... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
(أساتذة الوهم) لعلي بدر.. كاركاتير الشعر والموت

فاطمة المحسن

تاريخ النشر       06/10/2011 06:00 AM


يبدو أن علي بدر وقع في غواية روايته الأولى " بابا سارتر" وهي أقل من سيرة لثقافة الستينات العراقية، وأكثر من تسطير هجاء طريف وشفاف. الروائي الذي اصطاد أوهام الستينات على هيئة رواية ناجحة، عاد في أكثر من عمل إلى روايته الأولى، سواء في استخفافه بثورية هذا الجيل في " الركض وراء الذئاب" أو في استعارته روح الأهزوءة في مقاربة شخصيات مثقفي العشرينات في " الوليمة العارية" . بيد أن السرد الروائي عند بدر يكتسي في مقامه الأول، منطق الستينات المهجوة ذاتها. فالخفة التي يتنقل فيها بين مدن الوهم الثقافية، لا يملكها سوى الستينين في الثقافة العراقية، ولعل كل سطوتهم كانت تنبع من طبيعة المدينة التي تخيلوها في مكان آخر، والحلم الذي وضعوا فيه أنفسهم أبطالاً لحكاية سينمائية لا تنتهي. وتلك في كل أحوالها ليست مثلبة، ولكنها كانت انقلابا على ثقافة التأسيس المتطامنة التي سبقتهم.

أغلب ما يكتبه علي بدر عن الثقافة العراقية يقترب من الواقع، فلابد أن تكون للشخصيات والأماكن ملامح شبه معروفة، ولكنها تكتسي قناعا وهمياً، يجعلها تطفو على السطح بدل أن تتجه إلى الداخل. إنها هنا في مازق وجودها الهش، كاسكيتشات ثقافية تسبقها مقولاتها. ولكن خطة الكاتب كما تبدو للمعاين المنصف، تعتمد مبدأ الاستئناف، فالرواية تبقى مشروعاً لا يمكن إنجازه في عمل أو عملين، وبدر روائي مثابر في بلد تكاد تقاليد الرواية فيه أن تكون ضعيفة.

عنوان رواية علي بدر الأخيرة " أساتذة الوهم" المؤسسة العربية للنشر، يلخص مضمونها، فالوهم هو وهم الشعراء وهم يساقون إلى ساحات الحرب في عراق الثمانينات، ووهم الثقافة وهي تنوس بين جهلها ومعرفتها.

أبطال هذه الرواية، جنود لا يجيدون حرفة القتال، وشعراء يدفعهم الشعر إلى نسيان الموت حتى وهو يباغت شبابهم ويحصد أحلامم. بيد أن علي بدر على عكس الكثير من الروائيين من جيله، لا يملك مزاجا مأساويا وهو يقارب موضوعة الحرب، وتلك فضيلة لمن قُدّر له ان يعيش في بلد استوطن فيه الحزن حتى غدا فولكوراً شعبياً.

في جبهة القتال خلال الحرب العراقية الإيرانية، يتعرف البطل على جماعتين شعريتين، الأولى تطلق على نفسها "جماعة بهية" واللقب مستعار من اسم امرأة تقاعدت عن مهنة بيع الجسد، وجماعة " الدكتور" وهو طبيب وشاعر تصنع شخصيته وديوان له، الأعاجيب بمريديه. لعل في الحالين أسلبة لفعل المقاومة، مقاومة الحرب التي تتبناها المجموعتان، حيث ينتهي أمر أبطالها إلى الموت إعداما أو على الجبهات. وبمقدورنا البحث خارج رمزية الأفعال، عن واقعية تستطيع تنشيط النموذج المتداول عبر صيغة المبالغة والتهكم، فتلك الشخصيات ليست غريبة على الثقافة العراقية.

لن يكون لساحات القتال في هذه الرواية حيز كبير، رغم أن الروائي نفسه كان جنديا شهد حرب الثمان سنوات، ولكن بغداد هي كل ما تبتغي الرواية، بغداد التي تغدو مكاناً للجنود العائدين او الهاربين من الحرب، حين يجددون مشاويرهم مع الشعر والحياة. على هذا يصبح المكان بطلاً في الرواية التي يغلب عليها الوصف والحوار. بغداد القديمة بأزقتهاالمتداخلة،وأديانها المتصالحة، ومقاهيها وشوارعها وباراتها وحياتها الشعبية، تُرصد هنا، حيث يصعب بناء الشخصية دون أن يكون للجغرافيا وقع مؤثر في خلق مزاج الناس وطبيعتهم.

هناك قدر من الإحالة إلى زمن معلوم تتناوله الرواية، وستكون الثمانينات ملحقة بما سبقها من عقود تتمثل في بيت يغدو مركزا للقاء أبطال الرواية الثلاثة، وهذا البيت يعود إلى مهندس درس في الاتحاد السوفيتي وعاد رفقة زوجته الروسية التي تركت البيانو جزءا من ديكور منزلها الأليف. يصبح البيت الأنيق المصمم على طراز المعمار الروسي والعراقي، مطرحا للشعر ومنطلقا لمغامرة الأبطال: منير ابن هذه العائلة، وصديقاه عيسى الفقير الذي تخيل أن أمّه ولدته لا من أبيه السكير، بل بمعجزة ربانية، و ثالثهم السارد وهو الوحيد الذي يبقى بعد موت رفاقه. لعله الزمن المنتهي لأدلوجة المكان الشعري الذي حاول اليسار زرعه وتبييئه، وأفل بأفول ثقافتهم في الثمانينات. بعد أن يُقتل منير في الحرب ويأتي صديقه بجثته من الجبهة يلقي النظرة الأخيرة على هذا البيت الذي حل فيه الخراب. منير الذي يترجم عن الروسية قصائد يتلقفها أصدقاؤه بما يليق بها من تكريم، لم يكن يعرف القراءة بلغة أمه، كما يكتشف صديقه، ولكن خياله هو كل ما تبقى له. سيكون لبقية الأبطال حكايات تشبه هذه الحكاية، فالبطل الثاني عيسى الهارب من الجيش، يقرأ بثلاث لغات، ولكنه لا يعرف التكلم بها. شغفه بحياة كتّاب الغرب وتتبعه لسيرهم، يغدو حالة تقمّص تجعل منه شخصية تعيش فصام زمانها بين أن تكون ببغداد أو ترحل بأحلام اليقظة إلى الغرب موطن الحلم الشعري. هذه المقولة تستكمل الأولى عن ثقافة التابع، وفي بلد طرفي مثل العراق. ولأنها لا تحتمل الكثير من الاستنكار والقسوة كما هي حالها مع مثقفي العشرينات والستينات في خطاب علي بدر الروائي، فهي تحتاج إلى منطق يبرر اغتراب المثقف عن مكانه وزمانه، وستقدم الحرب والاستبداد الأسباب المنطقية. بغداد الثمانينات وصلت إلى مرحلة من التطور غير مسبوقة، كما يقول الراوي ولكن ( كان التناقض بين حكم استبدادي توليتاري فظ وبين تطور مدني وحضري هو الذي أوصلنا الى نوع من التناقض الفصامي).

استطاع علي بدر في رواية " بطاقة دخول إلى حفلة المشاهير " أن يلغي سؤال ثقافة التابع، بما تضمره مقولاتها من مفاهيم الانبهار وتقليد النماذج، فسارده في تلك الرواية يتبنى فكرة الثقافة المرتحلة إلى مهرجانات العظمة والخلود، كي يهرب من حيزه الضيق، ولن يكون تنقله بين مدن الوهم، غير هروب يحتاجه على جبهات القتال كي ينسى الموت والحرائق. روايته الجديدة تستأنف تلك الشخصية في نموذج عيسى الشاعر.

فكرة الاغتراب عن المكان عند المثقف العراقي، وهي مقولة الرواية الأساسية، يقابلها شغف بتصويره، فالسرد يقوم على الوصف، وسجلات الوصف في هذه الرواية تسترجع زمن مضى، وتحركها ما تبقى من أرشيفات المدينة، وسيسير وصف المكان والزمان، في خطين متوازيين يُنظر إلى تداخلهما عند رسم بورتريه الشخصية الروائية، لأننا نكتشف الشخصيات من خلال الوصف لا من خلال تطور وعيها أو اشراكها في مهمة السرد. الإدراك البصري في الحالين لا يخلو من إحلال وإبدال بين عين الراوي وعين الموصوف، فالكل هنا لا يقبل الاستيقاظ من حلمه، وتلك النظرة تبقى إلى النهاية مكتملة، لا تنفيها او تتناقض معها تصورات دخيلة تخترقتها أو تنتقص من كمالها.

لعل فن السخرية يستدعي خلق النموذج الجاهز، وهو لا يتحمل عبء تداخل المواقف والأفكار، وستكون لفنتازيا الواقع ما يبرر موقف المؤلف المتطفل، فصورة مثقف عراقي "جينيك"، كما يرد في عنوان فرعي، هي ما يبتغيه المؤلف عندما يقول وهو يخاطب القاريء على نحو مباشر " عادة معروفة عند المثقفين العراقيين بشكل عام، عندما يخرج أحدهم من المنزل يحمل كتابا او مجموعة من الكتب، لا يضعها في كيس او حقيبة، انما تبقى مكشوفة، يقبضها بيد واحدة. اما الاكسسوارات فيجب ان تكون حاضرة أيضا جاكيت عريض، لحية لم تحلق منذ يومين او ثلاثة. نظارة طبية حتى ولو كان البصر ستة على ستة".

هل زادت او نقصت هذه المعلومة من صورة الأبطال في الحكاية، وصورة عيسى او الدكتور فاوست على وجه التحديد؟ ربما طبيعة انبساط السرد وتهكمه، تستدعي تلك الملاحظات، فعين السارد في كل روايات علي بدر، ترى الثقافة العراقية، كما ينبغي أن تراها شخصية عيسى الشاعر، التي تنظر إلى الوجود بخفة الطائر المحلق بجناحين من شمع، وهذا السر وراء نجاح هذه الشخصية في الرواية.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  فاطمة المحسن


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni