... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  في السياسة

   
سقوط إمبراطورية الكذب العالمية

محمد عارف

تاريخ النشر       20/07/2011 06:00 AM


أبلغُ تعقيب على الحدث السياسي الرئيسي هذا الأسبوع في بريطانيا صدر، كالعادة عن "ستيف بيل"، رسام الكاريكاتير في صحيفة "الغارديان". فقد لخص الكاريكاتير صعود وسقوط إحدى أكبر الإمبراطوريات الإعلامية في العالم، وذلك من خلال رسم مالكها روبرت مردوخ، ممسكاً بمقودي كلبي حراسة ينهشان قدميه. وقد تمتع مردوخ طوال أربعة عقود من تأسيس إمبراطوريته في بريطانيا بحراسة رؤساء الحكومات المتعاقبة: ثاتشر، ميجور، وبلير، براون، وكاميرون، وحتى رئيس وضباط الشرطة البريطانية الذين تلقى بعضهم رشاوي عن تسريب معلومات ووثائق لصحف مردوخ، وأخفوا جرائم التنصت على هواتف النجوم والمشاهير وأفراد الأسرة المالكة. ومحور الاستجواب صحيفة "نيوز أوف ذي وورلد" التي تأسست قبل 168عاماً وتعتبر أكثر الصحف الأسبوعية توزيعاً في بريطانيا.

  وتكشف التطورات المثيرة التي أعقبت غلق الصحيفة في الأسبوع الماضي عن العبقرية الكوميدية للسياسة البريطانية. فبعد اعتقال "واليس"، نائب رئيس التحرير المتورط بأعمال التنصت، اعترف رئيس الشرطة البريطانية لرئيس الوزراء أنه تناول العشاء مع "واليس"، لكنه لم يذكر أن "واليس" عمل مستشاراً إعلامياً له لقاء أجر يومي يعادل 1500 دولار، وأخفى أنه استشفى مجاناً في مزرعة صحية كان "واليس" مستشار العلاقات العامة فيها. وعندما سُئل رئيس الشرطة لماذا لم يبلغ رئيس الوزراء بأنه فسخ عقد "واليس" لتورطه في الانتهاكات، قال إنه لم يرغب في جلب الشبهة لرئيس الوزراء الذي كان قد عيّن رئيس التحرير السابق للصحيفة "كولسن" مستشاراً إعلامياً عندما استقال من منصبه بعد سجن مراسل الصحيفة للشؤون الملكية لتنصته على أفراد العائلة الملكية. واستقال "كولسن" عندما افتضح ذلك، ورأفة به لسذاجته، حسب رئيس الوزراء، تم نقله للعمل في وزارة الخزانة، قبل أن يُعتقل أخيراً، وتظهر للعلن كوميديا النظام البريطاني الذي تتساءل وزيرة داخليته "تيريزا مي": من يستجوب المستجوبين؟

وتثير الدهشة قلة ثقافة لجنة الثقافة في البرلمان البريطاني التي تولت الاستجواب من دون أن تطرح سؤالاً واحداً عن فساد الثقافة التي أسستها إمبراطورية مردوخ! وكما استهل كاريكاتير "الغارديان" أسبوع الاستجواب، فقد اختتمه برسم قبر رئيس الشرطة البريطانية ومساعده يرفعان ذراعيهما من تحت التراب ماسكين بقدم رئيس الوزراء البريطاني الآيل للسقوط. وما بين فاتحة الكوميديا وخاتمتها، استقالت "ريبيكا بروك" رئيسة الشركة المالكة للصحيفة، واعتقلت في اليوم التالي، وبعدها بيوم استقال رئيس الشرطة، ثم استقال نائبه في اليوم التالي، وتوفي فجأة شاهد اتهام رئيسي قبل يوم من جلسة الاستجواب البرلماني الذي جرى وفق طريقة بطل الروايات البوليسية المشهور شرلوك هولمز: "إعلم أن طريقتي تقوم على أساس رصد التُرّهات"! وأهم التُرّهات التي عُثر عليها في أكياس المهملات بمستودع الشرطة، 14 ألف وثيقة لعمليات التنصت على 5 آلاف شخصية مشهورة. والتُرّهات أساس إمبراطورية مردوخ التي أسستها صحيفة "صن" المشهورة بنشر صور نساء عاريات على صفحتها الثالثة. وبالتُرّهات أصبحت أكثر الصحف اليومية مبيعاً، وأقواها نفوذاً سياسياً، إلى حد ترتعد له فرائص زعماء الأحزاب الديمقراطية، الذين يتوقف فوزهم في الانتخابات على دعم "صن". وعندما حجبت "صن" دعمها، خسر براون الانتخابات لأنه، حسب أصدقائه، لم يوافق على شرط مردوخ بإعلان العزم على الخروج من الوحدة الأوروبية.

وتعني "صن" الشمس، وهي كذلك بالنسبة لإمبراطورية مردوخ الإعلامية التي تملك أعرق الصحف البريطانية اليومية مثل "تايمز"، والأسبوعية مثل "سانداي تايمس"، إضافة إلى "شبكة سكاي" التلفزيونية؛ جوهرة شركة "نيوزإنترناشينال" التي تملكها "نيوزكوربوريشين" العابرة للقارات والجنسيات، من الولايات المتحدة حيث تملك شبكة تلفزيون "فوكس نيوز"، وخدمات أسواق الأسهم "داوجونز"، وصحيفة المال والأعمال "وول ستريت جورنال"، واستوديوهات في هوليود تنتج أشهر برامج ومسلسلات التلفزيون، مثل "سبمسون" و"سوبرانو". وتمتد حدودها إلى الصين، حيث تملك صحيفة "بيبلز ديلي"، ومئات الصحف وشبكات التلفزيون في ألمانيا، وإيطاليا، والهند، وأستراليا. وموارد الإمبراطورية، على غرارها، "إمبراطورية" تحقق في صناعة السينما والترفيه نحو 8 مليارات دولار سنوياً، وفي التلفزيون أكثر من 4 مليارات، وفي شبكة التلفزيون السلكية 7 مليارات، وفي الصحافة وخدمات المعلومات 6 مليارات، وفي أنظمة البث الفضائي المباشر نحو 4 مليارات، وأكثر من مليار دولار في كل من خدمات التسويق، ونشر الكتب، ونشاطات إعلامية أخرى. ولا تشمل هذه الأرقام تحالفاتها الدولية التي تمتد حتى "تاتا" الهندية، و"روتانا" السعودية.

 وتبدو الإمبراطورية اليوم كالسفينة الموبوءة بالطاعون، يستميت الجميع في مغادرتها. وإذا بين التحقيق في الولايات المتحدة أنها تنصتت على هواتف ضحايا 11 سبتمبر 2001، فهذه ستكون القشة التي تقصم ظهر الإمبراطورية. وقد شرع مكتب التحقيقات الفدرالي في استقصاء الاتهامات، وارتفعت أصوات المستثمرين الذين أفزعتهم خسارة أسهم الشركة ملايين الدولارات خلال أيام، مطالبين بإزاحة مردوخ وأبنائه عن الإدارة العليا. وتتردد التقارير حول بيع أجزاء الإمبراطورية بالقطعة. ويذكر أن بين الراغبين بالشراء جهات إعلامية عربية خليجية، وأنا أشك في ذلك. فالخليجيون عقدوا صفقات في الماضي مع مردوخ ليس لمهاراته الإعلامية، بل لنفوذه السياسي في واشنطن ولندن. ومع التراجع السريع لأسعار أسهم شركات الإمبراطورية، مَن يشتريها وسوق القدرات والخبرات الإعلامية العالمية والعربية مفتوحة على مصراعيها، والبيع والشراء جارٍ فيها على مدار الساعة؟

  ومن اللحظات الفريدة في تاريخ الإمبراطورية استبشار رعاياها وأعدائها بخبر وفاة مردوخ الذي أعلنه موقع صحيفة "التايمز" على الإنترنت، وظهر فيما بعد أنه من عمل "هاكارز" آخرين تحدوا "هاكرز" مردوخ في قاعدة الإمبراطورية. وينافس مردوخ الذي رشقه برغوة حليبية محتجٌ داخل قاعة الاستجواب، رئيسَ الوزراء السابق بلير على لقب أكثر شخصية مكروهة. فهو أجنبي قدم من أستراليا، واقتنى صحيفة "تايمز" التي كانت من رموز بريطانيا، وأقام إمبراطورية إعلامية حطمت نفوذ شارع الصحافة "فليت ستريت"، وأطاحت بنقابة عمال المطابع، ودعم جميع الحروب التي تورطت فيها بريطانيا، من الفولكلاند، وحتى حربي العراق وأفغانستان، والحروب الأهلية في المنطقة العربية. ويُقارَنُ ما يجري له الآن ولإمبراطوريته بتحرير محضر مخالفة مرورية لزعيم عصابات الإجرام المشهور آل كابوني. يذكر ذلك الكاتب الأميركي ديفيد سوانسن في مقاله "روبرت مردوخ الملطخة يداه بالدماء". وهذه دماء ملايين القتلى والجرحى العراقيين، ضحايا أكبر حملة إعلامية كاذبة في التاريخ قادتها إمبراطورية مردوخ.

مستشار في العلوم والتكنولوجيا


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  محمد عارف


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni