... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  في السياسة

   
مع الشباب ضد الفساد

زهير الجزائري

تاريخ النشر       27/02/2011 06:00 AM


كنت بين المتظاهرين، بين الأكبر سنا وسط سيل حيوي من الشباب. لم أكن قائدا ولا موجها، ولا حتى ناصحا، فقد عرف الشباب بأنفسهم كيف يوجهون بعضهم ويخففوا الغلواء حين سبق الغضب العقل، وقبل ذلك عرفوا كيف يجعلو لهما شعارا موحدا ضد الفساد رغم اختلاف الخطاب والمزاج، بين السخرية والغضب والأسى على بلد يأكله الفساد ويأكل مستقبل الشباب فيه. شعارهم بمكن تلخيصه بلافتة وصورة: اللافتة تقول: (أفقر شعب في أغنى بلد) والصورة ترينا فما يعض الإصبع الذي انتخب، يعضه ندما.

رأيت بعيني في هذا اليوم المجيد كيف تجسدت انعطافة في وعي الشباب.. لم يعد المال العام كما كان بالنسبة لنا مال الحكومة، انما هو مال عام موضوع للمسائلة (أين ذهبت الملايين؟) سؤال حملته اكثر من لافتة، سؤال ينطوي على جوابه: الفساد.

قبل هذا اليوم كان الفساد بالنسبة للمواطن العادي بديهة قدرية. فطوال عقود من الاستبداد وحتى خلال أسوأ أيام الحصار لم يطرح فساد العائلة الحاكمة والبذخ الاحتفالي الوقح كسؤال على سلطة العائلة. كان الدكتاتور يستثمر الفارق بالقول "الحصار موجه ضدك أيها المواطن، أما أنا فلا يؤثر علي لأنني آكل لحم الغزال".

خلال مرحلة ما بعد 2003 تقبل المواطن البداهة القدرية التي تعتبر المال العام وخيرات البلد حصة الحكومة والحاكمين، وما ينزل منه هو "مكرمة" من القائد في نظام الحزب الواحد السابق أو من القادة في نظام المحاصصة الحالي.

يتجددالفساد ويتمدد ويتمأسس، فقد نسي القائمون على الدولة كما نسي الناس فساد العائلة الحاكمة ولا يعرف أحد أين اختفت المليارات التي هربت الى مع هروب العائلة، نسوها لأن سرقات الحواسم لما تبقى من أجهزة الدولة قد غطت على مشهد الفساد السابق، وقد ضاعت سرقات الحواسم وضيعتها موجة من فساد جديد بدأت مع إعادة بناء المؤسسات من قبل سلطات الإحتلال، نسيت الدولة سرقة وزيري الكهرباء والدفاع ولم يعد أحد يبحث عتهما لأن سرقات جديدة شملت وزير تجارة حوسب واختفى في زواريب المحاصصة.

لا يتوارى الفساد عن الأنظار، إنما يفضح نفسه بآلية نهمة الى المزيد من المال في أقصر زمن ممكن، ولذلك يتحسسه المواطن ويعرف عنه ويراه احيانا بعينيه، ولكن هذا الفساد الذي تحول الى مؤسسة داخل المؤسسة يبدو ثابتا وراسخا أكثرمن القوانين والدستور. يجد المواطن نفسه مجبرا على أن يساهم فيه لإنجاز معاملاته اليومية.

سأختصر الطريق وأتحدث عن تجربتي الخاصة مع الفساد، فقد كنت أرفض تماما رشوة موظف حكومي لمجرد تسهيل معاملتي وأفضل امتحان صبري، حالي حال أي مواطن عادي...عندما نفذ صبري تقدم الناصحون العارفون بأزقة الحكومة، ودفعو رسوم الفساد نيابة عني، وعندما أردت أن أجرب الرشوة بنفسي دفعت المبلغ خلف بناية واحدة من المؤسسات الحكومية ويدي المتعرقة ترتجف لأني أتلبس خجل الموظف الذي استلم وهو يلقبني "عمي"... بعد مران تعلمت فنون الدفع السري وكيفية دس المبلغ بخفة وسرعة أو القاء المبلغ في جارور مفتوح بينما ينشغل الموظف بمعاملات الآخرين.

صرت أتحدث وأسمع عن السرقات الكبيرة دونما عضب مقتصدا باعصابي وواضعا شتى التفاسير لطبيعية الظاهرة ومنها إعادة توزيع الدخل.

كنت مع سائق تاكسي حين مررنا بمطعم باذخ بني حديثا وسط بغداد. بفضول الصحفي سألت السائق عمن يملك هذا المطعم الباذخ، فاجابني ببداهة خالية من اي احتجاج:

- يملكه ثلاثة ضباط في الجوازات.

لم يكمل الحديث عن الطريقة التي حصلوا بها على المال، ولم أسأل أنا كذلك فالجواب موجود في بداهات دماغنا كواقعة وقدر، ولم نسأل كيف يمر الأمر على الحكومة ذاتها، لأن طريق المواطن للوصول الى مكرمات الحكومة يمر عبر دروب الفساد المتشابكة التي تبدأ من المواطن مرورا بالموظفين الصغار صعودا الى المسؤولين الكبار الذين يحتمون بأحزابهم الشريكة في الحكم.

الفساد وحتى على لسان كبار المسؤولين هو التحدي الثاني أمام بناء الدولة بعد عنف المجموعات المسلحة. و قد وصفه المالكي في خطبته يوم 24-2 الحالي بأنه (قرين الإرهاب) .فالمجموعات المسلحة صارت تغذي الفساد وتتغذى منه. الأمثلة هنا كثيرة تبدا بسلسة الهجمات على البنوك، تهريب النفط لتمويل المليشيات، اغتيالات المفتشين الماليين... مامن هروب فردي أو جماعي للإرهابيين من السجون إلا وسبقه إفساد سجانيهم... الفساد ليس مرائيا ومتملقا وحسب، إنما له أسنان أيضا. وعن حق أصاب أحد بيانات الفيس بوك بتشخيصه لظهور طبقة ثرية مدعومة بالمليشيات والعصابات المسلحة، وقد وضع نفس البيان الفساد داخل الثالوث الذي يهدد الدولة "الطائفية والإرهاب والفساد مثلث الظلم والخراب."

لقد بلغ الفساد من الوقاحة حدا لا يمكن السكوت عليه لأنه لم يعد يقتصر على مقاولات البناء ومشاريع الدولة، إنما صار يمس غذاء المواطن وفرص عمله وحليب أولاده ومستوى معيشته ونظافة المحلة والبيت الذي يسكنه. صار مفضوحا ومكشوفا للعيان لأن ميزانية الدولة لم تعد سرا عسكريا وكذلك رواتب المسؤولين والنواب.

ويمس الفساد حياة الشباب بالذات، لأنه يمس تطور تعليمهم وفرص عملهم، وحتى إمكانيات تمتعهم بشبابهم، باختصار الفساد يأكل من مستقبلهم لأن عليهم أن يدفعوا ديون الدولة التي أكل الفساد خيراتها، ولذلك يكون رد فعلهم مسودا بالغضب والعنف أحيانا.

لكل ذلك أعتبر حركة الشباب ضد الفساد ثورة على الذات بمقدار ما هي ثورة على الفساد بلبوسه المختلفة، ثورة على الاستسلام وعلى القدر. وفي مواجهة الفساد وقفت معهم، لا معلما ولا أبا، إنما في الخلف، لأني مثلهم تعلمت من أخطائي أكثر مما تعلمت من حكمة العارفين.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  زهير الجزائري


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni