... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  أخبار و متابعات

   
نساء العتبات : للروائية هدية حسين

اياد نصار

تاريخ النشر       28/02/2011 06:00 AM


تأتي رواية "نساء العتبات" (فضاءات للنشر والتوزيع، عمان) للروائية والقاصة العراقية هدية حسين، في سياق مهم، ليس على صعيد طرح قضايا المرأة وحسب، ولكن ضمن معالجتها جملة من المشكلات الانسانية والاجتماعية والسياسية التي تورّثها الديكتاتورية أولاً، وباعتبارها شهادة توثيقية تمتلئ بصور الحزن والموت والخراب، وتؤرخ لمرحلة حاسمة من تاريخ العراق المعاصر، وتطرح في ثناياها عواقب الاستبداد السياسي وويلات الحروب، التي تدمر النسيج الاجتماعي، وتفتك بالبشر، وتهدم الاحلام، وتضع الناس في تقويم الزمن الخطأ، ليدفعوا الثمن من حياتهم ومستقبلهم، وتفتح الباب على عذاب الهجرة والنفي والغربة. تلخص الرواية التي جاءت في 210 صفحات من القطع الصغير مأساة العراق "بكل التفاصيل الصغيرة والكبيرة... الحروب، الخوف، عسكرة الحياة، رعب الموتى على ذويهم، سوق الرجال الى جبهات القتال، وموتهم أو عودتهم معوقين، أو فقدانهم". واذا كان من خصوصية للرواية فهي انشغالها بالتعبير عن جوانب شتى من بؤس المرأة تحت وطأة الحرب وتداعياتها وتأثيراتها النفسية العميقة على المرأة العراقية التي لا تجد خلاصاً، لا قبل الحرب ولا بعدها.
يثير عنوان الرواية مثلما يثير غلافها الكثير من التساؤلات. لكن تبقى صورة الفتاة ذات الملامح الطفولية الغامضة حاضرة في الذهن، لنكتشف أنها تستولي على أحداث الرواية بقصتها؛ إنها أمل، الضحية التي ماتت صغيرة وتركت لغزاً خلفها، وهي أمل بطلة الرواية التي تعيش معاناة، تذكّر بمعاناة خالتها التي رحلت وأورثتها اسمها.
تكتسب العتبات مستويات متعددة من التوظيف في الرواية. العتبات مرادف للقصص المغمسة بالوجع في البيوت الفقيرة، والأزقة الموحلة، والاماكن الكئيبة، وهي بوابة الدخول الى عالم الخيبة وسوء الطالع، ورمز لعالم النساء المهمشات، اللواتي يضحين بكل شيء لأجل رجل مفقود، يحلمن أن يعود ذات يوم. وهي النافذة التي نطل منها على المشهد: منمنمة من قهر وخوف ضمن لوحة فسيفساء أوسع تشمل الوطن كله. في مستوى آخر، تصبح عتبات لعصر جديد يحمل معه الخوف ودمار الحرب المادي والنفسي.
تحمل كل واحدة من "نساء العتبات" في ذاكرتها قصة بؤس. تتعدد القصص وتفاصيلها، لكنها تؤكد في النهاية حقيقة مفادها أن المرأة ضحية كل مغامرات الرجل، بدءاً بالحرب وانتهاءً بأوهام حب الجسد. تدفع كل امرأة في الرواية الثمن من عمرها وأحلامها وحريتها، وترهن نفسها ومصيرها الى رجل، لكن الرجل "الحلم" لا يأتي، وهكذا تموت روحها قبل أن يموت جسدها. هناك أمل وجمّار وفطومة وصفية وأم عدنان وصبرية، وغيرهن، والاسماء لها دلالات ترميزية عالية.
تؤكد الحكايات، كما ترى البطلة، الحقيقة المرة: لقد حوّل النظام بحروبه البلد سجناً كبيراً ليس فيه سوى النساء البائسات والرجال المفقودين: جبّار، زوج أمل والضابط في الحرس الجمهوري، اختفى في الحرب ولم نعد نسمع أخباره، وأبوها مصطفى اختفى منذ سنوات طويلة خلال الحرب العراقية الايرانية، واختفى زهير المكلف رعايتها أثناء هربها الى عمان عن مسرح الاحداث، ومات ماجد المرهون زوج خادمتها جمّار، وقُتل مريوش زوج أم عدنان بصاروخ سقط على منزلهم، ومات ابنها في حرب الكويت، وقتل ابن فطومة الاكبر في الحرب، وأعدم الثاني لأنه رفض التطوع. واختفى المعلم أبو محمود لأنه وضع طبقاً لاقطاً على سطح بيته. للسخرية، لم يبق أحد من الرجال حياً الا المجنون!
يدرك القارئ أنها رواية الحرب، الحاضرة في كل تفاصيلها. فهناك اشارة الى سقوط التمثال في ساحة الفردوس، في إشارة الى سقوط النظام، ووصول طلائع المارينز الى بغداد. تستهل الساردة بضمير الأنا حكايتها بالحديث عن الهرب من بغداد الى عمان. ترسم افتتاحية الرواية ملامح المكان والزمان، لكنها ملامح ممزوجة بالالم، ومنذرة بالعواقب حين تختار امرأة أن تحيا خارج السرب.
تؤرخ الرواية لأيام الحرب حتى يوم التاسع من نيسان الذي سقطت فيه بغداد. غير أن عملية تأريخ الحرب، تتخذ شكل العناوين الاخبارية، التي تبقى تظهر كل يوم. وإن تكن سمّتها الكاتبة "عناوين المحرقة الجديدة"، إلا أن هناك إفراطاً في توظيف الارشفة التاريخية. عند تلك اللحظة تغيب القصة الاساس في الخلف لتفسح المجال لعناوين الحرب التي اتخذت خطاً أسود غامقاً للبروز. وبالرغم من الاهوال التي تصفها الرواية، والاحداث العسكرية خلال أيام الحرب، وما رافقها من نهب وقتل وتشريد، لا نجد في الرواية كلها كلمة واحدة تصف القوات الغازية بالمحتلة، أو تصف ما جرى بأنه احتلال، وتبقى البطلة أغلب الوقت صامتة لا تبدي رأيها في ما يجري.
تقوم الرواية على توظيف مواقف المفارقات والمتناقضات لابراز النقد السياسي وإدانة الحرب، حيث تصف الاحداث بأنها "أم الكوارث" في اشارة ساخرة الى "أم المعارك" التي أطلقها النظام على حرب الخليج الاولى. ولعل قصة زواج أمل من الضابط الذي يكبرها بثلاثين عاماً هي إدانة للحرب التي أخذت الشبان للقتال، فلم تعد قادرة على التواصل مع من هم في مثل سنها، لأنهم لا يستطيعون منحها الامان أو الحلم. وحينما عرض جبار على زوجته أن تقرأ الكتب في مكتبته، التي تضم كراريس حزبية، وكتباً سياسية، أعرضت عنها في رفض رمزي للحرب، وكل ما يمت الى النظام بصلة.
غير أن هدية حسين تضع، دائماً، كلمات النقد السياسي، في فم شخصياتها، بأسلوبٍ يجعل الشخصية مجرد حاملة أفكار على نحو رمزي، تنم أفعالها وكلماتها عن مواقف مفروضة على النص. أمل العروس التي تدخل قصر زوجها الذي بدا مثل الجنة لها، وبدلاً من أن تعبّر، في أول رد فعل لها، عن السعادة حينما رأت الغرف الباذخة، فإنها تترك كل شيء، وتنشغل في التفكير بقضية أخرى على نحو غريب: "إذا كان هذا قصر ضابط في الحرس الجمهوري، ترى كيف تكون قصور الرئيس المنتشرة في المدن العراقية؟". وحينما ترى النياشين والأوسمة التي حصل عليها جبار من معارك سابقة، لا يخطر في بالها سوى القول: "كم من الدماء سالت لكل قطعة من هذه القطع؟".
وعلى رغم أن البطلة تبقى متحفظة وخائفة في أغلب الاحيان، فإنها تترك دور ممارسة النقد السياسي لخادمتها البسيطة، التي لا تفلح في استدراج أمل، وتعوض الرواية عن ذلك فنياً بإفراط جمّار في النقد، في اشارة ضمنية الى أن هذا هو حديث الناس المقموعين الذين لا يتاح لهم التعبير في الوطن. تصفها أمل بأنها أكثر معرفة منها ببواطن الامور، لتعزيز صدقية نقد جمّار للنظام. تصبح جمّار الصوت الناطق باسم البطلة، كأنما هو صوتها الغائب وجرأتها المفقودة. تعد شخصية جمّار حاملة أفكار بامتياز، تهرّب من خلالها البطلة، ومن وراءها الكاتبة أفكارهما. تحمّل جمّار النظام مسؤولية المآسي. وعندما تذكر جمّار كلمة عفريت، تتذكر أمل قول أمها "عفريت الحروب يتلبّس الرئيس، وسيضيع آلاف الآباء مثلما ضاع أبوك". ما يثير الاستغراب أننا لا نسمع منها ولا كلمة واحدة، تنتقد جهات أو أطرافاً دوليين، ويلمس القارئ أن الرواية تتبنى موقفاً دافعه تحميل النظام كل المسؤولية التاريخية، علماً بأن الرواية لا تذكر صدام حسين بالاسم نهائيا، بل تبقى تتحدث عنه بالاشارة والرمز.
ترسم الرواية تدريجياً ملامح شخصية أمل ونمط تفكيرها المختلف عن أمها وعن بقية النساء اللواتي وقعن تحت وهم القناعة، والقبول بالامر الواقع، والاحلام التي تدور حول فقدان الرجال من حياتهن بسبب الحرب. لا تريد أمل أن تكون جزءاً من ماضيها أو مكانها الذي عاشت فيه. لذا عندما ركبت سيارة جبّار وهي تغادر بيتها قالت: "وداعاً لأوجاع الماضي". نلمس منذ الصفحة المئة والتسع والعشرين، تحولاً مهما في شخصيتها، ويبدو أنه مؤشر الى عودتها الى الواقع. غير أننا تسارعاً ملحوظاً في السرد في الصفحات الاخيرة، حيث نحس الرغبة الجامحة في الخروج من الصمت الذي كانت تعيشه الى البوح المتسارع المتمثل في سرد أحاديث نساء العتبات، وماضي كل واحدة منهن بالذات!
تنتهي الرواية من حيث بدأت: تعود أمل مع جمّار عبر الطريق الصحراوي الى بغداد. وقبل أن تغادر عمان تبيع خاتم الزواج في اشارة الى اختفاء جبار من حياتها. يتراءى لها أن وجه أمها يسير معها عبر زجاج السيارة. هنا تصبح الام الملاك الحارس في اعلان رمزي لتقبّل أفكارها وتضحياتها. تطرح الرواية مسألة وهم الخلاص المادي الفردي، في تأكيد لفشل الحلول الذاتية في ظل الازمات الكبرى.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  اياد نصار


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni