... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
عـــدوُّنـــا الـــزمـــن!

لطفية الدليمي

تاريخ النشر       18/02/2011 06:00 AM


"واسفاه يا زهرة عباد الشمس التي أضجرها الزمان/ يا من تعدّين خطوات الشمس/ وتاريخ الزمن/ باحثةً عن ذلك المناخ الذهبي العذب/ حيث ينتهي المطاف برحلة المسافر" (وليم بلايك)

ينهمر الزمن دفق شلاّل جارف، يصنع مصائرنا ويرصد خطواتنا، ثم يغافلنا ويتخفى في إهاب زهرة او رعشة ريح أو شهقة امرأة، زلقاً ومراوغاً كزئبق، مخادعاً ولئيماً، شحيحاً وساخراً من ضعفنا إزاءه، نطارده ويطاردنا ويحتل ثغر أرواحنا الراعشة، موكول ازدهارنا وذبول الأهواء فينا، حاكمنا المؤبد وسيد الأمكنة. كلنا مغلول إلى جبروته، لا نفلت من سطوته إلا بولوج فتنة الحلم، الحلم بلا زمن ولا منطق ولا حدود، منه وفيه نجد جلّ حقيقتنا، نعجن فيه ماضينا ورحيق حاضرنا وما سيأتي من شهوات القلب. الحلم سبيلنا المفرد لتحمل ضنى عبور الزمن ومتاهات الأمكنة وتضاريس الأحداث. من لا يحلم، ينتهك الزمن روحه كل آونة. لا أصدّق من يدّعي عدم الخوف من الزمن وهو لا يحسن مقاربة الحلم، بل أن ذلك الذي لا يحلم هو أشد الناس رعباً من جبروت الزمن.
كل خلية في أجسادنا تتخلق في بوتقة الزمن وخليط العناصر وتموت بفعل الزمن واستهانتنا به. كل علامة على جباهنا وحول شفاهنا التي تضحك وتنطق بالجميل والقبيح والزائف، رسمها مرور الزمن المستخف بنا. تغضناتنا وترسيمات العبوس والغضب والدهشة، صنعتها اللحظات المترادفة وهي تعبرنا وتتركنا في وحشتنا متجهة الى أبديتها.
ليس من شيء أشد عداء لنا سواه، وليس من أمر أكثر حميمية منه لمخيلتنا وجموح الرؤى. يقف الزمن حارسا لتقلباتنا ومحفزا لتغيراتنا ومهيجا لأهوائنا. شاهد النضج والخرف، محرّض الفناء على اختراق متاريسنا التي من وَهْم اعتدادنا بأنفسنا، يرسل طلائع الموت سراً إلى أجسادنا المزدهية بوهم قوتها، ويسترخي في كهوف الكون او يتراكض بأقنعته بين المجرات ويضحك طويلا من خديعتنا بأحجية الخلود التي نصب كمائنها على منعطفات العصور، لا نحن نصدّق حقيقته ولا يكفّ هو عن إيهامنا بما ليس فينا وبما ليس فيه. نتقبله كأنه توأمنا المتخفي، ظلنا وقريننا الذي يلازمنا ويرسم أقدارنا ونحن نتغافل او ندعي الغفلة إزاء تدابيره المحكمة. نخادع احلامنا ويقظتنا لعلنا نقطف المزيد من مادته الزئبقية ونحوز ساعة تضاف الى أعمارنا الفانية. مع هذا، نحب هذا العدو اللئيم المراوغ الذي يساكننا طويلاً ثم يهدرنا في لحظة محتومة.

امرأة الطبيعة تحتل المستقبل

في كتابها الممتع والأصيل حول امرأة الطبيعة، "نساء يركضن خلف الذئاب"، تقول كلاريسا بنكولا إيتس عن علاقة المرأة البرّية بالزمن: "تعيش المرأة البرية في قاع البئر، على سطح الماء، في الأثير قبل الزمان، تعيش في الدموع والمحيطات يسمع أزيزها من لحاء الشجر وهو ينمو، إنها آتية من المستقبل وفجر الزمان، تعيش في الماضي وتحضر عندما نستدعيها، تعيش الحاضر وتأخذ مكانها الى مائدتنا (...) وتوجد في المستقبل". هكذا هي المرأة الوحشية الاولى التي تحتل مستويات الزمن وغالباً تملك مفاتيح المستقبل وتنوجد فيه كما تنوجد في الماضي، أراغون قال "المرأة مستقبل الرجل"، لكن اشبنغلر سبقه الى اعتبار المرأة هي المستقبل، تشير الى الغد بجميع افعالها الحيوية وعرافتها وسحرها وانوثتها ونورها وعتمتها. قال في كتابه الكبير "تدهور الحضارة الغربية"، إن "المرأة عرّافة بالفطرة، ليس لأنها تعرف المستقبل، بل لأنها هي المستقبل". نساء اشبنغلر، العرّافات والولودات واللاتي يقضين في المخاض والحروب، وكاهنات الحب والساحرات والمشعوذات، يمثلن في مسافة الرؤيا، في المستقبل الذكور المتحكمون بالزمن التاريخي غايتهم في حروبهم المرأة – المستقبل، يوقعون عليها أفعال معاركهم من سبي واغتصاب، فكيف ترد النساء على تاريخ الرجال الملطخ بدماء ابنائهن؟ يروين القصص فيستدعين الماضي ويحلمن ويحكين الرؤى فيدخلن المستقبل وتهيمن براعاتهن السحرية على الحاضر بالفن والشعر الذي يمد الزمن ويطيله فيجعل الحاضر كثيفا وممتلئا بالمعنى. امتلاك المعنى يعني الامساك بالزمن ووعيه. المرأة المتحضرة خضعت لتدجين الزمن العادي ونسيت عرافة جداتها البدائيات اللائي امتلكن ناصية الازمنة كلها. الفن يساعد، يعين ويفتح للخلاّقة والمرأة الوحشية منافذ الزمن وفضاء الرؤيا لتعود سيدة للمستقبل والزمن كله.

 من يصنع مادة الزمن؟

 لو سلّمنا بمقولة كانط عن استحالة تعريف أبعاد الزمن الثلاثة، الماضي والحاضر والمستقبل، فإننا سنغرق في خواء المقولات الفلسفية ونتبدد ونبدد الزمن في تساؤلاتنا. وضع كانط امامنا شرط المستحيل، فالماضي هو الذي تبدد وما عاد موجودا، والمستقبل هو ما لم يحن أوانه بعد، فلا يتبقى من ممكن خاطف كالبرق الخلّب إلا الحاضر وهو ليس الوقت كله لكنه الزمن الذي تدركه الحواس ويعيه العقل وتعبره اجسادنا الحية في حركتها او سباتها. يقول القديس أغسطينوس إن الزمن هو أكثر من الشيء، فهو بُعد الوعي الذي يتوجه انطلاقا من الحاضر نحو المستقبل في الانتظار، ونحو الماضي في التذكر، ونحو الحاضر في الانتباه. على هذا، فالحاضر هو برهة انتباهنا لوجودنا في المكان والزمان، او كما يقول برغسون "لا وجود للماضي ولا للمستقبل: ليس الوقت إلا هذا الشعور بالتعاقب لهذه اللحظات الآنية. وإن ذكاءنا هو الذي يفهم الوقت انطلاقا من اللحظة الآنية، يربطه بالمكان لأن الآنية ليست من طبيعة الزمن، وإنما من طبيعة المكان. في مقابل هذا الزمن الفيزيائي، هناك الزمن النفسي، الديمومة. وفي الديمومة من حيث هي الزمن الذي نحياه ونشعر به، وحين لا نبحث فيه. لا يتصف بالآنية وإنما يختلط فيه الحاضر بالمستقبل والماضي. فهذه الأزمنة الثلاثة لا تتتالى وإنما هناك زمن واحد يختلط فيه كل من الحاضر والمستقبل والماضي. الديمومة ليست آنية، هي متصلة، لأن الشعور في حاضره غير منفصل عن ماضيه، ومقبل في الوقت نفسه على المستقبل. كما أنها ليست قابلة للقياس ومتجانسة. هذا هو الزمن قبل أن يتصرف فيه ذكاؤنا ويفككه إلى لحظات متمايزة".
الزمن عند هايدغر هو ما يحقق لنا الوجود. فهو يرى أن الزمن يقذف الإنسان باستمرار، وهذا ما جعله الوحيد يوصف بأنه موجود. فالوجود لا يعني الخضوع للزمن وإنما أن يقذفك الزمن دوما نحو المستقبل، ونحو الممكن، ويكون عليك الاختيار وتبرير الاختيار: هذا هو القلق.

تقاويم الزمن

"أوقات الحماقة تقيسها الساعة، وأوقات الحكمة لا يمكن الساعة أن تقيسها" (وليم بلايك)

واضعو التقاويم خدموا الشمولية، كما لو كان هناك زمن واحد ومجتمع واحد وحقيقة واحدة. خدموا الرؤية الواحدة للكون، نقضوا الاختلاف، غادروا الجغر افيا وسكنوا التاريخ، صنعوا لنا روزنامات وانواعا من التقاويم، وحشرونا في اقفاص الزمن. يوم الاحد في بغداد قد يكون يوم الاثنين في اوستراليا او نيوزيلندا، ويكون يوم السبت في هاواي. يوم الخميس في اوستراليا هو يوم الاربعاء في بيروت. ليس للزمن حقيقة ثابتة، ككل شيء في هذا الكون الذي تنقض احواله النظريات المتغيرة كل آن.
 نعيش الآن في زمن المجاز، نعيش عصر التزامن لا العصر الكرونولوجي. هناك تقاويم متجاورة ومختلفة في معاييرها واحكامها، طوِّعت بحسب رؤى كهنة وحكام وربما سحرة ومشعوذين. ولطالما قيل لنا ان التقاويم محاولة في تحقيق التناسق، وقد تكون في الواقع محاولة تقوم على وهم التناسق بين الجغرافيا والزمن. العشوائية هي التي تتحكم الى حد بعيد بحركة العالم على رغم ما يبدو عليه من نظام صارم.
الحياة خارج التقاويم تقدم نفسها بلا تعهدات او مقدمات، كريح جامحة، كوردة الحقول البرية، تتفتح وتتألق وتجف وحدها وتنثر بذورها في عراء العالم، لتعاود الظهور مرارا في دورتها الابدية.
الحياة الطليقة لا تتحمل القياسات. حجر الزمن في التقويم لا تحبه، لكن البشر المرتعشين اشفاقا من الموت يحاولون اقتناص الزمن وتدجينه في التقاويم كوسيلة شعائرية لدرء خطر الموت المتربص، متوهمين امتلاك الزمن والتحكم بالافق الذي يطل الموت عند حافاته القصوى. تقويم البوذية لا يبدأ من لحظة حياة وقيامة بل من سنة موت بوذا. كأنها تعويذة للعود الابدي، نقيض التقويم الميلادي الذي يؤشر الى ميلاد السيد المسيح.
روزنامة القمر اول تقويم بشري ظهر في مدينة نيبور (نفر) السومرية قبل نحو سبعة الاف عام، باستخدام تحولات القمر ووجوهه، وقد احتوى التقويم الذي وجده المنقبون في نفر على ارقام السنوات المتتابعة. لم يكن غريبا على العراقيين القدامى ان يستكشفوا السماء ويتعلموا منها حساب الزمان، فهم الشعب الوحيد ربما في هذه الارض ممن ينامون على سطوح المنازل هربا من حر الصيف اللاهب، تتلألأ لياليهم بالنجوم وتسحرهم حركة الافلاك. المتعبدون والعشاق يجافيهم النوم مرارا فيفكر العاشق شعرا ويعمد الكاهن الى حساب الزمن ليفتح المعبد صباحا ويقيم العبادة وينحر الاضحيات ويحرق البخور.
اهل سومر كانوا صيادين ومزارعين وملاّحين، دفعتهم مواجهتهم الدائمة للأنواء الى اختراع تقويمهم القمري الزراعي ومعه اكتشفوا ان العالم يتجدد دوريا، وأن نشأة الكون ستتكرر شعائريا كل سنة جديدة. هذا ما برهنت عليه الحضارات الرافدينية والهندية والفارسية والفرعونية (الحضارات النهرية الزراعية)، فقد خبرت هذه الثقافات تجربة الزمن الكوني، بخاصة في الاعمال الزراعية، ثم انتهى بها الامر الى فرض فكرة الزمن الدوري والدورة الكونية. بارتباط حياة الانسان بالنبات، تتكرر الحياة بإيقاع كوني لانهائي: ولادة – موت - عودة الى الحياة. هكذا كان يحتفل اهل بابل كل ربيع بقيامة تموز المختفي نصف عام في عالم الموتى، ويعتبرون موعد قيامته بداية العام الجديد مع تفتح الارض وظهور النباتات وتكاثر الكائنات. بمعنى آخر ان احتفالات السنة البابلية الجديدة في عيد أكيتو، تقوم على مبدأ الخصوبة وقيامة الاشياء من سباتها، ولا تزال جميع الاعراق والاديان والقوميات العراقية والمذاهب تحتفل بأعياد الربيع ضمن شعائر وطقوس تختلف حينا او تتشابه غالبا في الميعاد ذاته بين 21 اذار واول نيسان.
يقول العلم: فكرة الزمن غير واردة في الفطرة البشرية، فالرضيع يعيش في الحاضر وهو بلا ماض ولا يمكنه تصور المستقبل. تختلف فكرة البشر في الثقافات المختلفة عن الزمن ويقال ان لغة هنود اميركا من قبائل هوبي المسالمة، تفتقر تماما إلى الصيغ الزمنية للدلالة على الماضي والحاضر والمستقبل، فهؤلاء يعيشون في "حاضر لغوي" مستمر بلا انقطاع، وتتمحور فكرة الزمن لديهم حول حصاد الذرة او ولادة المواشي.
يبدو ان الانسان الفطري يعيش البرهة المخلدة او برهة الابدية التي بلا قياس وبلا بداية او نهاية، وهذا ما بشرت به "ما بعد الحداثة" التي تعتنق سيولة الزمن بلا قياس.
فكرة الزمن عند عرب ما قبل الاسلام كانت مرتبطة بمواسم الغزو والحروب بين القبائل، فكانوا يؤرخون الاحداث الشخصية بالغزوات والمعارك.

عصر البراءة المتخيل

الأبدية شغوفةٌ بأعمال الزمان (وليم بلايك)

قيل في اساطير بعض المعتقدات أن الانسان نُفي من عهد البراءة المزعومة (هل كان ثمة زمن بلا آثام؟!)، حينئذ سقط من الزمن إلى المتاهة الكبرى – الحياة، ووجد نفسه بلا دليل ولا علامة تأخذه إلى طمأنينة القلب، وما لبث بعدما اثقلت كاهله رحابة الحرية والزمن اللانهائي، ان وضع نفسه طوعا منذ تلك اللحظة حتى يومنا هذا في قفص التاريخ، وشرع يدوّن الايام ويقسم المواقيت. صار أسير الزمن المحدود المقنن بعدما كان سيد الهيولى وحاكم الزمن السائل الدفاق يغترف منه بلا حساب ومن دون محاسبة من التقاويم وما تبعها من أغلال. صار الانسان أيضا رهينة البيت الذي استعبده بالاستقرار المريح والبليد في احيان كثيرة، وكان يتساءل بدافع وجودي محض: لماذا يستقر المرء في المكان والزمان، في حين أن الحياة تتبدد كل آونة؟ مرارا كرّر المتمردون السؤال، ومرارا جُبهوا بالخذلان من سادة الوقت وأهل السلطة.
تمثل الحركة في الامكنة نوعاً من تحدٍّ للزمن، ويعين التجوال والترحل في جهات الدنيا على تمديد الزمن الذي يضيع ويتبدد من بين عيوننا. البابليون كانوا سادة زمنهم، حتى ظهر إلههم الدموي مردوخ، قاتل الأم الاولى تيامات، ربة الغمر المالح التي ألقى عليها شباكه الفولاذية وقطع اوصالها ليصنع منها جغرافيا لممالكه، ثم اقتنص الزمن كما تخبرنا قصيدة الخليقة "إينوما ايليش"، او "حينما في العلى". كيف قسم مردوخ الزمن وسيطر على دفقه العشوائي: صنع مردوخ منازل للآلهة/ خلق الابراج وثبتها في أماكنها/ حدد الأزمنة: جعل السنة فصولاً/ ولكل شهر من الأشهر الاثني عشر ثلاثة ابراج حدد الايام بأبراجها/ في الوسط ثبت السمت/ والى الشرق والغرب فتح بوابة/ وسلّط القمر على الليل/ وجعله زينة في الليل/ به يعرف الناس موعد الأيام/ في بدء الشهر يطل القمر/ يحدد الأسبوع. بعد اسبوعين، في نصف الشهر/ يواجه الشمس يكون بدراً/ ينحسر ضوء الشمس عن وجهه، يصفر/ يدركه المحاق، يعود ثانية.
بهيمنة عبادة مردوخ بدأت السلطة الذكورية الدموية في بابل ترسخ نظامها وعنفها بهيمنتها على الزمن.

تقاويم الثقافات المختلفة: فخاخ الزمن
بعض التقاويم القديمة قامت على خرافة، بعضها على حاجة اقتصادية وروحية، القسم الآخر لمبرر سياسي. فالتقويم الذي فرضته الشريعة اليهودية على عهد الملك سليمان اقترح بداية التقويم اليهودي اعتبارا من تاريخ الخلق والتكوين، ومن ثمّ بدأوا يؤرخون سنواتهم تباعا بعد هذا التاريخ. وقد حددوا بداية الخلق قبل 2860 سنة من حكم الملك سليمان الذي تولى الحكم حوالى العام 900 قبل الميلاد، وعليه يكون تاريخ الخلق وفق حساباتهم، واستنتاجا حسابياً، في السنة 3760 قبل الميلاد .
حضارات أميركا الوسطى، وبخاصة حضارة المايا خلال القرن الثامن قبل الميلاد، اعتمدت في حسابها برهات الزمن على الرمز والصورة، وكانت تقسم الايام مجموعات وكل مجموعة تضم عشرين يوما وتضم سنة المايا ثماني عشرة مجموعة من الايام أي 360 يوماً، تضاف إليها خمسة أيام كان يُطلق عليها أيام الشؤم التي لا يقدمون فيها على عمل او رحلة او زواج. شكّل عدد أيام سنتهم دورة للأرض حول الشمس مع فارق يبلغ ربع اليوم. ولا يختلف تقويم حضارة الأزتيك في المكسيك القديمة عن تقويم المايا، فكانت سنتها تتألف من 365 يوما، وكلا الحضارتين صوّرت التقويم السنوي بهيئة قرص مستدير مزيّن برسوم ورموز مختلفة تمثل العناصر والعوامل الطبيعية كالريح والنار والرعد والصواعق والأمطار والزلازل والبرا كين ورسوم الألهة والحيوانات الضارية والنباتات والأعشاب، وكل عنصر له رقم خاص به بدءاً من الرقم واحد الى 13. ويستدل الكهنة والمنجمون والسحرة على اقتران الرقم والرمز الموافق له لتأويل الأحداث والمناسبات كالزواج والولادات وغيرها من الأمور الحياتية ويقررون ما إذا كانت بشائر سعد أو نذير سوء. وكان التقويم الأزتيكي يتضمن تفسيرات وتأويلات لمجمل الشؤون الحياتية وكان الناس يستطلعون رأي المنجمين في شؤون الحياة اجمعها.

الاستبداد والزمن

 المستبد لا يحتل المكان فحسب بل يمسك بالزمن ويمتلك الايام والتقاويم ويغيّر فيها ما يشاء ويفرض اعيادا ومناسبات تخص زمنه وسلطته، حتى ليتحول تقويم البلاد ملكية خاصة لكل قوة متسلطة في زمنها، فيعمد المهيمن على السلطة الى الاستعانة بأساطير الماضي وأحداثه التي تتداخل في متون التاريخ، ويفرض الماضي كشأن قائم يحتل الحاضر ويسيّره ويتحكم فيه. وبهيمنة الماضي وشخوصه ومفرداته على الزمن المعيش، ينسحب الحاضر ويتوارى وتدور دائرة الزمن ضد طبيعتها الكونية الاولية، فتستعاد احداث الامس وطقوس الخرافة وينزاح زمن الحاضر وراء سلطة الماضي. ويؤمن المستبد – سواء أكان واحدا ام جماعات ذات عقيدة ما - ان السيطرة على الزمن تعني السيطرة على الامكنة والبشر، وبالعكس.
حقق استخدام الاسلحة البدائية كالرماح القصيرة وكرات الصخور المقذوفة والسهام، سيطرة المحارب التابع للحاكم على المسافة - المكان، ثم عزز اختراع العجلة هيمنة الاباطرة على المكان والزمان معاً، وبدأ توسع الممالك والاقطاعيات باختراع العجلة وصنع العربات مما دفع بشهوات الاستبداد قدما للاستيلاء على البلدان ووقف الزمن ولو شعائريا.
صانعو أساطير سومر كانوا يعانون من نوستالجيا تؤرق حاضرهم، وقد سكنهم الحنين الجارف إلى حقبة فردوسية في جنة دلمون حيث الزمان الخليقي الأول، قبل ان يفسد الوقت بتتالي القرون، عندما كان كل شيء بريئا وطاهرا في جنة أولية لا تزال فيها الانسانية والمخلوقات الاخرى تحبو في مسيرة الكينونة ووعي الزمان. وقد أسس اهل سومر ذاكرة شاسعة لتلك الحقبة الجنينية وعمدوا إلى الحلم باستعادة تاريخ البراءة حيث الأسد لا يفترس الحمل، والانسان لا يشيخ، والثمار لا تفسد. وفي ظني ان اختراع ذلك الحلم الفردوسي كان محاولة للنجاة من العماء الأولي الذي تقول به الاساطير الأخرى وهي تهددهم وترعبهم بفكرة العدم وعشوائية التكون.
التحرر من سطوة الزمن
اسمعِ الصوتَ/ اسمع صوت المغني!/ الذي يرى الحاضر، والماضي، والمستقبل؛/ وأذنه سمعتْ الكلمة المقدسة،/ التي سرت بين الأشجار العتيقة/ منادياً الروح المرتدة (وليم بلايك)

عندما اكتسح الهيبيون ساحات اوروبا واميركا وحقولهما في نهاية الستينات ومقتبل السبعينات وأقاموا احتفالات الحب الحر والموسيقى في الهواء الطلق وعلى ضفاف الانهار، كان اول رد فعل على مناهضتهم لمجتمعاتهم المتكلسة المحنطة في تقاليدها، انهم استهلوا احتفالاتهم بالتخلص من ساعاتهم التي ألقوا بها في الانهار. كان المشهد مفعماً بأحاسيس التحرر من قيود الزمن والأمكنة والتقاليد الخانقة.
لي قصة اسمها "الساعات"، كتبتها في 1978 وظهرت في مجموعتي "اذا كنت تحب". زوجان اعتزلا العالم وتخلصا من اجهزة الراديو والتلفاز ويعيشان في عام 1998 أي بعد عشرين عاما من زمن كتابة القصة، تنبأت فيها بحدوث حروب جائحة تغيّر اوضاع بلدهما وخرائط العالم. يحتفظ الرجل بعدد هائل من الساعات المختلفة الطرز في البيت، وتكاد المرأة تجنّ في عزلتها محاطة بالتكتكات والرنين وأصوات ساعات الكوكو. كل شيء حولها يذكّرها بمرور الزمن وتبدّده. مراراً تجادل زوجها حول جدوى آلات الزمن التي تعذّبها، فيردّ عليها: لكي لا نغفل عن الزمن ونحيا كل لحظة تولد، ونتذكر أنه يمضي ويضيع. وفي فورة انفعال مباغتة ضد العزلة، وهي تنتظر زيارة حشد من اصدقاء الأمس يخططون لكسر عزلتها، تُقدم المرأة على انتزاع الساعات من فوق الجدران والمناضد وتضعها في كومة وتبدأ بتحطيمها، ويتم لها ذلك. يتسلل اليها صوت طائر يشدو، وتسمع حفيف الشجر في الحديقة ووقع الخطى على الرصيف عندما تطلق الزمن من أغلال الساعات (ومن غرائب المصادفات التي لا نجد لها تفسيراً منطقياً انني فقدت ساعة يدي في البيت بعد الانتهاء من كتابة هذه الفقرة واختفت الى الأبد، وكأن ساعتي احتجت على فكرة تحرير الزمن ونقض التقاويم وتدمير اجهزة قياس الوقت).
سعى المتصوفة الى محو الزمن الارضي والتحليق في الزمن المطلق، على الضد من صانعي اساطير سومر الذين كانوا يعانون من نوستالجيا شجية لزمن فردوسي أرضي في جنة دلمون، يحاولون استعادته ويكابدون المستحيل في تمثله من جديد، فكان ان ألّفوا المراثي والحكايات عن تلك الحقبة المفقودة من فردوسهم الذي سكن الذاكرة وحفز الحلم. كتبوا على الطين المشوي تلك الأساطير، لعلها تخفف من سطوة هذه النوستالجيا وتلطّف حرقة الحنين الى زمن البراءة الغابر، حيث كان الأسد يرعى مع الحملان، وحيث لا مرض ولا شيخوخة، والكائنات تحتفظ برونق الفتوة والصحة في ذلك الفردوس الذي يتوقف فيه الزمن عن ملاحقة الجمال وتبديد الشباب وتفجير العنف والضراوة بين الكائنات. زمن بريء من كل سوء، وفي انتظار الحلم المضيّع، عمد السومريون إلى ملء الزمان والمكان بالمنحوتات والابتكارات العظيمة، بأغاني المهد وتراتيل العشق والتعبد والرقص وقصص الخليقة والتحليق بين النجوم. ادركوا في لحظات الإشراق القصوى ان رثاء الحاضر والتوقف عند تشهي الفردوس المفقود سوف يبطئ حركتهم في الزمان والمكان فلامسوا لحظة الابدية ضمن انشغال كوني تجسد شعراً وابداعات فنون.
يخبرنا اوكتافيو باث أن زمن "ما بعد الحداثة" هو الزمن بلا قياس، ينعدم فيه التفاؤل والحلم بالمستقبل الذي كرّست الحداثة عبادته. زمن ما بعد الحداثة، لا يقترح فردوسا ولا يتيح مدى للحلم به إنما يعترف بالموت، لكنه يعانق فكرة كثافة الحياة، وفي البرهة ذاتها يتصالح الجانب المظلم والمضيء في الطبيعة الانسانية، وفي تلك اللحظة عندما تنعتق الساعات من المحددات يسير الزمن وفق ايقاعه الخاص وتمتلك كل حضارة ساعتها الخاصة وايقاعها الزمني .


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  لطفية الدليمي


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni