... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  في السياسة

   
محمود درويش هل كان شاعراً عدمياً؟

ماجد السامرائي

تاريخ النشر       13/01/2011 06:00 AM


يقوم كتاب الناقد أحمد دلباي «موت التاريخ: منحى العدمية في شعر محمود درويش الأخير» على ما يرى من أن أعماله الشعرية الأخيرة قد «اتضح فيها، جيداً، وعيه الحاد بموت السرديات الكبرى للحداثة الكلاسيكية كالتاريخ والثورة ومركزية الإنسان». (ص 9) ففي شعره الأخير، وفق رؤيته هذه، يقف الكلام «على ذروة الصحو القاسي بمأساتية المرحلة، مشرفاً منها على مهاوي التاريخ وهو يتصلب كعود يابس جفّ فيه ماء التأنسن وأضاع الوجهة والهدف» (ص 10)، محدداً «التغيّر» الحاصل عنده، و«التحول» بكونهما «إفاقة على موت التاريخ واكتشافاً فجائعياً للموت الفردي الذي أسدل الستار على سردية البطولة وشعرية الوجود ليشرف منه على نثر العالم وسديمه». (ص 11) مشدداً القول على أن ما يريده ويرمي الى تأكيده، في قراءته هذه، هو الكشف «عن اضمحلال الرؤية الإيجابية للتاريخ وعن اتساع الهاوية المتاه الذي غابت معه سبل الخلاص التاريخي من اغتراب الوعي والانسان». (ص 11)

واحتراساً مما قد يكون لقارئ الكتاب من اعتراضات منهجية قد تطاول الأسلوب المتبع في الكتابة (التي يفترض أن تكون نقدية)، إذ نحا فيها منحًى أقرب الى «السردية الشعرية» المنفلتة من إسار التركيب والمعنى، والمتجهة الى غرابة التمثيل وتغريب التشبيهات... احتراساً من هذا، يقرّ الكاتب ويعترف بأنه إنما أراد لكتابه أن يكون «قراءة لنبرة درويش الأخيرة»، رافعاً عن نفسه مسؤولية الانخراط في ما يسميه «المساءلة النقدية الخصوصية»، ومتجهاً بكتابته صوب ما يسميه «النقد الثقافي في القراءة الأنطولوجية»، عابراً من خلال هذه القراءة الى «العدمية التي اتشحت بها النظرة الى العالم والوجود والتاريخ في هذه المدوّنة الشعرية». (ص 11، 12) ومن خلال هذا يعدنا بأنه سيتناول الشاعر وشعره في غير بعد من أبعادهما. فهو، أولاً، يتحدث «عن وجه محمود درويش الأخير وعن صوته الذي ارتفع في السنوات الأخيرة مقاوماً عبثية الحياة ومسائلاً كينونة الإنسان التاريخية». (ص 12) ويريد، ثانياً، أن يتناول «محمود درويش الذي أنضجت الحكمة صوته وجعلته أكثر تخلصاً من فضيحة السقوط الجماعي». (ص 13) وثالثاً، يريد التحدث «عن محمود درويش الذي اكتشف ذاته الفردية، مطلاً منها على هشاشة الحياة ومدركاً أنها لا يمكن أن تكون إلا كسفينة نوح في غمرة الطوفان القادم أبداً». (ص 13) ليخلص من هذا، وقد نعده رابعاً، الى أن محمود درويش قد استيقظ في أعماله الأخيرة على ما يسميه الكاتب «الشعر الصافي» الذي ظل ينشده باعتباره شعراً متخلصاً، نسبياً، من شروطه الضاغطة التي أنتجته». (ص 14) وعما يتمثله في «سقوط التاريخ في العبثية واللاجدوى» يمضي الكاتب في «سرده الشعري» فيرى التاريخ «في صورة طائر عجوز أنهكه السفر الى وكر المعنى»، ما يجعله ـ كما يقول ـ يفهم «شرعية انبثاق السؤال الوجودي العميق في عالم يشهد انهيار اليوتوبيات، ويرى كيف تسحق سنابك التاريخ وردة المعنى التي سهرت على رعايتها أحلام الثوريين جميعاً»، واصفاً هذا الوعي بـ «الوعي الخائب المتعب» الذي «خدش كل الرؤى التي تزوجت المستقبل وآمنت بفراديس الآتي»، ليجد أن محمود درويش أفاق «على هذا الأمر في المرحلة الأخيرة» (ص 23)، كما يجد أن «موت التاريخ» كان «يتوثب في رحم المرحلة التي بدأت تعرف انهيار الحلم وتراجع اليوتوبيات الثورية». (ص 26) وإن موت التاريخ هذا، كما عند الشاعر موضوع الكتاب، ليس بذلك المعنى الذي دفعته العولمة الأميركية الى واجهة الثقافة الحاضرة، «وإنما بالمعنى الفلسفي الذي جعل منه ـ لعصور طويلة ـ معبراً يقود الى الأرض مفتوحة على زمن مضاء بالإنسان» بصفة هذا التاريخ يحمل «وعداً بالعدالة والكرامة... ونشيداً ظافراً، وزمناً آهلاً بلازورد الحرية الكيانية وصداقة الريح والبحر» (ص 37)... محدداً بداية هذا المسار عند الشاعر تعييناً بعمله الشعري «جدارية».

ولكي يصل الى تأكيد فكرته نجده يخلط خلطاً عجيباً وغريباً بين الأشياء، وبنزعة انتقائي تجزيئية مفرطة. ففي موقف الشاعر من الموت (وقد واجهه الشاعر وهو يخضع لعملية جراحية في القلب) يرى انه في تعبيره عن هذه المواجهة الصعبة للموت لم يعد «يرى أو يشاهد موت الآخرين، ولم يعد يؤسس لغيابهم بصفته تاريخاً يُذكّر بالهوية الحضارية غير القابلة للطمس، وإنما أصبح «يموت» ـ كذا ـ (ص40) وتأتي تفسيراته اللاحقة لا علاقة لها بالحالة التي عاشها الشاعر وعبّر عنها بصفتها تجربة معاناة فردية في مواجهة الموت، ولا علاقة لها بتفسيرات الكاتب الذي يسعى، من طريق الانحراف بالحالة عن حقيقتها، الى تأكيد فكرته الخارجة عن الصدد... وأن المسألة، في سياقها هذا، ليست على علاقة بفهم هيدغر للموت.

وعودة الى العدمية (التي سيعرّفها الكاتب لاحقاً بأنها تعني «غياب القيمة وغياب الأساس الأنطولوجي لكل ما يتأسس عليه المعنى. إنها العالم وقد رُدّ الى اللاتشكّل، والتاريخ وقد أصبح كابوساً مليئاً بالصخب والعنف»، كما أنها «انتفاء العلوّ». ص47) ليذهب من خلال هذا الى أن شكلها الأولي عند الشاعر «هي أنها ليست زمناً ملحمياً وغنائياً بالقدر الذي يضمن أبهة المغامرة وجسارة الرحلة الى حضن بينلوب/ الوحدة مع العالم وضوئه الأصلي»، وإنما هي «زمن لا يناسب أوليس. إنها انكسار فعلي لكل الجسور التي ظلت تربط الواقع بالممكن عبر بوابات الحلم العالي. إنها انكسار لفكرة الحلم ذاتها، وهي تحرير للمرجعية من الهدف والنهايات السعيدة التي ظل البشر يختلقونها ليخففوا من عبء وجودهم الفادح». (ص 42 - 43) وفي المحصلة، (كما شاء الكاتب أن يختزلها بتحديداته التي تظل بلا معالم أو حدود، وتضيع، تعريفاً ومعرفة، في زحمة تشكيلات لغوية هي، غالباً، بلا معنى محدد) يجد أن هذا «يتطلب من الوعي قدراً كافياً من الصحو وحكمة جديدة تخلع عنها بردة التطلع الى العلوّ وتلبس الحس التراجيدي العالي الذي يمثل ـ بمعنى ما ـ معيناً لبطولة قاسية وحالكة الملامح». (ص 43)

وفي سياق أحكامه المطلقة هذه يجد محمود درويش الثوري قد أصبح وجودياً، مستنداً في حكمه هذا الى الى ما يقرره، هو نفسه، من ان الحقيقة عند الوجودي تبدأ انطلاقاً من الذات التي تعاني بصفتها شرفة تطل على الوجود الأصيل» (ص 52)، أما دليله على هذا فهو أن درويش خبر هذه الحقيقة «وكانت في اساس إعادته النظر في الكثير من الأشياء» (مثل ماذا؟ وأين؟ كل ما نحظى به من جواب هو قوله: «أصبحت الذات مركزاً للحقيقة الماثلة بطلعها المرّ، وينبوعاً حراً للقيم في عالم لم يعد إلا مجالاً لبسط امكانات الذات في العلو على ضجر اللحظة والتاريخ» - ص 52)

وكمن ينقض كل ما سبق وقال، من حيث لا يدري، نجده يصف شعر درويش بأنه «شعر ذو حساسية وجودية بكل تأكيد، ولكنه شعر حضاري وكوني أيضاً من حيث هو انفتاح على أسئلة الإنسان العميقة ومن حيث هو حوارية مع المرحلة من منظور يحتضن الكوني عبر الذاتي. هو شعر حضاري يحمل قلق الإنسان المعاصر...» (ص 56)

ثم يقول عن «جدارية» درويش ما ينقض العدمية، مفهوماً، وقد رآها بعداً متحققاً في شعره، إذ يذهب الى أن الشاعر يكتشف «الموت الفردي ويؤسس عليه وعياً حضارياً يعكس تلخيصه في نشدان الخلاص من حالة العبثية الساحقة بالفن»، إذ يصبح الموت، في حالته هذه، ووفق رؤية الكاتب، «تجربة معاناة في التناهي ومجابهة العدم ولا يعود مجرد فكرة». (ص 57).

يؤسفني القول إن الطريق الى ذلك قد ضلت بالكاتب فلم يصل منها الى ما أراد، كما ضلّ هو بقارئه أيضاً وسط ركام لفظي أضاع عليه أفكاره التي أراد إيصالها إليه.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  ماجد السامرائي


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni