بعيدة عن الطيش أو النزق.

تظهر قوّة البيت في تركيب جمله، وخاصة بكلمتي أما... وأمّا، وفيهما تفصيل لما كان الشاعر يتلذذ به من مشهد أو مشاهد.

جاءت أمّا الأولى، بعد ثمل الشاعر بـ: عقيليّة، فأصبحت بدخولها المفاجئ وكأنها تعميق للانبهار الروحي والذهني. من ناحية أخرى، فإنها أبعدت البيت عن السرد المترهل. أمّا أمّا الثانية مع واو العطف فإمعان أطول في التلذذ والانتشاء حتى كأن الشاعر بهذه الاستبطاءات إنما كان يزرع الفتاة في حناياه، فتتلبسه بحيث لا يجد منها مهرباً. ولكن لماذا شبّه الشاعر ملاث الإزار بالدعص؟ هل كان يمهّد إلى ظبية أو غزالة أو حيوان جميل آخر؟

لا ريب إن حيوانات كهذه، لها رقة النبات وجماله وعدم إيذائه. فاذا صحّ هذا الافتراض، يكون الشاعر قد انتقل منطقياً، من عالم نباتي برئ، إلى آخر حيواني شبيه له بالبراءة.

يقول الشاعر في البيت الثاني:

تقيّظ اكناف الحمى ويُظلها

بنعمان من وادي الأراك يقيل

في هذا البيت تستمر الثيمات الأصلية التي بذرها الشاعر في البيت الأول. فالتقيّظ يوحي بالبطء والاسترخاء، وربما الرزانة في المشي. أما الأكناف وان كان معناها الظلال هنا إلاّ أنها في الوقت نفسه تصرف الذهن إلى تداعيات أخرى، كالستر والحفظ. ويقال: كنف الأبل والغنم: عمل لها حظيرة يؤديها إليها ليقيها الريح والبرد (المعجم الوسيط) وربما الحرّ. انتقل الشاعر بلفظة تقيّظ، من فصل الربيع في البيت الأول إلى فصل الصيف. وهذا الانتقال السريع لا يتّم إلاّ إذا كانت الصورة ذهنيّة لها سرعة انتقال الوقائع في الأحلام. مع ذلك، عيّن الشاعر المكان وهو نعمان من وادي الأراك، وكأنه أراد ان يقنع نفسه أن ما تصّوره أو ما رآه، لم يكن حلماً، أو وهماً، وانما واقع، ملموسيته في جغرافيته. اما الحمى فهو الموضع الذي فيه كلأ يُحمى من الناس أن يُرعى، وهو الشئ المحمي، مما يتساوق مع أكناف. هل كانت الفتاة إذن محمّية؟، كذلك ينصرف الذهن مع نعمان ووادي الأراك وان كانا مكانين بعينهما إلى الشقائق وإلى شجر الأراك.

هكذا أصبح المشهد مكاناً آمناً ملتبس النباتات والأشجار، غير مكشوف للعين، إلاّ أنّ عينَ الشاعر، ربما كانت مدربة على معرفة هذا المكان الذي لا يأتيه إلاّ بدافع رؤية فتاته، ربما بترتيب سابق، أو موعد.

قد يمون هذا سبب مخاطبتها بصيغة المفرد: تقيّظ (تقيظ) ويظّلها. لكن هل كان هذا اللقاء المستور والآمن والمحمي مشروطاً؟ هل افترضت عليه أن يراها حضوراً ولا يكلّمها؟

يقول الشاعر في البيت الثالث:

أليس قليلاً نظرة إن نظرتُها

إليك، وكلاّ ليس منك قليلُ

يبدو أن اللقاء مشروط، ويبدو أن الشاعر وافق على الشرط، لكن الخلوة المطمئنة مغرية ، ويبدو أنه كبح نفسه عن الاندفاع فتساءل تساؤلاً مستكيناً يثير العطف، ولكنه قررّ فيه شيئاً هو أقرب ما يكون إلى الحقيقة كما يراها، وهي أن النظرة لوحدها قليلة، فاذا به يستدرك: وكلاّ ليس منك قليل.

الغريب إن الواو قبل كلاّ أي وكلاّ بمعناها البلاغي، أفادت هنا قطع سلسلة الفكرة والتمادي بها. أي أن الشاعر صحا على نفسه واستدرك من سرعة الاستدراك والانتباه، فاذا هو بعيد هنا بعد أن خاطبها وكأنها قريبةٌ منه او جالسة قبالته. لا عجب إن انتقل الشاعر في البيت الرابع:

فيا خلّة النفس التي ليس دونها

لنا من أخلاّء الصـفاء خليـلُ

للأسف يقول شارح ديوان الحماسة: الخلّة بالضّم لغة في الخيل وهو مَن أخلصت له الودّ، لكن ما دخل الخيل هنا؟ وكيف يستقيم شرحها بهذه وان الشاعر لم يجعلها جزءاً من المشهد. الصورة، خاصة (هل الخيل هنا تصحيف لكلمة: الخليل؟)، المعنى المنطقي والقاموسي لكلمة: خلّة هو الصداقة والمحبة التي تخللت القلب فصارت خلاله: أي في باطنه. هذا المعنى يتّسق تماماً مع انكفاء الشاعر على نفسه، متوسلاً إياها بمناجاة لا يريد لأحد أن يسمعها، لأنه لا يثق، أو ليس له خليل يطمئن إليه.من ناحية أخرى انتقل االشاعر بكلمة خلّة من الخارج أو الظاهر إلى الباطن أي النفس، وهو معنى ينسجم مع استحضار الفتاة في الذهن في البيت الأوّل والثاني، ومع النظرة التي استفزّها الصحو فانقطعت ولم تتطور في البيت الثالث، فراح يناجيها طيفاً صار في خلاله أي في باطنه. حقق الشاعر في هذا البيت شيئين في آن واحد، أوّلاً ضعفه الانساني تجاهها، ثانياً، عدم السدور بالغيّ والأنانية، وهذا أقصى الحرص على عدم التفريط بها، أو بسمعتها.

التركيب المتدرّج للجملة: التي ليس دونها لنا من، ووضع اسم ليس خليل في النهاية، يدلل على أنها أصبحت في خلاله قريبةً وبعيدة في آن واحد. قريبة لانها تجري في دمه، وبعيدة نفسياً بلا تجسد. بكلمات أخرى، إن تعرجات الفتاة في شرايينه، انعكست على تعرجات تركيب الجمل.

لذا فهو حين يقول في البيت الخامس:

ويا مَن كتمنا حبّه لم يُطَع به

عدوٌ ولم يؤمنْ عليه دخيل

يكون البعد النفسي والحضور الجسدي قد وقعا فعلاً. ولكن لماذا انتقل الشاعر إلى ضمير الغائب: حبّه؟ يبدو أنه، باللاّ وعي، حينما ذكر الأعداء، أبعد الفتاة عنه، وكتم عنهم حبّها.

لكن كيف صوّر الشاعر كثرة العيون التي تترصده؟

أما من مقام أشتكي غربة النوى

وخوف العـدا فيه إليكِ سـبيلُ

هنا سُقط في يد الشاعر، وراح يسألها عن السبيل الآمن الذي يمكن أن يوصله إليها ليبثها ما يعاني من الغربة. لا يخفى ان في البيت رنّة حيرة وخوف، أراد بهما أن يثير عطفها، أي أنه تَركَ المبادرة لها، لإيجاد حلّ وسبيل. وبكلمة فديتك في البيت السابع:

فديتك أعدائي كثير وشقتي

بعيد وأنصاري لديك قليلُ

بلغ الشاعر منتهى ضعفه، وحتى يزيد من استدرار عطفها ثانية، جعل السفر إليها بعيداً ومحفوفاً بالخطر. والشقّة بمعنى السفر. لكن البيت يتطلب وقفة أخرى. لماذا قال: وأنصاري لديك قليلُ؟ هل ذلك لموازنة: أعدائي كثير؟ أم أن أخباره كانت تصل إليها عن طريق رسل، لا يتيسرون على الدوام؟ لذا فلا بدّ له من الاعتماد على نفسه؟ لكن السفر إليها طويل شاق وخطر، وربما الأنصار هنا تعني كذلك الأصدقاء ليتذرع بزيارتهم.

فما كـلُّ يـوم لي بـك حـاجة

ولا كلُّ يوم لي إليك رسول

وكنتُ إذا ما جئتُ جئت بعملةٍ

فأفنيتُ علاّتي فكيف أقول؟

بعد أن صوّر الشاعر متاعب السفر، ولا من معين لإيصال الأمانة العاطفية لها، أي بعد أن صور المتاعب الجسدية، انتقل إلى المتاعب النفسية، وذلك باختلاق العلاّت والمعاذير، ومن ثمّ القضاء عليها جميعاً، فلم تعد له أيّة حيلة أخرى للمجئ. هكذا أجهد الفكر وأربكه، فتلعثم الكلام أو تعطّل. بهذا التعطيل، يكون الشاعر قد أدّى جميع ما عليه أن يفعله، وفي الوقت نفسه، ترك لها الأمر جملة وتفصيلاً.

يذكّر البيتان الثامن والتاسع بما قاله أحمد شوقي في مسرحية مجنون ليلى:

بالروح ليلى قضتّ لي حاجة عرضت

ما ضرّها لو قضت للقلب حاجاتِ

كـم جئتُ ليـلى بأســـبابٍ مــلفقـةٍ

ما كـان أكـثر أســبابي وعـلاّتي!

ربّما كان شوقي قد اطلع على قصيدة ابن الطثرية، فوظّفها بذكاء وكأنها مادّة خام، مع ذلك أبقى على بعض الكلمات مثل: حاجة وجئتُ وعلاّتي. لكنّ ما صنعه شوقي من تلك المادة الخام شيء مختلف.

عرفنا أن فتاة ابن الطثرية كانت بعيدة، وان الشاعر كان يستحضرها طيفاً مجسداً وكأنها حاضرة، أو أنه أراد أن يوصل إليها مظلمته وشكواه ربما عن طريق رسول.

امّا ليلى أحمد شوقي، فكانت وجهاً إلى وجه أمام قيس، لكنها جزئياً بعيدة عنّه. خلق أحمد شوقي هذا البعد عن طريق تغييب وعي قيس وإفناء حواسّه، أي خلطها بعضها ببعض بحيث يصل إلى مرتبة الوجد.

تخاطب ليلى، قيس بعد أن رأت النار تصل إلى كُمّه:

ليلى: ويح عينيّ ما أرى

قيس

قيس: ليلى

خذ الحذر

ليلى مشفقة:

غير أن قيس غير آبه بما كان فيه من نجوى. فيقول وكأنه في غيبوبة:

رُبّ فجرٍ سألتُه

هل تنفستِ في السحرْ

ورياحٍ حسبتها

جرّرتْ ذيلك العِطرْ

وغزالٍ عيونه

سرقت عينك الحورْ

يستمر الحوار بين ليلى وقيس، وهي تنبهه على اشتعال النار في كُمّه، ثم اشتعالها في كفيّه، وهو سادر في نجواه لا يشعر بألم أو لسع، ولكنه سرعان ما يصحو، حينما قالت ليلى:

ويح قيسٍ تحرّقتْ

راحتاه وما شَعَرْ

فيجيبها مفنداً ما تقول:

أنت اجّجتَ في الحشى

لاعج الشوق فاستعرْ

ثم تخشين جمرةً

تأكل الجلد والشّعرْ

هذان البيتان لا يمكن أن ينطق بهما سوى شخص يُعاتِب بكامل وعيه.

ربما هنا بالذات وقع أحمد شوقي في تناقض لا مبرر له نفسياً أو مسرحياً، حيث نقل قيس من غيبوبة مطبقة إلى صحو ذهني ذي جدل وحجة، لا سيّما أن شوقي يفاجئنا بعد ذلك مباشرة بمشهد قيس وهو يخرّ صريعاً قائل:

أُحسُّ بعينيّ قد غامتا

وساقيّ لا تحملان الجسد

بالإضافة إلى ذلك، فقد نقرأ في قول قيس:

كم جئتُ ليلى بأسبابٍ ملفقةٍ

ما كان أكثر أسبابي وعلأّتي

انه كان أكثر حظّاً من ابن الطثرية، أوّلاً لأنه يستطيع ان يرى ليلى ويزورها – لقرابة الأرحام بينهما – وبالتالي يتمكن من محادثتها. بالاضافة إلى أن أسبابه وعلاّته – على ما يبدو – ليست لها نهاية – (وما أكثر أسبابي وعلاّتي) أي أنه واسع الحيلة.

في حين يبدو ابن الطثرية على العكس من ذلك. فهو أوّلاً لا يستطيع أن يزورها، وثانياً انه يسكن في بلدٍ بعيد، وثالثاً انه أفنى علاّته فلم تبق في يده حيلة أخرى، مما يدلّل على براءته.

لكن لِنُعِد النظر في الشطر الأولّ من البيت التاسع:

وكنتُ إذا ما جئتُ جئتُ بعلّةٍ.

جاء هذا الشطر بعد بيتين خاليين من أيّ فعلٍ من أية صيغة، بحيث يبدو الفعل الماضي "وكنتُ" وكأنّما منقطع. الواو بهذه الصيغة قد يكون للعطف أو للحال لغة، إلاّ انها هنا تدلُّ على تذكّر مفاجئ، ربما مرّ الشاعر معها بتجربةٍ محرجة من قبل.

أما الفعل كنت فهي وان كانت في الماضي إلاّ أنها مستمرة، كالذي تيقن من غياب خطرٍ ما، ولكنّ ارتجافه مع ذلك ظلّ متواصلاً.

هذا الارتجاف وذلك الإحراج يظهران بصورة أوضح في تركيب: "إذا ما جئت جئتُ ..."

ربما أراد الشاعر – باللا شعور – أن يترك تلك التجربة المحرجة في النسيان فجاءت إذا مع ما الزائدة لتبطئة الايقاع من جهة وإطالة فترة التردد والإحراج. وحتى يجعل الشاعر مجيئه إليها، محرجاً أكثر، كرّر كلمة جئت، وتوّج التردد ليبلغ أقصى مرارته بعلّة لا بدّ أن تكون كاذبة. وهكذا دللّ الشاعر في هذا الشطر، على أن الكذب شيء طارئ عليه ولا يستطيع ان يطيقه، فبطّأ خطوه، وبطّأ ايقاع الوزن وبَطأ لسانه وتعطل تفكيره: فكيف أقول. وهذه كلّها تدلل على براءته.

يبدو أن معركة ابن الطثرية مع نفسه انتهت باندحاره. لذا حينما نقرأ البيت العاشر – وربما الأخير –

صحائف عندي للعتاب طويتها

ستنشر يوماً، والعتاب طـويلُ

يكون قد وصل الشاعر وأوصلنا إلى نهاية مأساوية مرّة، ولكنها في الوقت نفسه معقولة وسائغة فنياً، وأعمق ما فيها أنّه جعل خاتمة الأبيات مفتوحه وذات حرقة لأن كلامه معها وإن كان على صيغة عتاب لم يبداْ بعدُ، سيطويه الآن وينشره غداً.

يتمثل مركز ثقل البيت بالفعل طويتها، فهي تتكأفا مع عُقِيليّة من حيث الكتم وتختلف عنها، في ان طويتها تدلّ على كمد ويأس، في حين عقيليّة تدلّ على حلمٍ مستوٍ لذيذ في فكر الشاعر.

كذلك يرتكز البيت على كلمة: تنشر، وهي المرة الأولى التي يستعمل فيها الشاعر سين الاستقبال بتمنٍ حزين. ولكن ما هي دلالته النفسية في البيت؟

قلنا إن ابن الطثرية انتهي به المطاف إلى اليأس، وهو أشبه ما يكون بملاّح انكسر مجدافاه، فسلم أمره إلى الريح. وفي هذا البيت يظهر التسليم بكلمة: يوماً من جهة وبسين الاستقبال، وهما يدلان على أن الزمام فلت من يد الشاعر كلية.

امّا من حيث ايقاعية البيت، فصحائف بهذا التركيب الموسيقى المتضامّ للحروف، مع وجود حرف الحاء في الوسط تدلل على كثرتها أوّلاً، وتهيّئ في الوقت نفسه إلى أهمية العتاب، الذي هو بهذا التوقيت، وبوجود الألف في الوسط، تجعله أعلى وأفخم وأهمّ. تجعله مديداً.

لكن في القصيدة حميمية أخرى، تظهر في استعمال الشاعر لحروف الجرّ، فهي مرّة تعينه على الدفاع عن نفسه: "لي بأرضك حاجة"، أو الشفاعة له: "لديّك قليل"، أو، وهو الأهم الدنوّ منها: "لي إليك"، وكأنه بهذه الصيغة أراد أن يتلذذ بوجودها الغائب وما همّ إن تمّ ذلك بأية صورة حتى على إيقاع بطيء تسبّبه حروف الجر.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  صلاح نيازي


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni