... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  في السياسة

   
طه حسين - رواية وحكاية

د. ميثم الجنابي

تاريخ النشر       18/01/2011 06:00 AM


لقد احتل طه حسين موقعه الخاص والمتميز في صرح الثقافة العربية الحديثة بوصفه شخصية عقلانية ونقدية حرة وتنويرية تجمع بين التجديد والأصالة. كما حصلت بالقدر ذاته على مكانة الشخصية المرجعية بالنسبة للفكر العربي الحديث بشكل عام والأدبي بشكل خاص. من هنا تنوع مظاهر ومضامين التقييم المؤيد والمعارض. بحيث نقف بقدر واحد على أغلبية تؤيد التقييم القائل بشخصيته الفذة، وأقلية تجد فيه شخصا يفتقد إلى ما ينسب إليه. وفيما بين هذين التيارين تباينت أيضا المواقف المعارضة والمؤيدة، والمبجلة والمستخفة. ولا خلاف عما في هذه الحالة من تنوع يعكس تنوع المواقف والآراء والأحكام من جهة، ويشير في الوقت نفسه إلى حيوية طه حسين وتأثيره المستمر في الوعي الثقافي العربي المعاصر. الأمر الذي يجعل منه شخصية إشكالية.

لكن غرابة القضية ككل تكمن في إشكالية شخصية وليست إشكالية فكر وفكرة. الأمر الذي جعل من كل ما قيل ويقال عنه جزءا من معترك المواقف والأحكام الايديولوجية، وليس من مسار التراكم العلمي والنقدي الضروري لوعي الذات القومي في احد مجالاته ومستوياته ونماذجه.

وتنعكس في هذه المفارقة من حيث الجوهر القضية التالية، وهي أن حقيقة هذه المفارقة تقوم ليس في إشكالية طه حسين بقدر ما تقوم في معضلة الوعي الثقافي العربي الحديث والمعاصر التي جعلت من شخصيته إشكالية، ومن أسلوبه في الكتابة والتعبير نمطا متبعا، ومن مستوى بحوثه التاريخية والأدبية نموذجا للمحاكاة والتقليد، ومن آثاره النقدية مآثر علمية، ومن معلوماته المتناثرة معرفة منظمة، مع أنها لم ترتق في أي من هذه المجالات إلى مستوى العلم والمعرفة الحقيقية، دع عنك قضية الإبداع الفكري الأصيل. الأمر الذي يجعل من إشكالية طه حسين في الحقيقة إشكالية ضعف وتدني وسطحية الوعي النظري الذي ميز وما يزال يميز الوعي الثقافي العربي الحديث والمعاصر، وليس أيما شيئا آخر. وإذا كانت هناك من مأثرة لطه حسين بهذا الصدد، فإنها تقوم في قدرته الفذة على تمثل هذه الحالة الأولية لتراكم الوعي المعرفي الأولي، والبدائي لحد ما من حيث المقدمات والأسس والمنهجية، ورفعها إلى مصاف المرجعية الثقافية، التي أعطت له تلك القيمة المؤثرة والفعالة في الوعي الاجتماعي، رغم سطحيتها الذاتية (الفعلية) في مجال العلم والمعرفة الحقيقية. وإذا كان لهذه الحالة ما يبررها من الناحية التاريخية، بوصفها الصيغة المبسطة والجزئية لكيفية وطبيعة التراكم الأولي للثقافة العربية آنذاك (والمصرية بشكل خاص)، فان ضررها المعرفي يقوم في تقديم تجارب الثقافة الأوربية العريقة والعميقة والجديدة عبر موشور الرواية والحكاية المميز لتقاليد الأزهر المختبئة في أعماق الوعي الذاتي لطه حسين نفسه. الأمر الذي أدى إلى صنع السبيكة المشوهة من مظاهر الرؤية النقدية المتشبثة ببعض كسرات المناهج الأوربية (الديكارتية بشكل خاص)، وبواطن الرؤية التقليدية العاجزة عن إرساء أسس الرؤية النقدية الفعلية وتأسيس منهج الرؤية الثقافية الذاتية. وقد يكون أسلوب الرواية والحكاية الصيغة الأكثر تعبيرا عن هذه المفارقة المزعجة، أي الخاوية من إشكالية الإبداع الحقيقي، والفاعلة في الوقت نفسه على خلخلة الوعي النقدي الحقيقي. وذلك لأنها لا تصنع في نهاية المطاف غير شهية الاستماع والاستمتاع بتقاليد الشفاهية المغرية لنفسية وذهنية العوام. ومن ثم فعلها المباشر وغير المباشر على تسطيح الوعي وابتذال مستوياته النظرية العميقة.

ان وضع صورة طه حسين ضمن "لوحة التكريم" الملونة للثقافة العربية، وتحوله إلى احد العناصر المرجعية للثقافة العربية الحديثة والمعاصرة يعكس أولا وقبل كل شيء بقاء واستمرار فاعلية الثقافة الشفوية وتقاليد الرواية والحكاية، التي مّثل طه حسين احد نماذجها الكبرى في القرن العشرين (العربي)، أي في زمن صعود ما ادعوه بعقلانية الفطام التاريخي، التي تميزت ضمن سياق القضية المطروحة بقوة الحشو والمعلومات الجزئية، وضعف مستويات التمحيص والتحقيق العلمي، وشبه انعدام للتدقيق الفكري. الأمر الذي جعل من الرواية والحكاية اجتهادا. من هنا فقدانها للفكرة المنظمة مع ما يترتب عليه من آثار مخربة للوعي النظري العقلي والعقلاني.

لقد تغلغلت الثقافة الشفوية في شرايين الذاكرة الحبيسة لطه حسين. وكانت تحتوي بقدر واحد على مكون وجودي (انطو لوجي) وآخر ذهني (ثقافي). الأمر الذي جعل من الثقافة الشفوية أو ما يمكن دعوته بثقافة الحكاية والرواية الأسلوب الأكثر رسوخا في بنيته الذهنية. من هنا كثرة الحشو والتكرار وضعف الحصانة الرزينة في الموقف من المواقف النقدية نفسها. لاسيما وان هذه الصفة لها تقاليدها الخاصة في الثقافة المصرية على امتداد قرون، أي ثقافة التأليف، والجمع، والتصنيف، والشروح، والتعليقات، والحواشي، والحواشي على الحواشي. وهي ثقافة بلغت ذروتها في أوج مراحل الانحطاط "المستنير" في كثرة وتفشي الاهتمام المبالغ فيه والجميل لحد ما بالحكايات والروايات مثل ألف ليلة وليلة، وعنترة، والظاهر بيبرس، والأميرة ذات الهمة، وسيف بن ذي يزن، والهلالية وغيرها.

فقد كانت ثقافة الحكاية والرواية شائعة الانتشار في أزقة القاهرة ومقاهيها منذ القرن الثامن عشر. أنها ساهمت في بلورة الخيوط الخفية للاستعداد الذهني المصري للقبول بالرواية والحكاية على أنها "علم الأوائل" مع ما فيه من هيبة ورهبة خاصة في الضمير الاجتماعي والذوق العام. ونعثر على هذه الظاهرة لحد الآن في انتشار وغلبة "الشخصيات المحاكمة" و"المنبوذة" و"المكفرة" بين الشخصيات المصرية، أي كل أولئك الذين يتلذذون بهذا المصير من اجل الحصول على شهرة لا تفعل في نهاية المطاف إلا على صنع ثقافة الرغبة العجولة بالحصول على رجولة مشهورة وفحولة مقهورة في ميدان المواجهة والعلم! مع أن اغلب الكتب التي جرت "محاكمتها" و"تصفية الحساب" مع شخصياتها لا تتعدى كونها مؤلفات صغيرة ومسطحة بمعايير العلم والمعرفة الدقيقة. لكننا نعثر فيها وفي "مصيرها" ونتائجها بقدر واحد على الصورة الفعلية لضعف وتسطيح الوعي الناقد والمنقود. وهذا بدوره ليس إلا الوجه الآخر لهامشية المعرفة في كل هذا الرصيد المثير للغط والبهرجة المزيفة. ومن الممكن العثور عليه أيضا حتى الآن في النزعة السائدة في الثقافة الصارخة للوعي المسطح كما هو جلي في أغلب ما يسمى بالكتابات "العلمانية" النقدية المنتشرة بين الكتاب المصريين واتباع اليسار التقليدي، كما هو الحال على سبيل المثال لا الحصر في كتابات السيد القمني، وسابقه فرج فوده وكتابات نصر حامد أبو زيد النقدية، على خلاف كتاباته الاكاديمية المتعلقة في ميدان التراث. رغم أن الطابع العادي لهذه الكتابات من حيث مستوى تأسيسها النظري. وذلك لانها تبقى في نهاية المطاف مجرد كتب مدرسية وبالتالي لا تتميز بعمق معرفي ويغلب عليها الحشو المعلوماتي أيضا.

بعبارة أخرى، إننا نقف أمام نماذج لا حياة فيها بالمعنى الدقيق للكلمة ولا حداثة، وذلك لان حقيقتها أو مضمونها اقرب إلى أساليب الدغدغة الحية والمشاكسة لحد ما لمشاعر العوام المبهورة بكل ما هو مسطح و"غريب". وليس مصادفة أن تلاقي هذا الاستحسان المشبوب بالزعيق والتصفيق بين أنصاف المتعلمين وأشباه المثقفين من ممثلي "اليسار" و"العلمانية"، أي أطراف وهامش المسار الفعلي للمعرفة العميقة والوعي النقدي الفعلي.

إن الرؤية النقدية لطه حسين في اغلبها نقدية بهرجة ومحكومة بتقاليد الحكاية والرواية. الأمر الذي يعطي لي إمكانية الحكم على شخصيته، باعتبارها شخصية حكواتية تقريرية خطابية. من هنا انتشار وغلبة السرد والسرديات فيها. كما انه سر بقاءها العائم على سطح الوعي العادي، واستمرار بقاءها مصدرا للرؤية الكسولة والعقول المكسورة أمام مهمة المواجهة الحية والتحدي الفعلي لإشكاليات المعرفة والحقيقة كما هي من جهة، وفي ميدان التراث من جهة أخرى، أي مواجهة إشكاليات المعاصرة بمختلف ميادينها ومستوياتها.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  د. ميثم الجنابي


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni