... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
الشعر؟

علي الشوك

تاريخ النشر       09/02/2011 06:00 AM


كنت أعود بعد الظهر (في الخمسينات) الى المدرسة، وأدخل غرفة المدرسين، فأراه مستلقياً نصف استلقاء على الأريكة بقامته المديدة وبشرته السمراء المحروقة، يترنم بالبيت الآتي: «صدّ الحبيب ولج في هجراني / وجنى عليّ وقال أنت الجاني». وفي أحيان أخرى يترنم بالبيت الآتي: «لا تقولوا صدّ عنا وجفا / عندكم روحي وعندي بدني».

كان هذا الزميل مدرّساً للغة العربية، من آل الفرطوسي. الشعر لا يفارق ذاكرة النجفيين.

لن أتحدث في هذه الخاطرة عن الشعر الحديث، لا لأنني لست أميل إليه، بل لأن الذاكرة لا تحفظه، ولأنني لا أحتفظ بنماذج منه. وأنا لست من أنصار الشعر الكلاسيكي، لأنه يضجرني في كثير من نماذجه. لكنني وجدت متعة كبيرة في بعض نماذجه، النادرة على أية حال. فالسأم يتسلل إليك حتى حين تقرأ ديواناً لأبي تمام، أو المتنبي. وأذكر في هذه المناسبة أنني كنت في مجلس صغير جمعني مع سيدات وسادة، وسمعت أحدهم يفضل شعر المتنبي على أدب الغرب. ففقدت هدوئي وقلت: «بل إنني أفضّل رواية «الحرب والسلم» وحدها على كل شعرنا القديم». ثم ندمت على رد فعلي مدركاً أن من غير الإنصاف مقارنة شعرنا القديم كله برواية واحدة حتى لو كانت عظيمة جداً...

لكن ما الذي يدعوني الى الإعجاب بشعرنا القديم؟ آه، لأنه كمّ هائل، لا يأتي إلا بعد الكم الهائل من الشعر الصيني القديم، لذلك سأتراجع وأقول إننا نجد الكثير من النماذج الجميلة من بين هذا الركام الهائل من الشعر. وكنت أود أن أبدأ بشعر مما يندرج في إطار الممنوعات... هناك أمثلة كثيرة مما يعتبر من شعر الممنوعات لن أستطيع التطرق إليها. ولولا هذا لبدأت بذكر بيتين من الشعر مذهلين قالتهما إمرأة أموية - تأملوا - تتحدى فيهما ضوابط تتمسك بها حتى مجتمعاتنا العربية المعاصرة. ويحزنني أيضاً أنني لا أستطيع أن أذكر أمثلة كثيرة أخرى لهذا السبب. لكنني مع ذلك سأبدأ بذكر أبيات غير صادمة لواحد من الشعراء المتمردين على القيم، هو الخليفة الأموي «الخليع» الوليد بن يزيد بن عبدالملك. له بضعة أبيات رقيقة جداً من بين ما سلم من ديوانه المفقود. وأنا أعجبت بهذه الأبيات لرهافتها، مع انها قد تصلح لشعر الأطفال:

خبروني أن سلمى/ خرجت يوم المصلى

فإذا طير مليح/ فوق غصن يتفلى

قلت من يعرف سلمى؟/ قال ها، ثم تعلى

قلت يا طير أدنُ مني/ قال ها، ثم تدلى

قلت هل أبصرت سلمى/ قال لا، ثم تولى.

هذا شعر جميل لا يقوله إلا شاعر مرهف. والوليد هنا، وفي نماذج أخرى، كان سباقاً لأبي نواس. ولو بقي لنا ديوانه لربما اعتبرناه هو لا غيره مجدد الشعر العربي القديم. ومن ميزة هذه الأبيات أنني حفظتها بعد قراءة أو قراءتين. وليس هذا عيباً، إذا كان الشعر جميلاً، كالأبيات الآتية التي عثرت عليها في مستهل كتاب عباس العزاوي «الموسيقى العراقية في عهد المغول والتركمان»:

لما وردنا القادسية / حيث مجتمع الرفاق

وشممت من أرض الحجا / ز نسيم أنفاس العراق

أيقنت لي ولمن أحب / بجمع شمل واتفاق

وضحكت من فرح اللقا /ء كما بكيت من الفراق

لم يبق لي إلاّ تجشم / هذه السبع الطباق

حتى يطول حديثنا / بصفات ما كنا نلاقي.

وقد أثارت أشجاني العراقية هذه الأبيات. وهي مما كان يُتغنى به، أنا لا أقاوم البكاء (على العراق) عندما تصيح في رأسي كلمات المغنية العراقية الراحلة صديقة الملاّية: «للناصرية، للناصرية / تعطشْ واشربكْ ماي بجفوف إيديّه». هذا شعر شعبي جميل الى جانب صوت صديقة الملاّية الشجي.

لكنه يبقى من بين النماذج الجميلة النادرة، فأنا لست شديد الإعجاب بشعرنا العراقي الشعبي. والغريب أن من أجمل نماذجه ما جاء على لسان مثقف مثل مظفر النواب، كما في قصيدته الشعبية الجميلة «للريل وحمد».

وكنت أحتفظ في جيبي بورقة دوّنت فيها قصيدة مالك بن الريب الذي قاتل في خراسان في حكم عثمان بن عفان، قالها وهو على فراش، وفي الواقع، حصيرة الموت. احتفظت بهذه القصيدة في جيبي اعتزازاً بها، الى أن بليت الورقة. ان المثقفين العرب يعتزون بهذه القصيدة الوجدانية العاطفية، التي يتحدث فيها شاعر عربي قديم عن مشاعره الإنسانية تجاه أناس قلّ أن تحدث عنهم الشعر العربي: عن أمه، وابنتيه، وخالته، وزوجته. «فمنهن أمي وابنتاي وخالتي / وباكية أخرى تهيج البواكيا». لكنه يبدأ قصيدته بالتلوع على حياة الدعة التي كان يعيشها، بأسلوب فني جميل:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بجنب الغضا أزجي القلاص النواجيا

فليت الغضا لم يقطع الركب عرضه وليت الغضا ماشى الركاب لياليا.

والقلاص هي النوق. وهنا يتمنى إبن الريب لو أن شجر الغضا ظل يسير مع ركبهم لا يفارقهم أو يفارقونه. ان القصيدة كلها جميلة، وهذا يندر في شعرنا العربي القديم. وأنا لا أرى ضرورة لنقلها كلها هنا. لكن هذا ليس من صالح شعرنا القديم، أن تتميز قصيدة واحدة أو بضع قصائد بوحدة موضوعها وجمال مضمونها. تحضرني فقط، الى جانب ذلك، قصائد «سقط الزند» لأبي العلاء، وربما قصيدة المتنبي عن شِعب بوّان... وعلى ذكر المتنبي، أقول انه أعجبني جداً في بيته الغزلي الآتي، على ندرة غزله:

شامية طالما خلوت بها تبصر في ناظري محياها

هذا غزل صادق، عن تجربة، وليس مصطنعاً أو متكلفاً، ومن هنا جماليته. وتعجبني أبيات كثيرة للمتنبي لجمال معناها ومبناها وعدم وعورة ألفاظها، كما هو الحال في الكثير من شعر أبي تمام. قلت تعجبني أبيات، ولم أقل قصائد. وتلك هي مشكلة شعرنا العربي القديم. وبودّي أن أستشهد بهذه الأبيات، لكنها معروفة، لأن المتنبي «شاعر العرب الأكبر»! ومعلوم أن الكثير من شعر المتنبي حكم. وفي الغرب يعتبرون شعر الحكم شعراً بدائياً. وأنا هنا لا أتفق معهم. فلا يدخل في ذهني أن يكون البيت الآتي بدائياً:

أعز مكان في الدنى سرج سابح وخير جليس في الزمان كتاب

أبو تمام؟ كتبت عنه كلمة في السبعينات من القرن الماضي بعنوان «أبو تمام سوريالياً»، ونلت عليها يومها عشرين ديناراً كمكافأة، اشتريت بها ستائر لغرفة الجلوس في بيتنا، المهجور الآن! وقبل أن أتطرق الى شعر أبي تمام السوريالي، أقول إن أبا العلاء أدخل في الجنة في «رسالة الغفران» مَنْ هبّ ودبّ من الشعراء، وضن بها على أبي تمام، لأنه لم يكن يصلّي. لكنه أحال قصائده الى نسوة يندبنه ويبكينه. وهذه من شطحات أبي العلاء.

وسيتفنن أبو تمام في التعامل مع الزمن سوريالياً، كما في قوله:

«كانوا برود زمانهم فتفرقوا فكأنما لبس الزمان الصوفا».

وسيرتدي هو الزمن في قوله: «ومن زمن ألبستنيه كأنه... الخ». ويتجسد الزمن عند أبي تمام في أكثر من صورة وهيئة، فيقول:

«كأنني يوم جردت الرجاء له غضاً / صببت به ماء على الزمن».

أو يقول: «كان الزمان بكم كلباً فغادركم...». وله صورة يصور فيها الزمن بهيئة وحش، كناية عن غدره:

«ورأيتَ قومك والإساءة منهم جرحى بظفر للزمان وناب».

أو يصف قسوة «كيد الزمان»، أو يداوي الزمان بالقطران إذا ألمّ به جرب!

لكنني أبقى أفضّل لغة المتنبي الرشيقة على لغة أبي تمام الوعرة، التي تُفقد شعره شيئاً من جماليته. أنظروا الى قول المتنبي:

«حال إذا علم إبن منصور بها جاء الزمان إليّ منها تائباً».

فأبو تمام يفسد روعة شعره أحياناً بخشونة ذوقه على رغم تفننه في اختيار صوره الشعرية، كما في قوله:

«كلوا الصبر غضاً واشربوه فإنكم / أثرتم بعير الظلم والظلم بارك».

هذا في حين انني لا يسعني سوى ان أنتشي جداً بقول إبن الرومي:

«حبر أبي فحص لعاب الليل يسيل للإخوان أي سيل».

وكتبتُ من وحي هذا البيت كلمة نشرت في مجلة «المثقف» العراقية في اوائل الستينات بعنوان «تقاسيم على خاطرة»، تحدثت فيها بهزل عن الشركات التي أخذت تحتلب الليل لصناعة الحبر. وهي من كتاباتي التي أطلقت فيها العنان كثيراً لمخيلتي، وكانت إرهاصاً بكتابي «الأطروحة الفنطازية».

وسأختتم كلمتي هذه ببيتين من الشعر للجواهري أعجبت بهما كثيراً، هما:

«أنا عندي من الأسى جبل يتمشى معي وينتقل

أنا عندي، وإن خبا، أمل جذوة في الفؤاد تشتعل».

وهنا يذكرنا الجواهري بصورة مالك بن الريب في قوله: «وليت الغضا ماشى الركاب لياليا»، من دون أن نستهين بقول الجواهري.

وأنا أكتب في بعض الأحيان شيئاً، ثم أمزقه. وقد كتبت هذا الموضوع غير مرة ثم مزقته، لأنني في كل تلك المحاولات كنت أجور على الشعر. ولا أدري كيف خلصت الى هذه الصيغة الإيجابية بحق الشعر، مع انني بدأت إحدى محاولاتي التي مزقتها، بقولي: «أنا أحب القهوة وعصير البرتقال أكثر من الشعر!»، لكنني شعرت انني كنت فظاً بحق الشعر، فتراجعت عن فظاظتي، ثم كتبت هذه الكلمة!

وكدت أمزق هذه أيضاً، لأنني لم أرد أن يُفهم مما سبق أنني أفضل الشعر الكلاسيكي على الشعر الحديث. هذا مخالف لنزعتي الميالة الى الجديد. لكن هناك نماذج من شعرنا القديم تجد طريقها الى قلوبنا وعقولنا بيسر بفضل موسيقيتها وجمال معانيها ونكهتها التأريخية. الشكل لا ينفصل عن مرحلته التأريخية. لا أحد اليوم يستعمل البحر الطويل مثلاً.

مع ذلك، أنا لم أكن أريد أن أكتب عن الشعر، قديمه أو حديثه، لأنه لا يستهويني كثيراً (إلا في نطاق محدود جداً). وأنا أعلم أنني سأثير حفيظة جيش من المعترضين (أحد الأخوان علق قائلاً: أنت من هواة الموسيقى ولا تحب الشعر؟»، فنحن أمة شعر في المقام الأول. هكذا كنا وسنبقى كذلك. وهذا ما نقلته إليّ الصديقة فاطمة المحسن التي كانت في زيارة الى لندن، بعد لقائها مع عدد من الشعراء العراقيين الذين دافعوا عن «الغريزة» الشعرية عندنا نحن العرب، قالوا نحن أمة يسري الشعر في عروقنا. أو لعلهم لم يقولوا ذلك بالحرف الواحد، لكنهم أكدوا أننا أمة شعر، وينبغي أن يُنظر إلينا كذلك.

هذا الموضوع يحرجني كثيراً. وكان يحرجني سابقاً، لأن لي أصدقاء شعراء نعتز بهم كمبدعين تألقوا في الساحة الأدبية. ولا أجدني في حاجة الى ذكر أسماء. لكنني منذ سنوات وأنا لا أجد رغبة في قراءة شيء من الشعر العربي. وحتى الشعر الأجنبي لا يستهويني. بل إنني أعترف بأنني أجد شعرنا العربي الحديث أجمل مما أقرأ من شعر أجنبي. لماذا؟ لعل تفسير ذلك هو ان الغرب انتهى كأمة شاعرة، ولم يعد للشعر عندهم قيمة. أما نحن فلا نزال أمة شعر! لهذا نحن نبقى «نتألق» في الشعر. ربما، لكنني لا أؤمن بالثبات. إذا كنا يوماً ما امة شاعرة، فهل يعني هذا اننا سنبقى كذلك الى أبد الآبدين؟ أنا لا أريد أن أثير عاصفة، لأنني أشعر أن عليّ أن أحترم شعرنا لأنه جزء مهم من ذخيرتنا الثقافية. لكن هذا لم يمنعني من أن أصرح بأنني كائن نثري، كما نقلت فاطمة ذلك عني في مقابلة ما كنت أريد أن أستدرج الى بعض ما جاء فيها.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  علي الشوك


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni