... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  قصة قصيرة

   
المشهد الأخير

علي عبد الرحمن

تاريخ النشر       18/03/2011 06:00 AM


ربما أكون مشتاقاً إليه، إلاّ أن هناك أمراً آخر جعلني أفكر بزيارته، أسبوع أو أكثر وأنا أستعد ليوم الموعد، في كل حركاتي وسكناتي كنت أرى وجهه الحزين، وأسمع نبراته القاسية بتوسل، لم أكن مؤمناً بعجلة الميلاد، ولكن لا بأس من أن أستعير هذا المصطلح لعجلة الحياة التي تدور.. تدور.. وتدور.. قد تتغير اليد التي تدفعها.. والوجوه التي تمر بها.. والأرض التي تدور فوقها.. إلاّ أنها العجلة ذاتها.. بالأمس كان هو.. واليوم هو أنا، وإن اختلفت ملامحنا وأشياء أخرى.. إلاّ أنه كان هو واليوم أنا..

بدأت أنغام السماء تعلو فضاء مدينتي من الجامع القريب من بيتنا.. تذكرته.. لم أنسه.. إلاّ أن فلم الذكريات مشاهد متناثرة وليست متسلسلة، ولي في كل وقفة مشهد يلوح لي، افترشت سجادة الصلاة، وقبل أن أدخل فيها عرض أمامي مشهد حيرته من أمري، كم تمنيت حينها أن أرتمي في أحضانه وأبكي.. كم تمنيت لو كان معي الآن لأعتذر منه.. نظراته نفسها لم تتغير، بل أنا من تغير، بالأمس كانت نظراته سهاماً.. واليوم دموعاً.. ليست نظراته فقط لم تتغير، العالم كله ساكن واقف في مكانه ونحن ندور حوله فنتغير ... الله أكبر..

لم أحمل معي كتاباً كعادتي، كنت بحاجة إلى فراغ أصب فيه كلماتي وعباراتي التي سأعتذر له بها، برغم علمي أنه يكتفي بدمعة وكلمة "أعتذر"، ولكني سأكلمه من أجل أن أكلمه فقط، حرصت على أن أجلس قرب النافذة في السيارة، ولهذا تركت السيارة الأولى حتى امتلأت لأصعد إلى السيارة الثانية، وما ان جلست حتى دفعت الأجرة مسرعاً لأخلو بمشاهد الفلم الذي سيعرض من خلف النافذة، لقد اعتدنا أن نجلس ساكنين لنرى الفلم يتحرك عبر الشاشة، أمّا هنا فنحن من يتحرك وإن كنا جالسين أيضاً...

المشهد الأول: كفه الضخمة تهوي على خدي عندما اخبره معلمي أنني لم آت بالدفتر المدرسي اليوم.

المشهد الثاني: رنّ جرس الدرس الأخير، لأمر عليه إلى دائرة البلدية المجاورة لمدرستي، حيث كان يعمل، فاشرب فرحاً الماء من عنده، ثم أعود إلى البيت.

المشهد السادس: مدير المدرسة وهو صاحبه، يخبره أن شعري طويل يجب حلقه، فعدت إلى البيت باكياً حزيناً على شعري الطويل الذي أحبه.

المشهد العاشر: خائفاً دخلت إلى البيت أترقب، وأنا أحاول أن أخفي مصباحاً صغيراً تحت ملابسي، فقد اشتريته خلسة منه، وبدأت أمي تحذرني بشدة إن عرف.. فأرجعته إلى صاحب المحل معتذراً أنه ليس هو المطلوب.

المشهد الرابع عشر: وهو من المشاهد التي لم يستطع الزمن محوها، فالزمن كالمنتج السينمائي، تارة يحذف هذا المشهد، وتارة ذاك، وذلك عندما ذهبت من دون علمه إلى الملعب مع أقراني، فمن النادر ما كان يوافق على ذلك، وحتى موافقته لا تأتي إلاّ بعد سيل من التوسلات.. وعندما وصلنا كان هناك جدار من المشبك يحول بيننا وبين الملعب، فنقفز منه، فلما وصلني الدور تسلقت العمود الذي يمسك المشبك، ولم يكن بالأمر السهل، وصرت فوق المشبك، عندها سمعت صوتاً يناديني، تجمدت في مكاني.. لا أعرف ما أفعل؟ وبهلع شديد التفت نحو مصدر الصوت، فإذا به ابن عمتي، لم يزل خوفي، فربما هو من أرسله ورائي.. ولكن الحمد لله نجوت، فقد لحق بنا ليلعب معنا..

المشهد العشرون: وهو وحده يصلح أن يكون فلماً، لأنه صراع استمر لسنوات، بعدما توجهت توجهاً فكرياً مخالفاً لفكر النظام الحاكم، وبدأت العيون تترصدني من الأمن.. والحزب.. وغيرهم.. فتكاد تكون في كل يوم مشكلة معه..

المشهد الخامس والعشرون: نشب بيننا شجار حول موقف معين، فخرجت إلى بيت أخي لأبات فيه، وفي اليوم التالي جاءني إلى هناك مبتسماً، وهويخفي بين عينيه دمعة مريرة، ما زلت أراها.. ما زلت أحس بثقلها.. ما زلت أعتقد أنني لن أنجو منها.. ما زلت أحاول الاختباء منها خلف أوهامي.. ما زلت.. ما زلت.. فقبلني وضمني إليه وأخذني إلى البيت، ونادى على أمي لتضع لي الغداء "وتدير بالها عليّ"... ألم أقل لكم .. مازلت..

المشهد السابع والعشرون: أكملت دراستي في المعهد، والتحقت بالعسكرية، النار التي لم ينجُ من لهيبها أحد من العراقيين لا سيما الشباب، وكثير منا لم يحتمل الإستمرار بها.. فتارة أغيب.. وتارة أهرب.. وكان هو يحسب إجازتي بالدقائق والثواني..وهكذا في كل إجازة كانت لي معه مشاجرات، بل إنه في إحدى الإجازات ذهب معي إلى وحدتي في مخمور على أطراف أربيل ..

المشهد الأربعون ..

المشهد الخامس والأربــ

المشهد.. المشهـ...

مشاهد أطول من الطريق، في كل مشهد كانت روحه تحل بي مرغماً، فمنذ أن جلست على كرسيه وأنا أشعر بشعوره، ربما لست أنا فقط، وربما لم تكن روحه، إلاّ أنه روح هذا الكرسي الذي يتعاقب عليه جيل بعد جيل.. ولم انتبه إلاّ على صوت السائق وهو يناديني:

- هذا هو المكان الذي تريده..

المشهد الأخير: دخلت.. وقفت.. يا الله.. أين سأجده بين هؤلاء جميعاً، توجهت إلى الاستعلامات لعلهم ييسرون أمري من سجلاتهم.. ولكنه اعتذر لي:

- سبع سنوات.. وقت طويل جداً.. جداّ، أعداد مهولة جاءتنا في السنوات الأخيرة.

اتصلت بأخي الذي رسم لي الخريطة، سرت على إثرها وإن لم تكن واضحة، فأخذت اقرأ.. هذا.. هذا.. هذا قبر المرحوم عبد الرحمن عبد الرزاق.. لحظة اختزلت أربعين عاماً من المشاهد.. وقفت.. ظللت واقفاً.. لا أعرف ماذا أفعل، جلست عنده وقد ماتت كل الكلمات التي رتبتها.. لأختم بدموعي آخر مشهد لي مع ابي...


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  علي عبد الرحمن


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni