... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  في السياسة

   
إنها خراب .. و"القدس" هي الاصلاح والديمقراطية!

سهيل سامي نادر

تاريخ النشر       20/03/2011 06:00 AM


إذا كان البعض وجد أن تصريحات السيد جلال الطالباني عن كركوك تتعارض مع موقعه بوصفه رئيساً لجمهورية العراق ، أرى أن هذا التصريح يطوي الموقع الرئاسي في ما هو أهم وأمرّ. إن زلات اللسان لدى المسؤولين العراقيين التي راحت تتكاثر كلما شعروا بالضيق تطوى هي الأخرى بما هو أهم وأمرّ . إذا ما أمعنا النظر بهذه الزلات وردّت الى أصلها لوجدنا أن جماعة الحكم التي شكلت نظاماً سياسياً مليئاً بالتناقضات ما زالت عند مواقعها الاولى ، فهي إما في السهول أو في الجبال أو في المنافي ، ولا تدرك أنها تقود دولة. إنها بين بين ، بين أن تقود دولة أو تقود حزباً مفككاً أو تقود سيارة ذات دفع رباعي حديثة، ما بين العشيرة والدولة ، ما بين الطائفة والدولة ، بين أن تقود البيشمركه على جبال كردستان الوعرة وما بين أن تصبح رئيسا لدولة هي أكثر عرياً وتعقيداً من تلك الجبال . الأخطر من هذا كله ، أن هذه الجماعة ظلت عند مراجعها الطائفية والأثنية ، ولم تؤسس مرجعية سياسية وطنية ، ولم تنضج بعد وتنتبه الى ما يجري حولها.   
تشير كلمات السيد رئيس الجمهورية الى أكثر من تفكير داخلي ، بل الى أفق سياسي واسع يرهن مدينة داخل نزاع قومي ، لتوضع من ثم بمنزلة مقدسة كالقدس. هذا هو الخطر في بعض التفوهات، حيث يتم تخطي الحدود الواقعية للصراع ، في دلالاته الآنية ، وارتباطاته الكلية ، والقاعدة القانونية التي يجب الالتزام بها مع الكثير من الحساسية في مكان ما زال في حالة هياج وجنون. من ناحية العلاقات التاريخية الشائكة لهذه المدينة يكاد الكشف عن مثل هذا الأفق يوازي نفير حربي لجميع المتصارعين وهم كثار . لا أظن أن السيد جلال الطالباني لا يدرك هذا الأمر حتى لو كان بمزاج خاص في استخدام اللغة ، وهو من هؤلاء الذين لا يخشون استخدام الاستعارة والنكتة في أحاديثهم . لكنه قد يتوهم بأن كركوك الكردية هي مجرد بداهة سياسية سرعان ما يعتادها الآخرون ، واستعارته الاخيرة لا تعدو غير تأكيد لها.
لا تصنع الكلمات واقعاً ، وهي في ظروف عادية تظهر لتختفي أو لتترابط مع كلمات أخرى . الكثير من الكلمات فارغة ، لكنها تمتلئ بكلام وتأويل المستفيدين والمتضررين منها. أما والناس وزعوا في خنادق متحاربة، وموضوع حربهم حاضر في أذهانهم ، هم المرعوبون أو المستهترون ، الكذابون والأدعياء وأصحاب الحق ، فإن الكلمات في أي شأن من شؤونهم تستحيل الى قذائف. ولسوف تغادر منها الملابسات الصغيرة للمتفوهين ، والاعتذارات ، والتأتأة ، والتوضيحات، ولسوف تتجاوز بكثير حالة المتكلم إن كان جاداً أو هازلاً ، إن كان قادراً على إشعال حرب أو إشعال بنطلونه ليس الا.  
يعرف المام جلال هذا بالتأكيد ، فهو ليس مجرد سياسي بل قائد ، وهو لم يعد مجرد قائد كردي ، بل ممثل للعراقيين. فما الذي حدث؟ ما الذي يجعله يفتح أفق النفير المقدس؟
إن ما يدعى بالعملية السياسية التي أسفرت حتى الآن عن كتابة دستور واجراء حفنة من القوانين وبناء سلطة على أمل بناء دولة ، لتتكلل باجراء انتخابات نيابية لمرتين اثنين ، هذه العملية السياسية التي أغدقت عليها الآمال والتوقعات، وعدّت مرجعاً للقادة والسياسيين المنخرطين بها ، ومواقعهم معرفة بها ، أثبتت التجربة أنها هشة أزاء الصلابة التي تتمتع بها المرجعيات الطائفية والاثنية الاصلية لهؤلاء القادة والسياسيين. هذا ما يفسر كثرة التصريحات الخاطئة ووجود مستويين متناقضين في التعابير المستخدمة ، والشعور الدائم لدى المواطنين أنهم أزاء رجال بشخصيتين . هذا ما يطوي في داخله كل الغرائب والعجائب التي نشاهدها ونحن ننزف دماً وتهكماً . ألم نقرأ توضيحاً غريباً يقضي بأن تصريح السيد رئيس الجمهورية جاء وهو يخطب أمام جمهور كردي من حزبه؟
نعم .. ما الذي يجعل السيد الطالباني مختلفاً؟ إن من يفتح أفق النفير المقدس في مدينة محتقنة هو قومي ، وقومي على الطريقة القديمة ، أي قادر على القفز فوق الشروط الواقعية ، محولاً المياه والأرض والسماء الى رموز مقدسة تستحق الموت من أجلها ، كما فعل الزعماء العرب من قبل.
لقد آن الآوان لأن تقال الحقائق بوضوح ، فإذا كان البعض من السياسيين الكرد من دون خبرة ، ولاسيما في الاتصال بمجموع المشكلات العراقية والعربية ، فإن السيد طالباني كان صديق قادة عرب اختفوا الآن من الميدان ، وأدرك من تجربته الشخصية أن هؤلاء القادة بسبب توجهاتهم التجريدية ، ونزعتهم الارادية، ضحّوا بعشرات الالوف من الناس من أجل مقدسات ضاعت بسبب سياساتهم . لقد حوّل هؤلاء بحماقاتهم ، وخطبهم القومية النارية، ثريا العرب المنيرة الى ثرى قاحل.
في إطار التجربة نفسها يعيش الكرد في محيط تتناثر فيه الاخفاقات القومية العربية والتركية والفارسية ، اخفاقات تركت آثارها عليهم بوجه خاص ، وكلها وضعت الأرض والسماء بمنزلة "القدس"، بينما حوّلت الإنسان الى متوحش معزول بسبب شوفينية أنظمتها وتعديها الدائم على شعوبها وحقوق القوميات الاخرى .
من حيث المبدأ يتعلم الناس من تجارهم ، لكن القومي يولد وهو ممتلئ بمقولات سابقة للخبرة. وكل خبرة حقيقية يكتسبها ، حتى لو كانت من صلب العذاب والأذى وانعدام العدالة ، ستخضع لرقابة تلك المقولات وسطوتها . إن القومي يضع تطلعاته في المقدمة ، انتقائي، لا يعدو الواقع لديه غير تقييم من التقييمات التي يمكن سحقها والعبور من فوقها.  
يفكر القوميون الاكراد كعادة كل القوميين بأفق الانتماء والهوية ، بمعزل عن الملابسات السياسية والتاريخية ، بل وبمعزل عن التركيبة السوسيولوجية والثقافية ، وبالتحايل عليها ، وبكلمة أنهم تجريديون يختفون خلف قضايا من حجم كبير على المستوى السياسي الحالي يعتقدون أنها هي الواقع. ضمن هذا الافق باتت كركوك قدساً . إذا ما اختبرنا هذه الرمزية ، بربطها بقرائنها الواقعية التي توفرها مدينة متوترة ، فسنجد أنفسنا أزاء هذا المعنى : مدينة يسترجعها أصحابها بعد أن احتلت وفقدت هويتها القومية! إن ما استنتجه التركمان والعرب ليس أقل من هذا ، من هنا قاموا بالاحتجاج.
لقد أهدى السيد الطالباني هدية مناسبة للشوفينيين المتنازعين الذين حولوا المدينة الى متجر سياسي – مالي . إن هؤلاء ، بمعاونة الكرد من اصحاب الرؤوس الحامية ، بلا مشروع  حقيقي غير التأجيل والتأخير وانتظار ما يسفر عنه الملل والتفسخ. الواقع أنهم فتحوا حقا متجراً يبيع ويشتري كل شيء، يسهم فيه سياسيون لا يفقهون شيئا ، واستدعوا الى مدينتهم السيرك الاقليمي  كضرب من محاولة لتعديل موازين القوى وما دروا أنه سيدفع بالمدينة الى الهاوية.
عن أي مدينة نتحدث حقا هنا؟ عن قدس الاكراد أم عن مدينة النفط ؟ في العراق لم يعد هناك ما هو مقدس غير المال وتوزيع الحصص، بفضل نظام أسهم الحزبان الكرديان بتأسيسه ، وكتابة دستوره على عجل، وأسس على قدر احتياجات الكتل الطائفية والاثنية التاريخية الكبرى . النفط يجلب المال ، لكنه سريعا ما يجلب الفقر والنكبات إذا لم نضعه في خدمة تنمية تهدّ التحصينات القديمة. إن مدينة النفط هذه هي من المدن الفقيرة حقا بعد أن عبثت بها أنواع من السلطات التي تراقب الواحدة الأخرى وتشاغب الواحدة على الاخرى وتقيم العقبات على طريقها : عشائر، بيوتات تقليدية ، مليشيات شيعية ، مليشيات سنية ، حالمون طورانيون مسلحون بأحقاد تاريخية واحلام ذهبية تعود لمراد الرابع ، ارهابيون (عيني عينك)، الاسايش  ، الشرطة السرية الكردية ، قوات البشمركة ، قوات الجيش ، الشرطة المحلية ، استخبارات الشرطة والجيش، حرس من كل النحل والملل ، والعيون التجارية للايرانيين والاتراك (الكومبرادورية الجديدة للمحيط الاقليمي وأجهزة مخابراتها ) ، والامريكان بالطبع - الاساتذة في عروض التهريج السياسي . هذه هي مدينة يوم الحشر وليس قدس الأقداس. فإذا ما عدّت مدينة نفط فهي ليست المدينة العمالية المكافحة التي كانت ، ولا مدينة جماعة كركوك الأدبية ، ولا مدينة الطبقة الوسطى التي أملت بالتآخي القومي بجمعه مع الازدهارين النفطي والاخلاقي. وإذا عدتها أدبيات قديمة مدينة التآخي القومي فهذا مجرد استرجاع رومانسي لحالمين. إنها باختصار مدينة الشوفينيين الكرد والتركمان والعرب ، مدينة أفسدتها السياسات القومية القديمة والحديثة والاحتلال الامريكي والتدخلات الاقليمية وردود الافعال محطمة قواها الاقتصادية والاخلاقية.
 لست أدري كيف تنفع مدينة كهذه للفدرالية ، وكيف يمكن دمجها بها ، في الوقت الذي تحتاج السليمانية وأربيل الى اعادة دمج ، ودمج يجب القيام به باسم الديمقراطية وآلياتها وليس بالخطب القومية!
إن الأعزاء الأكراد الذين يتصفون بالنبل والطيبة، والذين قدموا التضحيات الجسام على مذبح حريتهم، هم اول المتضررين من سياسة قومية تجريدية في مناخ جديد الاولوية فيه للتنمية والديمقراطية والحريات السياسية والمدنية .
إن أضعف الإيمان هو الاصلاح السياسي ، لكن تلك معركة يجب ان تخاض مع اشقائهم العرب ضد الميول اللاديمقراطية التي يبديها النظام السياسي الحالي. على الاكراد قبل غيرهم الحث على المراجعة والاصلاح ليس في كردستان وحدها بل في سائر البلاد العراقية المنكوبة ايضا.
تلك هي ايضا من مستلزمات فيدرالية قائمة على العدل وتبادل المنافع.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  سهيل سامي نادر


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni