... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  في السياسة

   
ساطع الحصري وحصار الذاكرة العراقية الخربة

د. ميثم الجنابي

تاريخ النشر       04/04/2011 06:00 AM


إن الأمم الكبيرة هي التي تعي ذاتها بمعايير الحق والحقيقة، أي تلك التي تنظر إلى نفسها بمعايير تجاربها الذاتية. فهو الطريق الوحيد لتراكم المعرفة الحقيقية ووعي الذات الوطني والقومي. ومن مآسي العراق الحالية هو فقدانه لهذه الصفة الضرورية التي ميزت معنى الأصالة وقيمة إبداعه التاريخي. كما أنه السبب القائم وراء مراوحته في دائرة التلذذ بخرافات "الأنا الكبرى" وأوهام "التفوق الحضاري"! أما في الواقع فإننا نقف أمام حالة تتسم بقدر هائل من الانحطاط المادي والمعنوي. وأحد ملامح هذا الانحطاط هو محاصرة ذكرى شخصياته الكبرى، الفاعلة في تأسيس وعيه الذاتي وعمود كينونته الثقافية. فالشخصيات الكبرى هي أرواح الثقافة والأمم، كما أنها تحتوي في ذاتها بقدر واحد على قيمة الذكرى والذاكرة. وبالتالي لا يعني تجاهلها أو إهمالها سوى تجاهل تاريخها الذاتي. فالتاريخ الذاتي للأمم يتراكم عبر حصيلة تنظيره المناسب في الأفكار والمواقف والأحكام القادرة على تنظيم الرؤية الفردية والاجتماعية وتفعيلها بصورة دائمة. فهو الطريق الواقعي والعقلاني لإرساء أسس الاعتدال، ومن ثم تذليل نفسية وذهنية الراديكالية بشكل عام والسياسية بشكل خاص، التي لعبت دورا بائسا ومخربا في تاريخ العراق الحديث.

إذ لم تكن الراديكالية الفكرية في العراق أكثر من تقليد فج ومسطح لفتات الأفكار الأوروبية، كما أن الراديكالية السياسية فيه لم تكن أكثر من هياج التخلف المادي والمعنوي للحثالة الاجتماعية والهامشية الثقافية والأقليات المنغلقة والبنية التقليدية والأعراف المحدثة! وبمجموعها أدت إلى حالة تتسم بقدر هائل من الفضيحة والرذيلة، ألا وهي سطوع أشخاص خاوية وكسوف شخصيات ساطعة لعل حالة ساطع الحصري من بين أكثرها درامية وعبرة.

فقد قالت العرب قديما "شر البلية ما يضحك"! ولعل حالة ساطع الحصري هي من بين أكثرها تدليلا على هذه العبارة المأثورة. الأمر الذي يشير إلى أن الوعي العراقي السياسي على مستوى النخبة والعوام هو من طينة واحدة! وسوف يبقى هكذا ما لم يعد الاعتبار إلى شخصياته الكبرى. فهو الطريق الضروري لإعادة الاعتبار لفكرة الاعتدال العقلاني، أكثر مما هي إعادة اعتبار للشخصية. فالشخصية الكبيرة كبيرة بذاتها. وما لصق بها أو تراكم من حراشف التقييمات والأحكام ستزول بالضرورة مع مرور الزمن. وبالتالي ليس إعادة الاعتبار للشخصيات الكبرى سوى أسلوب إعادة الاعتبار للعقل والعقلانية بالنسبة لحياة الفرد والمجتمع والدولة والنظام السياسي. وذلك لان إعادة الاعتبار للشخصيات الكبرى يحتوي أيضا على أسلوب تنظيم الوعي الاجتماعي الفعال صوب منظومات الروح والوعي التاريخي والقومي الحقيقي. ولا تعقل الثقافة الحية والفعالة دون ذلك أو خارجه.

لقد كان المضحك المبكي في محاصرة شخصية الحصري يقوم في كونها جرت من جانب التيارات المذهبية (الشيعية) واليسارية (الشيوعية) والحركات القومية (البعثية)، أي من جميع التيارات التي أدى كل منها بطريقته الخاصة "دوره" على مسرح الزمن السياسي العراقي الحديث. وفي كل منها كانت الأوهام والأحكام الايديولوجية المسطحة هي الفاعلة وراء حمية النكران والهيجان ضد الحصري.

فالتيار الجعفري (الشيعي) آنذاك لم يكن من حيث الجوهر أكثر من ردود فعل نفسية ومذهبية بدائية. وذلك لأن التشيع لم يرتق بعد إلى مصاف الفكرة السياسية المنظمة. من هنا شيوع الأوهام بصدد شخصيته ودوره وفعله وتخطيطه وتحولها إلى اتهام شبه راسخ في الوعي السياسي. ولم يكن ذلك معزولا عن حالة الوعي القومي وتدني مستوى الصيرورة الذاتية للهوية الوطنية العراقية وجذورها العربية المتحللة في مجرى السيطرة التركية العثمانية. وليس مصادفة أن تكون قضية الموقف من إيران آنذاك محك المذهبية مع انه لا علاقة جوهرية بين الاثنين. والأدق القول، بان القضية ينبغي أن تكون بالعكس. ألا ان عراق العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين كان يتسم بقدر كبير من التخلف والبدائية والسذاجة السياسية أيضا. فقد كان الهم العميق عند الحصري هو الفكرة القومية (العروبة الثقافية). وضمن هذا السياق ينبغي فهم مواجهته لما أسماه آنذاك بالتدخل الإيراني. فقد اعتبر بعض "الشيعة العراقيين" ذلك هجوما على الجعفرية، كما ذكر ذلك الحصري في مذكراته. بينما كان هم الحصري يقوم في مكافحة التأثير الإيراني على المدارس العراقية. وقد أورد الحصري عددا كبيرا من الأمثلة التي تشير إلى أن أكثر من كان خبيثا ومفسدا على التربية والتعليم هم من أصول فارسية. وبالتالي، ليس ما يسمى بعداء الحصري للجعفرية والشيعة أكثر من أوهام واتهام، أي صيغة مفتعلة وكاذبة. والدليل على ذلك، كما يقول الحصري نفسه، بان أغلب من تولى وزارة المعارف (زمن تأثيره الحاسم بهذا المكان) كانوا من الشيعة، مثل بحر العلوم الطباطبائي، وهبة الدين الشهرستاني، وعبد الحسن الجلبي، وأبو المحاسن، ومحمد رضا الشبيبي، والسيد عبد المهدي. أما الخلاف الذي كان ينشأ بينهما فلا علاقة له بغير حالة ومستوى وتباين الاحتراف العلمي والعملي بهذا الصدد.

وقد تكون الحادثة التي يوردها الحصري في ما يتعلق بالعلم العراقي إحدى الطرائف النموذجية التي تكشف عن حجم إدراكه لطبيعة العلاقة بين التشيع والهوية العراقية. إذ يروي كيف أن العلم العراقي كان بيد فارس إلى جانب سعد بن أمية (قاتل الحسين) في أحد "مواكب عاشوراء". وعندما لاحظ الحصري طلب من أحد مساعديه أن يكون العلم العراقي إلى جانب الحسين. وعندما وجد صعوبة في الوصول إلى العلم ونقله إلى جانب الحسين، طلب من الشخص أن يأخذ العلم بهدوء ويخرج به من دون أن يلاحظه الآخرون، لكي لا يثير ذلك حفيظة النفس الخبيثة ومقدرة العراقيين الفاحشة على التأويل المتسرع! إننا نقف هنا أمام حالة نموذجية للغاية تكشف ليس فقط عن موقف الحصري من ظاهرة "المذهبية" الضيقة التي كانت بالنسبة له ظاهرة وتقليدا بدائيا بحد ذاتها، بل وإدراكه طبيعة الترابط بين الحسين والعلم العراقي!

أما التيار اليساري (الشيوعي) فقد كانت مواقفه المشوهة لشخصية الحصري مبنية على توليف سبيكة "الأممية" الوهمية والموقف المعارض للفكرة القومية. فالشيوعية العراقية آنذاك (وحتى الآن) هي ايديولوجية العداء الغريزي للفكرة القومية. وهذا بدوره ليس إلا الصيغة الأكثر تشوها لفهم ماهية الأممية والفكرة "اليسارية" بحد ذاتها. إضافة إلى حزمة العداء المتراكمة تجاه النظام الملكي "المباد" وموقف الحصري من "ثورة الرابع عشر من تموز" التي لم يجد فيها أكثر من انقلاب مخرب للتاريخ الطبيعي للعراق الحديث. بعبارة أخرى، إن الخلاف بينهما يكمن في أن الحصري كان ممثل الفكرة الإصلاحية المنظومية والتراكم لطبيعي للدولة والأمة عبر تنظيم الوعي الاجتماعي بالفكرة القومية والتعليم العلمي والتنوير الثقافي. بينما كانت الشيوعية آنذاك مجرد خطاب ايديولوجي وعصاب متوتر تجاه كل ما يندرج ضمن تصوراته ومعتقداته. أي إننا نقف أمام اختلاف جوهري بين فكرة وشخصية علمية محترفة وبين حثالة مؤدلجة و"ثورية"!

أما التيار القومي (البعثي) فقد حاول مصادرة شخصية الحصري عبر توظيفها الايديولوجي بصيغة تختلف اختلافا هائلا عما في آراء وموقف الحصري نفسه. فالخلاف بين الفكرة القومية عند الحصري وبين مثيلها عند حزب البعث، هو كالخلاف بين فكرة ماركس وبين عضو لا يعرف القراءة والكتابة في صفوف "الطليعة الثورية"! بعبارة أخرى، إن الاتهامات التي كانت ولا تزال توجه ضد الحصري من خلال حصره بقيود البعث مبنية أساسا على تصورات وأوهام لا علاقة لها بفكر ساطع الحصري حصرا!

أما استمرار نفس هذه الحالة حتى الآن في الموقف منه، بمعنى تجاهله وتجاهل قيمته وأثره بالنسبة لصيرورة الدولة العراقية الحديثة ونظامها التربوي والتعليمي (وهو النظام التعليمي الوحيد السليم في تاريخها) يعني ديمومة تقاليد الأوهام والاتهام، أي تقاليد الجهل والتجهيل! وفيها نعثر على مؤشر دقيق يقول، بان عراق ما بعد التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية لم يخط خطوة مدركة بعد باتجاه تحسس وتلمس قيمة الفكرة الإصلاحية. وبغض النظر عن ملابسات ومقدمات الحالة التي يمر بها العراق، والمقصود بذلك مستوى تأهيله النظري شبه المعدوم، ونوعية نخبه السياسية الحالية الخربة، ومستوى التربية والتعليم البدائي، إلا إننا نقف أمام ظهور نبتات حية ناشئة من وراء كل هذا الحطام الهائل. ومن ثم رؤية الأمل الواقعي في ما يتعلق برجوع تأصيل الثقافة إلى أرواح العراق المثقفة، وليس إلى محترفي الابتذال المعرفي و"مستشاري" رئاسات بلا رؤوس قادرة على فقه حقيقة وقيمة الثقافة والعلم والمعرفة. وليس إعادة الاعتبار لشخصية الحصري وأمثاله سوى احد الأدلة التي يمكنها الإشارة إلى طبيعة هذا التحول، على أن يكون ذلك مرتبطا أولا وقبل كل شيء بإعادة تفعيل ونفي التجربة التربوية والتعليمية التي وضع الحصري أسسها في المدرسة العراقية الحديثة. وبدون ذلك يعني بقاء وديمومة الذاكرة الخاملة ونمط الذهنية البليدة وإفلاس القيم وضعف أو انهيار المدرسة وتقاليد التربية والتعليم التي ارتبطت من الناحية النظرية والتنظيمية والعملية بشخصية الحصري.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  د. ميثم الجنابي


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni