... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
نزهة في (سوق الحرامية)

فاروق يوسف

تاريخ النشر       06/06/2011 06:00 AM


 تكتسب الجولة في أسواق للأشياء المستعملة التي لا تخلو منها مدينة من مدن العالم نوعاً غامضاً من الطقس الغريب. ما بين الانتيك والأشياء التي يمكن إعادة استعمالها، تتوزّع اهتمامات المتسوّقين. في دمشق هناك سوق لا تزال تحمل اسم "سوق الحرامية" بالرغم من أن هؤلاء غادروها منذ زمن طويل. هنا جولة غير متوقعة في تلك السوق.
منتصف النهار يختفي يوسف عبد لكي ليظهر بعد دقائق حاملاً بيده شيئاً ما، ثم يلقيه جانباً. لعبة كدت أضيع خلالها لولا أنني كنت أمسك بشبحه أو أبحث عن ياسر صافي بين المندسّين الذين يسترقون النظر الجماعي إلى شيء ما لم أكن أراه من مكاني تحت الشمس. فجأةً رأيتُ رجلاً رثّ الثياب يتبع عبد لكي وهو يصرخ. الرسّام يبتعد وهو يحرّك يديه على هيئة علامة استفهام. ولأني أدركتُ أن ليس هناك مدخل لـ"سوق الحرامية" في دمشق ولا مخرج، فقد صار عليَّ أن أتسلى بتوزيع نظراتي بين جدران لامرئية لمتاهة تضيق دروبها وتتسع في فضاء مرتجل. لم تكن المواد المعروضة صالحة لأي استعمال. يمكننا أن نرجئ الحديث عن أي ضرورة أو معصية. دادائية محكمة. بقايا خراب لا يمكن إعادة تأهيله. مرّ من هنا قطّاع الطرق. مرّت الغجريات. مرّ صانعو السياسة. مرّت المكائد كلها. لا تزال هناك حشود من الغيوم لم يسقط غبارها بعد. دمشق تجرح جلدها وتبطش بياسمين فتياتها. الزمن مستعاداً يتدحرج بين الأقدام الحافية في مشهد ما بعد حداثوي، حيث الثياب الملوّثة معلّقة على حبل غسيل طويل يصل إلى موقف السرفيس. مكواة حجرية كادت تلهمني سخونتها شعوراً بالغصة لولا أن أصابعي اشتبكت مع آلة كاتبة تهدمت مفاتيحها. لا حروف ولا حتى لغة. يمكن الكتابة أن تجري بالنظر. الشعر رسائل لغرباء لم يلتقوا من قبل. ضفيرة يوسف البيضاء هي منديلي في بحر تتموج الصيحات الغامضة على سطحه الأملس. هنالك ساحر يستخرج أفاعيه من عنق زجاجة. أفاع صغيرة هي الأخرى لا تفهم لِمَ صارت الغابة بعيدة. كن صديقي أيها الرصيف ولا تغدر بي.
كان ياسر يضحك بتشفٍّ واضح. جرت الخديعة بطريقة غير مدبّرة. كاملة أنزلتني من هيام الحوريات إلى جزر اليتامى. لا بوصلة ولا مقود ولا قبطان ولا حتى مركب. الخرائط هنا تصنع ذاتها تلقائياً. لا بدّ للمرء من أن يكون كائناً عشوائياً ليعثر على فراغ يؤوي إليه جسده. السؤال بلا فتنته، والنظر يعود منكسراً. هناك من يطهو الطعام. الأبخرة تملأ المكان. أين هو المكان؟ سيكون الطعام جاهزاً بعد قرنين من الهزائم والملامات. أرى منظاراً تركته عينا هولاكو أعمى. يمسك ياسر بيدي ليجسّ النبض الذي صار يخفت. من وراء نظارته الطبية تلمع عيناه مرحتين بدموع مؤجلة. التعبير ينفي أدواته. ها منفيون على أريكة طويلة تركها الملك سليمان بعدما أمسك بيد بلقيس. الصرح لا يهدأ. هل كشفت عن ساقيها حقاً؟ لا نساء هنا. الوقت ضحى والمشربيات مغلقة على شهوات وردية. "إسمعْ يوسف". لا يجيب. فلقد اختفى مرةً أخرى. الرجل ذو الثياب الرثة ظلّ واقفاً في مكانه، لا يعنيه من أمر يوسف شيء. كما لو أنه لم يكلّمه غاضباً. لقد انتهى النص واسدلت الستارة على مسرح تئنّ في ظلمته عصافير محنّطة. "ألم يعدني بالذهاب إلى سوق الحمام؟"، سألت. قال ياسر: "نهار الجمعة". ولكن لا جمعة في هذا الأسبوع. الجمعة للمحتجّين ورجال الأمن والمصلّين وقرّاء الصحف. قلت لأبي سنقفز من الخميس إلى السبت. جمعتُهُم تمرّ مثل يوم لاكته ألسنة الحشرات وبصقته مبتلاًّ بلعابها.
يتطلب الكثير من الكمال لكي يحاط كل هذا النقصان بالكتمان. البشرية تنزل السلالم. درجات فائضة تقود إلى مناطق خيال يابسة. حقول بطاطا وبصل ولفت. زهرة عبّاد الشمس وقد خذلتها أوراقها الصفراء حين ذبلت. هل رأيت فان غوغ هناك؟ الكنيسة تبيع أثاثها. هناك صور باكية لقدّيسين وأباطرة ومريميات وأئمّة خلاسيين وثوّار نازحين وجنود هربوا من قطار سفر برلك ونازحين من حيفا ومطربات حافيات وعثمانيين في اللقطة الأخيرة من المشهد الأمبراطوري. صور مرّت عليها شمس نهار طويل. لا تزال بقايا ذلك النهار تسيل على المئذنة مثل صمغ هندي. مرّ المؤذّن خفيفاً وهو يهذي بصوت حلبي. قدّك الميّاس يا عمري. ليس لذلك النهار أصابع. له قدمان تهرعان بي إلى الظل الرفيع. ها. ألا يزال هناك شيء من خيال الجنّيات اللواتي تركتهن في الـ"فور سيزن"؟. اسمع صوت ياسر يخرج من البئر. الفصول الأربعة هنا جاهزة للبيع المتحفّي. امرأة منقّبة تنهمك في البحث بين أشلاء ثياب متسخة مرمية على الأرض. كهربائي عجوز يرمي مفكّاً في الفضاء ويستقبله كما لو أنه يتلقى هبة إلهية مفاجئة. قضاء وقدر والزواج قسمة وحظّ وبرميل بنصفين. طعم شراب الرمّان ناشف. السراب يتكرر وذكورة المكان تستفزّ المخيلة بقرف كبتها الأصولي. "أنا لك على طول". أسمع صوت عبد الحليم حافظ. كان المصريون قبل نهارين طويلين قد نشروا ثقافتهم في الصبر الجميل هنا. يوهم يوسف عبد لكي مَن يراقبه بأنه يبحث عن شيء في عينه. شيء لا يمكن العثور عليه إلاّ في هذا اللامكان الشاسع والبعيد.
بالرغم من شدة الاهمال التي تميز علاقة الباعة بالمشترين المفترَضين وهو ما شكّل عنصر اثارة مسرحية بالنسبة اليَّ، فقد كنت أشعر بأني قد تورطتُ في وضع سيئ. وضع قد لا يمكنني الخروج منه بهدوء وبقليل من الشعر. تذكرتُ "سوق الحراج" في الدوحة و"سوق مريدي" في بغداد. الأمور كانت هناك أفضل حالاً مما هي عليه هنا. هل يستدرج يوسف نفسه (يستدرج معه الأصدقاء) إلى سباق عبثي مع فكرة العيش عند درجات منسية من العيش؟ كانت الشمس قد استولت على المكان كلّه ومحت كل أثر للظلال. صارت الأشياء المحطمة تلمع: ساعات مكسورة وأوان للزرع مثلومة وأجزاء من محرّك محترق وإطارات صور خشبية غامقة اللون. الماضي يغدر بخياله ويغطي صورته برماد متخثر. أخضر، أصفر كيف يكون الفقر؟ صمتَ ذلك السؤال المترف. أهجو قدميَّ بعدما صارتا ترفسان الهواء بعنف. القيامة لن تمرّ ثانيةً من هنا. هناك مناطق معفاة من الحساب الإلهي. أرى المنهمكين ببضائعهم كما لو أنهم يؤدّون أدواراً في الربيع الأخير. نَفَس من سيجارة وسنهبط بعده إلى خزانة الربّ، حيث سيكون التدخين ممنوعاً. المارّون على عجل يحملون في الأكياس لقاهم غير الخاضعة للتفتيش الجمركي. لسنا في المطهر، بل في خيال ذلك المطهر.
رأيت ياسر صافي أخيراً، واقفاً وهو ينظر إلى مجلات وكتب رميت على الأرض من غير شفقة. "الشبكة"، "الكواكب"، "الصياد"، "الكفاح العربي"، صورة مهترئة لماريلين، ملصق لفيلم "أنا راحلة"، "أيام" طه حسين من غير غلاف، كتيّبات الكلمات المتقاطعة، "ملحق النهار" برئاسة أنسي الحاج، أجزاء من سلسلة "كتابي" لحلمي مراد. لم يمد ياسر يده. كما لو أن الثقافة وقد امتزجت بالغبار لا توحي بالراحة ولا بالثقة. هناك شغب مجاني حاول الرسام أن ينأى بنفسه بعيداً عنه. حين رآني قال بنوع من السخرية: "ثقافة أيضاً!". كانت سخريته محاولة لإخفاء حرجه. عادت إليه حماسته فقال: "كما لو أنك لم تر سوريا من قبل. هي سوريا أخرى هنا". كان يحدّثني عن هلاك عرفته من قبل، بل خبرتُه. سوريا ليست هنا فعلاً. الخيانة وحيدة في مرآتها. أنظر في العيون فلا أرى فجراً بل أرى الشقيقات الفاجرات. غالباً ما يكذب الفقر حين يسعى إلى الظهور متأنقاً. لا يعني ذلك أن سوريا بريئة. ولكن أين نجد ذلك البلد الذي ضاعت نبوءة بولسه (بولس الرسول) بين صيحات رجال أمنه المطعّمة بأبخرة العالم السفلي؟ أخيراً خرج يوسف عبد لكي كاملاً مثلما تركته، من غير أن ينقص منه شيء، ليومئ إلينا بما يشير إلى أن المهمة انتهت. "تاكسي إلى عين الكرش وآخر إلى باب توما". كان حلاًّ مثالياً لكي نفترق.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  فاروق يوسف


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni