... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  في السياسة

   
فنطازيا المثقف العراقي

علي حسن الفواز

تاريخ النشر       08/02/2011 06:00 AM


يبدو اننا نبحث دائما عن توصيفات استثنائية لظاهرة المثقف العراقي، اوربما لطبيعة تمظهراته في فضاءات الثقافة، تلك التي صنعت منه سياسيا وايديولوجيا وناقدا وثائرا، او صنعت منه بالمقابل حالما يجترح حلولا سحرية لأزماته الدائمة والمثيرة مع التاريخ والخطاب والسياق والسلطة.. هذه التوصيفات ومعطياتها تضع الصناعة الثقافية امام الكثير من الأوهام، وأمام اغتراب الكثير من الأسئلة، فهل يمكن للثقافة ان تكون تعويضا عن الإشباع؟ وهل يمكن للمثقف ان يكون هو الكائن المخلّص بامتياز لنوعه ولخطابه؟ او ان يكون البطل التراجيدي الذي يملك شرط الانقاذ والتطهير واعادة تأهيل المكان والمكين، الجلد والروح، اللغة والجسد، الهوية والوجود، فضلا عن حيازته مصادر القوة الاخلاقية للذات، باتجاه تخليصها من المهيمنات الراكزة في اللاوعي للتاريخ والسلطة والمحو التي وصلت حدّ العدوى...

هذه الخلاصات والحلول بات يدرك خطورتها المثقف العراقي، لانها جزء من مشكلات وعيه، لكنه بالمقابل يفتقد ايضا القدرة على مواجهة الكثير من تداعياتها لانه تعود على التلذذ بدور المطرود والمهمّش والمنفي وغير الفاعل ازاء هزائم الذات، واغتراب الهوية، وضياعه وسط مهيمنات مراكز الدولة القديمة والحزب القديم والايديولوجيا القديمة والفقه الديني القديم. كل هذه المهيمنات فرضت عليه شروطا مشوهة للمواجهة والبطولة والالتزام؛ بدءا من غواية الانتماء الى الايهام ببطولة فردية مضخمة وصولا الى الانخراط في الحياة اليومية غير المستقرة وغير الباعثة على الاطمئنان، تلك التي قادت الكثير من المثقفين الى خيارات قهرية بين السياسة والسلطة والمنفى، وربما التورط في شعاراتية حروب الفنطازيا تلك التي وصف بعضها البيان الشعري عام 1969بانه (ثائر تقدمي يخوض حروباً مستمرة ضد انغلاقات المجتمع: ضد العبودية، ضد الاستغلال، ضد البيروقراطية)، فضلا عن الانغمار باوهام طاعنة في الايديولوجيا والهوية الصافية.

المثقف وسط هذه المتاهة لم يتحول الى بطل عضوي للتعاطي مع فكرة الدولة، بل ان الدولة (دولة القهر والاستبداد والحروب والصراعات) هي التي هرسته تماما وأدمجته في مؤسساتها، والمثقف الخارج عن هذا المعيار سقط في السجن او المنفى او الموت. عزلة هذا المثقف ونكوصه والاحساس الغرائبي بالخطيئة والخوف والريبة والسقوط الاخلاقي في فخ الحكومات هو الشعور الضاغط الذي فرض نفسه على الكثير من المثقفين العراقيين طوال أكثر من عشرين سنة، وأحسب ان هذا التوصيف هو ما جعل مرجعيات العلاقة بين المثقف العراقي والسلطة لاتحمل أثرا طيبا ولا تحمل أثرا يفتخر به المثقف، فالسلطة (نموذج الدولة) فرضت شروطا قاهرة وضاغطة في بناء نظامها المؤسسي الصارم الذي يجمع انثربولوجيا المثقف بكل توصيفاته العلمية والاكاديمية والابداعية مع (الاميين) الذين استعانت بهم السلطة لصناعة انقلاباتها وأنماطها وقوتها، اذ اقترحت لهذه الاناسة القهرية انماطا وانساقا من الانتماء العمومي الخاضع الى نظام التحزب والتأدلج اللذين يصنعان نموذج (التابع)، والتلذذ تماهيا بالخضوع الى توصيفات الولاء لقيم (الثورة) وعدم معاداته لافكارها وتوجهاتها وأهدافها، كشرط أساسي للقبول في السياق وممارسة العادات الثقافية. فضلا عن ان خوفها القديم الذي لا يرى في المثقف وأقصد هنا من يشتغل في (الابداعيات الأدبية) جعله خاضعا بقوة الى هذا النسق، اذ لايبدو امامها سوى مهرج او تابع او صانع تزجيات او موظف في الثقافات العمومية، والمثقف بالمقابل كان يتحسس من رعب هذه التبعية القهرية، لا يرى في السلطة الا المزوّر الاكبر للتاريخ والحكاية، او ربما هي بيت المال القديم الذي لا يمكن ان يمنحه صفة الرعوية المالية الاّ بشروط الرعوية والخضوع والتذلل، وهي مركز الشرطة الذي يصيبه بالهلع دائما.

هذا الخوف المتبادل والشك العميق والتقاليد التي تحولت الى احكام وسياقات واحيانا قوانين، فرضت منظورا تراجيديا للسلطة / الدولة، والسلطة / الحزب، والسلطة / الامن، والسلطة / اللغة. مثلما جعلت المثقف ذاته ابعد من ان يكون مثقفا اجرائيا او عضويا بالطريقة الغرامشوية، تلك التي كثيرا ما يدعيها البعض، ويفلسف وعيه الايديولوجي على قياسها، فهو لم ينفذها كانتماء او كبرنامج، ولم يدرك مهنيتها، قدرتها على صناعة وعيه الفاعل، ولا حتى شروطها الاجرائية والنظرية في الفقه الماركسي التقليدي الصانع الازلي لمقايسات الثوار والثورات. كل ما كان يفعله السيد المثقف هو السكن في تجمعات او تنظيمات لم تتحول الى مؤسسات ضاغطة، مثلما هو التورط في حروب لغوية لم يجد ادواتها وحرفتها بقدر ما تلمس لذتها، لذلك هو الظاهرة الصوتية الاكثر دويا، وهو المهزوم دائما والمسجون دائما او الاحتجاجي خارج دائرة الوصيا وحساباتها.

المثقف بميراثه الازموي وتاريخ مطروديته القديمة والحاضرة لا يمكن ان يمارس انقاذا عجولا لمحنته ولمحنة الابناء والمريدين. والسياسي (بمعناه الاجرائي / السلطوي) العالق بحبال السلطات المتورطة حدّ النخاع بالتلصص والمراقبة والهلع من الآخر، لا يشاطره لعبة الانقاذ تلك، لان الحلول التي تأتي سريعا هي حلول سياسية دائما.. والايديولوجي (المتحزب / الخانع لشرط الوصايا واللون) المسكون بمحنة القياس وأزمات صراع الحروب الباردة والساخنة، متورط هو الآخر في حماية معسكراته الخلفية من لصوص الحداثة الذين بشرّوا بموت الايديولوجيا.. هؤلاء جميعا لا يمكنهم ان يجدوا حلولا استثنائية لهذه الأزمة الطاعنة....

فمن سينقذ توصيف المثقف من هذا اللغط؟ ومن سيعيد اليه الاطمئنانات الغائبة، والدور العضوي البعيد عن الحزب والمقدس والمركز؟ من يمنحه لذة اشباعاته العاطلة في حميمية الحوار والتناسل والسفر والجنس والطقوس؟ من سيحرر المكان / المقهى / المؤسسة / الجريدة من عقدة الآباء العرابين والثوار النطاحين؟ من سيحرر النص من غلواء المفسرين والمؤولين واصحاب الكنايات الذهبية؟ ومن سيمنح المثقف إحساسه بالحرية وينقذه من عقدة السقوف الخفيضة؟

ربما يبدو الحل بعيدا، والضوء غير ناجز في الافق القريب، وهذا ما قد يجلب اليأس للكثيرين ويصيبهم باللاجدوى، يعيد المثقف الى لعبة نكوصاته القديمة، احساسه باللاجدوى، ونفوره عن المكان، عودته الى صناعة أوهام البطل العضوي المغيّر، والمحارب والمنتمي، لكنه بالمقابل المسكون بـ(غريزة) المقهى وغريزة السجن وغريزة الجسد.

تجارب العالم والأمم التي سبقتنا وعاشت صراعات وحروبا اقسى منا، ومع هذا فهي قد أنجزت حضارات هائلة فيما بعد، ركضت صوب المستقبل بروح واثبة، تركت وراءها أزمة تقسيم الناس وتوصيف المثقف والمواطن، فهل نحن أمة مختلفة واستثنائية؟ وهل نحن شعب لا يشبه الآخرين حقا؟ او اننا قبائل وطوائف لا نؤمن بسلامة العيش والرفاهية والشراكة مع الآخرين الاّ على أساس هذا التقسيم المرعب، والايهام بسلطة النوع الصافي والعقل الصافي.

اظن ان هذا أشبه بالفنطازيا، او ربما هو أشبه بالوقوف عند بيت الاشباح، الذي لا يعطينا سوى الاحساس بالفزع والبقاء خارج الأمكنة، والخوف من عدوى الآخر، تلك التي تجعلنا بعيدين عن الحضور المادي الاجرائي والواقعي للحضارة الانسانية (بشرها وعلومها وثقافتها وحضارتها) تقوم أساسا على فكرة طرد الاشباح، والشراكة مع الآخر تحت قانون التعايش، مثلما تقوم على وفرة المعطيات المادية والفكرية والبرامج والنظم والمنظومات المعلوماتية والتخطيطية، فضلا عن جدل الثقافات والارادات وحوار القيم وتفاعلها باتجاه انجاز حضارة جمعية يؤنسن فيها الانسان وجوده وحريته وخياراته في اطار المرجعيات والهويات المختلفة والمتنوعة والسعي الى فاعلية حية تصنع زمنا وحضارة ومكانا يتسع للجميع....

إن أزمة العنف والارهاب التي تجتاح المكان العراقي لم تأت من شقوق الأرض او من الفراغ ، قدر ما هي صناعة تراكمات من الرعب والإهمال والتهميش الثقافي والانساني وتكريس الإيهام بالأشباح والعدوى، مثلما هي نتجة لهيمنة المراكز الابوية، وامتياز اراداتها التي لا تؤمن بشراكة الخيارات، وهذا ما يجعل هذه الأزمة تستشري وتكبر وتصيب البشر بصداع الخوف والقلق وقلة الأمن والزاد..

إن محنة المثقف تكمن أولا في مطروديته خارج المركز، وتكمن ثانيا في فرجته السلبية والتي وضعها المثقف في سياق الايديولوجيا، او في سياق العزلة، او في سياق السلطة ذاتها.. فكيف يمكننا ان نبحث عن دور للمثقف؟ وكيف يمكننا ان نؤكد عضويته وهو لم يكن بطلا في يوم من الأيام، سوى ما تركته لنا خطابات الايديولوجيا من غرائز احتجاجية؟

هذه المحنة تركت لنا تاريخا من التوصيفات الاشكالية للمثقف، في التعريف وفي الدور، وفي انتاج القوة، خاصة تلك القوة التي يمكن ان تجعل الثقافة مثالا ساميا في صناعة المعيش والأمان قبل البحث عن مظاهر لصناعة الوعي، اذ يكون فالامان هو الارض والوجود، وهو مظاهرها الانسانية القارّة في تشكلات وتأسيسات، وهذا ما يجعل المثقف يدرك خطورة عطالة المكان، مقابل حضور المنفى، وعطالة الوعي في المكوث الاشكالي في الماضي بكل عقده وأزماته وأوهامه وايقونات متحفه، لان صمت المثقف وهزيمته يعني هزيمة وعي الناس وضميرهم وقدرتهم في التعبير والكشف وفي البحث عن اشكال صالحة لوجودهم، مثلما هو البحث في إيجاد حلول واعية وعادلة لأزماتهم المعقدة وسط استشراء حروب الشارع وحروب الزوايا وفخاخ الثقافات السرية...

أليس من حقنا إذن عن نبحث عن حلول فنطازية لدور الثقافة والمثقف، وعن ابطال تراجيديين على طريقة ما أوردته مدونات المخيلة اليونانية والعربية لكي ننقد ارواحنا وحرثنا ونسلنا وأرضنا وكتبنا وليالينا من الخراب الذي يصنعه البعض دون ان يرفّ لهم ضمير؟....


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  علي حسن الفواز


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni