... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  في السياسة

   
عصافير مطرودة من القفص هي التي استدعت الفجر

فاروق يوسف

تاريخ النشر       26/03/2011 06:00 AM


"سقط النظام السياسي العربي"، يقول الشباب العربي اليوم. لكن ماذا عن النظام الثقافي؟ كانت هناك دائماً مركزية في المشهد الثقافي العربي. مركزية لعبت دوراً كبيراً في تكريس الاوضاع السياسية الشاذة. هل كنا مخدوعين؟ شيء من هذا القبيل. لكن هل كان المشهد الثقافي كله كئيباً؟
يعيش العالم العربي حالة طوارئ منذ حوالى خمسين عاماً. نصف قرن حُرمنا فيه حتى من الوصول الى غرفة الانعاش. حتى الاسعافات الاولية كانت، ولا تزال، نافدة المفعول بما يدعو الى السخرية. شيء من التجريب القسري الذي لا يرى في حياة البشر ما يدعو إلى الاحترام أو الشفقة على الأقل، مستبعداً هنا فكرة التقديس الهلامية.

حداثة منفصلة عن ذاتها

في ظل ذلك الوضع الاستثنائي والمعقّد، كانت الحداثة الفنية العربية قد انجزت كل مهماتها، بل وفي وقت مبكر. صار الشعر مرسلاً وحراً ونثرياً، وانتقل الرسّامون والنحّاتون من الواقعية الى التجريد وما بعده، وتبدلت أشكال السرد وصرنا بين حين وآخر نحضر عروضاً جريئة للرقص التعبيري (لا بأس بقليل من التعري)، وفي المسرح كانت لنا دائماً اطلالات تجريبية لافتة. غير أن كل تلك التحولات الجذرية لم تنجح في اختراع حاضنة أكبر من تلك التي ولدت فيها. ظلت مشكلات الفن تدور في فلك مغلق على نفسه. دائرة غير قابلة للتمدد. كان روّاد الحداثة قد اختفوا بفعل الموت أو الصمت الابداعي (جلس بعضهم على التل مبكراً إلا في ما ندر)، فكانت القطيعة بين فئة المثقفين والمجتمع نوعاً من واقع حال لا يمكن تغييره بيسر. لم يكن فشل مشروع الحداثة مخفياً. كانت المجتمعات العربية التي وقعت منذ ستينات القرن الماضي رهينة في أيدي عصابات حزبية وعسكرية تتماهى مع كل إجراء شمولي من شأنه أن يعطل كل تفكير حداثوي. بل أن غالبية المثقفين الحداثويين قد وجدت في قيام أنظمة ذات طابع شمولي ردّاً ثورياً على ركود ما كان يسمّى بالأنظمة الرجعية في البلدان النفطية وسكونيتها. على سبيل المثال، شكّل ظهور حزبي متآمر من نوع عبد الفتاح اسماعيل في عدن مناسبة للاحتفاء بنموذج رجل الثورة المعاصر بالنسبة الى كثير من المثقفين العرب الذين سعوا إلى أسطرته من خلال حوارات ملفّقة أجريت معه، في حين كان العراقيون ينظرون إلى عزيز الحاج باعتباره غيفارا العراق، وهو الذي انهى حياته السياسية بخيانة مَن ورّطهم في حرب عصابات، كان يعرف سلفاً انها خاسرة. لم يحرص المثقف العربي على أن يكون مستقلاً، بل انصبّ حرصه على أن يكون تابعاً، حتى وإن لم ينتم إلى حزب أو نظام سياسي أو نقابة. شيء ما كان يردّه إلى الأصول: الشاعر صوت القبيلة (ونبيّها إذا سمحت). روى الرسّام العراقي الراحل شاكر حسن آل سعيد لي حكاية لقائه اليتيم بصدام حسين، قال: "عدت من ذلك اللقاء منتشياً وبدأتُ أكتب ما جرى من حوار وأنا أستحضر ما كتبه اندره مالرو عن لقائه الأول بالجنرال شارل ديغول في كتابه "الحبل والفئران"، ثم بدأت يدي ترتجف ولا تطاوعني. ما هذا الكذب؟ لقد شعرت حينذاك أنني في طريقي إلى الكفر. فمزّقت تلك الأوراق وصرت أبكي داعياً الله أن يغفر لي". في المقابل علينا أن نتذكر مئات المثقفين العرب الذين ذهبوا إلى طرابلس الغرب من أجل التمعن عن قرب في معجزات القذافي الأدبية في كتابه "الارض الارض". لقد أضاف مثقفو الحداثة هبّات فاسدة إلى ذلك الهواء الذي كانت الشعوب تتنفسه. كان هناك دائماً ما يدعو إلى اليأس. وحين قال أدونيس بانقراض الثقافة العربية أمام جمهور كردي في العراق، وكان محقّاً، فإنه لم يتوقع أن شباباً لم يقرأوا شعره سيفتحون أمام العرب أبواب التاريخ مرة أخرى.

قصيدة النثر ونساء الرياض

أيعقل أن نقول: ان كل الرسم وكل الشعر وكل القص وكل الموسيقى في البلدان العربية، لم يكن له وزن في صناعة وعي الفرد العربي بمصيره الوجودي. لنتأمل حالتين فقط: فيما انشغل المثقفون المصريون لسنوات طويلة بمصير قصيدة النثر كانت الرواية النسوية تدقّ أبواب المراهقات والمراهقين في السعودية. اتخذ غضب أحمد عبد المعطي حجازي شكل السخط الفرعوني، فيما ذهبت رجاء الصانع الى العالمية بسبب روايتها الهزيلة "بنات الرياض". وكما أرى، فإن تلك النهايات التي يمكن أن توصف بالبائسة كانت متوقعة بعدما عاشت الثقافة العربية زمناً طويلاً فارغة من كل حث على التمرد والعصيان، يدفع بها إلى مناطق التغيير الجذري. بالنسبة الى دعاة قصيدة النثر في مصر، فقد كان خيار الوجود يكمن في اختلافهم مع مؤسسة الشعر السائدة. أما بالنسبة الى بنات السعودية فقد كان الذَّكَر خلاصة كل خيال متاح. في الحالين، فإن عصفا ما لن يتسرب إلى المجتمع. كانت مدن الملح تتمدد ولم يوقفها النهر الصناعي العظيم في ليبيا ولا النهر الثالث في العراق، الذي كان عبارة عن كذبة جغرافية كبيرة. أليس من الظلم القول إن الحداثة الفنية كانت نوعاً من استيراد تقنيات محايدة في الكتابة وفي الرسم وفي المسرح؟ يمكننا أن نكون إيجابيين فنوافق. لكن القطيعة ظلت قائمة. لم يلتفت أحد من أتباع مقتدى الصدر إلى السياب في "أنشودة المطر". لم يقرأ اللبنانيون جبرانهم وهم يجرّون بلادهم إلى كهوف الامارات الاقطاعية. لم يشعر السوريون بالخزي حين لم يمشوا وراء جنازة شاعرهم العظيم نزار قباني. يلعن الكثير من العراقيين شاعرهم الأكبر سعدي يوسف لأنه يقف ضد الاحتلال الاميركي وما نتج منه. لم يعد ينفع النصح. وهذا ما انتبه إليه شباب الثورة العربية الجديدة جيداً. هناك حداثة قد خانت في وقت مبكر وظيفتها، وفرّطت باستقلالها، وصارت الثقة بها موضع شك. وهناك في المقابل شعوب استُهلك ضميرها حتى لم يعد الحديث معها عن العدالة الاجتماعية ممكناً. صارت العدالة الاجتماعية نوعاً من الخرافة التي تنتمي إلى حكايات السلف الصالح. لقد لعبت المؤسسة الدينية دوراً خطيراً في تعليب رغبة الشعوب العربية بالحرية. في هذا السياق يمكننا أن نفهم لِمَ لم يُرفع شعار "الإسلام هو الحل" في كل الثورات العربية المعاصرة. من حسن حظ اولئك الشباب، أنهم لم يحفظوا من الشعر العربي سوى بيت أبي القاسم الشابي: إذا الشعب يوماً أراد الحياة... كان القدر بالنسبة الى كثر من صنّاع الحداثة العربية هو من اختصاص الأنظمة المستبدة، التي لم يحلم أحد بزوالها.               

الهامش الذي يخبّئ معجزاته

كان هناك خطأ. كنا نعاصر ذلك الخطأ لحظة بلحظة. وكان الموت يسبقنا إلى كل لحظة عيش مقترحة. منتصف التسعينات من القرن الماضي كان هناك شاب بحريني اسمه أنس الشيخ. جعلني اصرار ذلك الشاب على أن يقدّم فناً مختلفاً من خلال وسائط تعبير جديدة، التفت إليه باعتباره ظاهرة شاذة في محيط اجتماعي جعل من الفن مصيدة للأثرياء الجدد. شغف ذلك الشاب الذي ولد عام 1968، بالاحياء التي تقيم فيها الفئات المهمّشة والمنبوذة، وصار يصوّرها فتحوّلت تلك الأحياء مصدراً وحيداً لإلهامه الفني. كان فنه يتناسب طردياً مع فكرة العيش واقعياً بما يتناقض مع الفكرة المشاعة عن ترف الحياة المخملية في الخليج. أعمال ذلك الفنان وهي تدير ظهرها لكذبة الترف، كانت تحدث خلخلة لافتة في الميزان الواقعي. لم تكن تلك الاعمال تمارس الخديعة الجمالية التي وقعت الحداثة الفنية في فخّها. كانت مفرطة في واقعيتها إلى درجة التطابق، ولم تكن تعير الشيء الجميل أيّ اهتمام يُذكر. تذكرت أعمال ذلك الفنان حين رأيت الناس في "دوّار اللؤلؤة". كان هناك دويّ مستعاد. لو وقع التجمع في ذلك الدوّار قبل أكثر من عشر سنين، لكنت رأيت أنس الشيخ بين الشباب الملوّحين بقبضاتهم. هل كان فنّه نبوءة مبكرة؟ بالرغم من أن فنّ أنس الشيخ لم يتخطّ حدود الهامش في المشهد الفني البحريني، فإنه ترك أثراً بليغاً في تجارب عدد من الفنانين هناك. ذلك الأثر يمكن بيسر تتبّع حركته الارتدادية بين الفن والمجتمع. وكما أرى اليوم، فإن هيمنة مراكز القوى المكرسة على المشهد الثقافي في البلدان العربية، قد وقفت بيننا وبين إمكان التعرف الى التجارب الفنية التي كانت بمثابة تمهيد للخروج إلى عصر جلب معه وسائط تعبير وتقنيات ما كان المجتمع العربي قادراً على استيعاب حيويتها، إن ظل خاضعاً لأليات التفكير الثقافي القديمة. كان هناك من يقول: ان القرن الحادي والعشرين سيكون قرناً اميركياً خالصاً. نعم. سقط جدار برلين. تفكك الاتحاد السوفياتي. اختفت الكتلة الشيوعية في شرق اوروبا وانتهت الحرب الباردة. ولو قال أحد إن العرب سيكونون موجودين فإن كلامه سيقابَل بالسخرية. الآن يمكننا أن نقول بثقة ان جزءاً من هذا القرن سيكون صناعة عربية. على الاقل العقد الثاني منه .


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  فاروق يوسف


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni