... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  حوارات و لقاءات

   
ترييف بغداد

محمد ثامر يوسف

تاريخ النشر       06/08/2011 06:00 AM


يسخر المثقفون العراقيون، المعنيون بالفن تحديداً، من مستوى الأعمال الفنية واللوحات التي يعلّقها السياسيون الكبار، في مكاتبهم، وهوسهم بعرضها والتباهي بها، ورغبتهم في أن تظهر خلف أمكنة اجتماعاتهم المستمرة، وجلساتهم كلما أطلّوا، حيث تحفل بحملها الى المشاهد يومياً المحطات والقنوات التلفزيونية المحلية الكثيرة. يضحكون من ركاكتها ومن مستواها المبتذل والهابط، وهي أعمال عادة ما تشترى من رسامين عاديين بواسطة حرّاسهم ومرافقيهم، أو حتى ترسل اليهم من محال تجارية عامة تبيع كل شيء.

يتندر المثقفون من فضاضة الأمكنة الرسمية وبذخ أثاثها الفاحش، لكن السوقي والصادم للذوق. هذا في الوقت الذي تقبع فيه، أو تتعطل، عشرات الأعمال الفنية الباهرة لكبار الفنانين والمصممين العراقيين إهمالاً في المخازن، تأكلها الأقبية الرطبة، أو تهرَّب بوسائل عدة الى الخارج، في عمليات نهب ضمنية مستمرة لم تنقطع تقريباً، منذ استباحة المركز الوطني للفن الحديث ببغداد، بعد اجتياح البلاد العام 2003، بالرغم من المحاولات التالية البطيئة في لملمة ما انتثر أو ضاع من هذه الأعمال في بلد ظلّ على الدوام يتباهى من بين ما يتباهى به، بتجربة تشكيلية عميقة ومتميزة.
العراقيون من العامة أيضاً، يضمرون السخرية المرة ذاتها، أو يصرحون بها لبعضهم. فكلما ذهبوا الى أعمالهم اليومية طالعتهم نماذج أشجار النخيل البلاستيكية الضخمة التي "تزرعها" بلدية بغداد بفذلكة مبتكرة، في الساحات والشوارع، بينما يشاهدون في الوقت نفسه وبأمّ أعينهم كيف تموت الأشجار الحقيقية عطشاً وإهمالا.
صورتان عابرتان، لكنهما تختزلان في عجالة، حجم محنة الذوق العام المتردّي لدى النخبة القائمة، التي يواجه المثقف المهتم أو الإنسان العادي على السواء فكرتها في "ترتيب" ما يجب ترتيبه. فالإثنان يراقبان بصمت مدمّر، مكاناً تتكرر صورة بؤسه وسذاجة "إعماره"، آلاف المرات، على طول البلاد وسعتها. مكان يكاد يختنق من نفسه أو يملّ منها، بينما هو يرتع في الحقيقة على أموال هائلة لا تكاد تحصى، تبارحه عقول خلاّقة تترك مكانها لآخرين أقل شأناً ودراية في قيادة المدن، حيث تقذف بهؤلاء بعيداً الى ذاك الجوف، طرائق المحاصصة السياسية والطائفية بنسختها العراقية، أو تنهشهم رغبات العشائر والأقارب وسطوة المصالح الخاصة.


المثقف الحائر

لا يسخر المثقف بمرارة من ذلك كله فحسب، لكنه أيضاً يسائل نفسه اليوم، من دون تلقي إجابة واضحة عن مديات وجوده في مدينة حائرة لا تعرف ما الذي تريده بالضبط. إنه يتساءل عن مستقبلها كفضاء مديني يواجه خللاً فادحاً يشهده الجميع، لكن لا يعبأ به أحد.
بعض هذه التفاصيل المّرة، تحدثت عنه "نيويورك تايمس" منذ أسابيع قليلة في تقرير مطوّل تناولت فيه بالتحديد، مستوى الذوق العام الذي يطبع مدينة مثل بغداد اليوم، فوضى عمارتها "الناشئة"، المزركشة والساذجة، مروراً بتنظيم المؤسسات الثقافية نفسها، وما تنتجه، وعلاقتها أو درجة تدخلها بالقيم والأنماط الثقافية والفنية الهابطة التي بدأت تشيع وتنتشر من دون ضوابط أو قوانين واضحة، سواء ما يتعلق بالمنتج الشخصي في البناء والعمارة وبعض فواصل الثقافة والفن، بما فيه ضحالة العروض الفنية المختلفة بالرغم من قلتها ومستوى وتوجهات الخطابات الثقافية المشحونة، أم بخطة الدولة الرسمية واستراتيجيا مشاريعها في "الاعمار" و"تجميل" الساحات والشوارع والنصب، و"تنظيمها"، والتحكم بألوان الأبنية والأمكنة المختلفة وطرائق توزيعها، وغير ذلك من أمور.
يلخص فنان عراقي معروف وصاحب غاليري شهيرة وسط العاصمة، بعض اختلاجاته في صدد هذه المحنة. يقول بكلمات مقتضبة حول ما يجري ببغداد اليوم: "ان الأمر يدعو الى الخجل، انه اقبح شكل ظهرت به المدينة طوال تاريخها، حتى أعمال الفن أو تصاميم المدينة الاساسية وشكلها لا تعنيهم. ان الذين وصلوا الى السلطة كانوا يعيشون في القرى بعيداً من أي تأثيرات ثقافية، فكيف يمكن تطوير ذائقتهم".
مثل هذه الاوجاع التي تنقذف بحسرة على شكل عبارات، أو تلميحات يومية، تظل أوجاعاً مزمنة يجاهر بها عشرات المثقفين والمهتمين، والمختصين الأكاديميين ذوي الشأن. لعل واحدة من أزمات المثقف العراقي الأساسية بالفعل، تكمن اليوم في طبيعة علاقته بمدينة ظلت على الدوام عاملاً أساسيا في تبلور فكرته الثقافية ومستوى وعيه وتطوره، تبعاً لدرجة حساسيته وانحيازه الى قيمها وأنماطها وانفتاحها، في الوقت الذي يتأمل اليوم ملامح مدينته المفقودة تلك، ولا يعثر إلا على ظلال باهتة. اذ لا يختلف عادة، تنظيم الثقافة "وربما مستواها" الى حد بعيد، عن مستوى المدينة التي تعيش فيها وتنمو. أقصد تطور أي مدينة، ودرجة مدنيتها وتنوعها. مدينة منفتحة حرة، نظيفة، متطورة، وخالية من العقد والتابوات، تنتج في الضرورة ثقافة شبيهة. مدينة مقيدة، مذعورة من نفسها، خائفة من حريتها لا عليها، مليئة بالقمامة وبقبح إنشاءاتها، ترفع سلطتها دائماً سبابة الخوف من آخرها المختلف، مدينة مثل هذه تسود فيها بالطبع ثقافة تقليدية غير لافتة، وباردة، إلا في فلتات استثنائية فردية.
لا تتعلق إشارتي هنا، بثقافة النص وتطوره، في وقت غدا فيه مفهوم الثقافة واسعاً وشاملاً، أي تجاوز مفهوم الكتابة النصية التقليدية أو الشغل الادبي المعزول عما حوله، بل بالمعنى الثقافي العام كسلوك يومي، وذوق، وتمرد حر. لهذا عادة، لا يمكن مقاربة المفهومين إلا في حالات خاصة، أي أنهما لا يتحققان بشكل جلي وواضح للعيان. بالطبع، يتحمل المثقفون ومَن هم في صفّهم، قسماً من وزر هذه العلاقة ونكوصها. يتعلق الموضوع تحديداً بعدم تعزيز فكرة المدينة كحيّز ثقافي كبير، والاقتصار على جانب وحيد من عمل الثقافة، وهو الذي استمرأه المثقفون العراقيون لسنين طويلة واقتصر نشاطهم وانشغالهم عليه. أقصد بذلك انشغالهم الأدبي المحض، بالرغم من حديث الجميع الدائم عن الحداثة بوصفها فكرة متصلة وشاملة غير منقوصة، بينما هم يواجهون في الوقت نفسه تخلفاً مريعاً في جوانب الحياة المختلفة، أو يطلّون عليه في كل لحظة.
لذلك، فإن من الطبيعي، أن تسعى السلطة، في كل وقت، لانتهاز الفرصة سانحة للإجهاز على ما تبقّى من هذا الجسد الذي نسمّيه جزافاً مدينة، بكل ما يحتمل من مواصفات وتحديدات متعارَف عليها، أو مختلَف في شأنها، خصوصاً اذا اتكأت كما هو حاصل اليوم على سلطة اللاهوت نفسه، وعلى ترويج الديني السائد لصالحها، بل الاتجار به كوسيلة مباشرة وسهلة للانطلاق نحو رغبات عدة، ليس آخرها تأجيل الجوهر المدني أو اعتباره هامشياً لصالح المتن الغيبي، واللعب في مجاله والافاده منه الى اقصى الحدود.
أفكر هنا في الصراع الوهمي الدائر اليوم بين الثقافة بمعناها العام وبين ضمنية هذه المعركة فوق هذا الجسد/ المدينة، وكيف ستتبلور في النهاية. وأقول "وهمي" لأني أنظر الى طرف واحد فقط، قائم وقوي، لا يهمه شكل "المكان" المفترض ومستواه، طرف معزز بكل الممكنات المتاحة، السلطة والدين، والقدرة على تجييش الآخرين بالمقدس، بينما يتمترس "المثقفون" بأدوات أقل، لم تنضج كفاية، بسببهم وبفعل عدم انسجامهم كثيراً مع روح المدينة داخلهم وفي محيطهم لعقود طويلة، لعوامل كثيرة، ليس أقلها انشغالهم الطويل بهمومهم الذاتية.
لا تعبأ السلطة عادةً بفكرة المدينة كما هي في الضرورة، فلها "مدينتها" المتخيلة اذا شئنا، تشكلها هي، وتحدد قيمها تبعاً لحاجاتها وأغراضها.


النمط والنمط السائد
ثقافة الريف

فتحت بغداد عينيها يوماً مع بدايات نهضتها أوائل القرن الماضي وقد خضّتها إيقاعات المغامرة الأولى، على الكثير من القيم والمعاني الجديدة التي صارت تلهب المشاعر وتدرّب العين منذ الآن على تعوّد هذه الصورة الجديدة التي أخذت المدينة تلبسها منذ أربعينات القرن وأيامه المقبلة، في الشوارع والابنية كما في أشكال العمارة وأعمال الفن التي تطالع المرء في كل زاوية أو ساحة، تالياً في تعاطي الانسان مع هذه القيم وتفاعله معها. حدث هذا كله على أيدٍ وبأفكار نخبة من الفنانين والمعماريين والحرفيين المهرة، بل حتى استيعاب بعض السياسيين أنفسهم لهذا المناخ الجديد. انكشفت المدينة الفتية مرةً واحدة على روح المدن العالمية الجديدة الأخرى، فحاولت أن تتلمس طريقها لتضيف الى ما فيها، ما تضيفه، قيماً معاصرة تآلفت بتناسق مديني، جعلها صورة من صور المدن الناهضة المتوائمة مع نفسها من دون خلل أو اختلال. ما هو مديني فيها وما هو خلاف ذلك تلفظه خارجها وتزدريه، قبل أن تكبو، بفعل الغزوات الريفية المتتالية، مرةً من الجنوب وتالياً من الغرب الصحراوي المتاخم، لتتحول قرية كبيرة مشوهة في ما بعد، أو بالأحرى لتصير كياناً بلا هوية واضحة أو معنى دال، لا يربطها بمفهوم المدينة الا ما يسم اسمها وما يلفّ أحزان الانسان القابع في زواياها المتناثرة بفوضى، أو المشرّد في عشوائياتها المتعاظمة.
ظل ترييف بغداد همّاً من هموم الثقافة العراقية و"مصطلحاً" أغرى كثيرين للخوض فيه، يرسمون من خلاله فوق جسدها أولى علامات محنتهم، بل صار ذلك همّاً عراقياً بامتياز يدار حديثه لدى النخبة منذ عقود طويلة. الترييف الذي أباحه وقنّنه لقريته الأم، صدام حسين، ثم أزلامه لمناطقهم، فطوّق فيه المدينة (بخبث وقصدية) لصالحه، متمماً في الحقيقة فكرة مشروع أقدم، يقل الحديث عنه في الأدبيات العراقية، اذ غطّت عليه في الحقيقة نيات عبد الكريم قاسم الطيبة وفكرته الانسانية التي صارت في ما بعد وبالاً على مدينة بدأت للتو ناهضة ومتمدنة باتساق قبل ذلك، يوم أقدم على توطين آلاف العوائل الفلاحية الجنوبية المحرومة فيها، مؤسساً بذلك لعشوائيات سكنية هائلة حايثت بغداد، وخاصرتها، وبدأت تتناسل في ما بعد. مذاك بدأت المدينة تفقد شيئاً فشيئاً أي وصف محدد يمكن أن يسمها: هل هي مدينة بحق، أم عبارة عن قرية كبيرة، كما بدت خلاصتها النهائية اليوم بالذات، أي في هذه الطبعة الأخيرة من حياتها بعد العام 2003 والتي صارت فيها تماماً بلا هوية واضحة أو نسق محدد.
لا يستثني المتأمل من ذلك كله الا تلك الطفرات الفذة العابرة التي وسمت بغداد يوماً وطرّزتها مع بدايات نهضتها الحديثة. علامات وسمتها في الفن والأدب والعمارة الخاصة، اذ لم تكتف عمارتها بسلب اللب ولا بتحريك الخيال وتحقيق المتعة، منسجمةً مع بقية أشيائها وموجوداتها بوصفها فضاءً جمالياً محضاً يوم كان الانسان أساسها الاول، بل نحت لتوفير عناصر أخرى تحققت معها فوائد جمة وضرورات إنسانية ضمنية متعددة لا توصف، لكنها اليوم تراجعت (كما بقية مدن البلاد) بتراجع عمارتها الخاصة وإخلادها الى كسل البناء الاعتباطي واسترخائها لنمطية معمارية عشوائية وساذجة صارت سمة من سمات هذه المدن.


لقطة سريعة أخرى عن قبح الذوق العام الرسمي!

فرح رئيس الوزراء بفوز فريق الكرة الوطني، تحول يوماً الى نقمة ثابتة. إذ قام ذات يوم بافتتاح جدارية نحتية كبيرة، لكن عبيطة، غطّت واحدة من أهم العلامات المعمارية والجمالية في بغداد: الصرح المعماري اللافت الذي نفّذه لوكربوزيه، أحد المعماريين العالميين الافذاذ. قدِّر لهذا المهندس السويسري الشهير أن يكون له في بغداد أثر هو من أجمل علاماته المعمارية وأرقّ أشتغالاته الهندسية، اذ قال عنه يوماً، إنه عصارة من عصارات قلبه في تطويع العمارة المتصلبة الخشنة لتكون أكثر اختزالاً وأقل قسوة كما هي أكثر تعبيراً عن متطلبات الحاجة المدينية ووظائفها الجمالية. أنشئ هذا الصرح في ثمانينات القرن الفائت، لكنه اليوم مهمل ومتخفٍّ، يعلوه غبار الكسل وتأكل مقترباته الفوضى والقذارة.
مثل هذه الصورة الخاطفة في إمكانها أن تتعدد كثيراً، وللمرء أن يحسب كم من الأعمال المعمارية والفنية الأخرى، مهملة أو مغيّبة، أو لا يقدّر أحد قيمتها سواء كانت أعمالا معاصرة أم مباني قديمة وتراثية. عبرت جسراً ولم أتبيّن أمامي الا بصعوبة ملامح عمل هذا المعماري السويسري الشهير وتصميمه الممتع للقاعة الرياضية المغلقة المعروفة وسط بغداد. كانت جدارية ساذجة أقيمت واحتفت بها الحكومة، تحجب مجال الرؤية بيني وبينه تماماً، بينما كانت مقتربات المكان تحوطها مشاهد صادمة قبيحة من كل جانب، أشياء لا تطاق، تطوف حولها أنقاض وترميمات متكلفة، أسيجة جديدة عالية تشبه أسيجة السجون، ألوان رديئة، فضاء خانق. فكرت للحظة خاطفة قبل أن تندفع السيارات الى أمام، ولكن ماذا يفعل لوكربوزيه بعمارته هنا حقا؟ وبماذا يفكر العديد من المعماريين والفنانين العراقيين الفطاحل الذين ترك كل منهم أثراً ما في بغداد أو أكثر، اولئك الذين رحلوا، أو الذين لا يزالون يعيشون على ألم لا يطاق وهم يحدّقون في مدينتهم كيف تتهاوى، وأعمالهم ومبانيهم الباهرة كيف تذبل أو يعبر فوقها العابرون؟ 


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  محمد ثامر يوسف


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni