... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
حسب الشيخ جعفر: الشعر بين الغربة والعزلة

ماجد السامرائي

تاريخ النشر       30/11/2011 06:00 AM


بعد صمت دام سنوات عدّة يطل الشاعر حسب الشيخ جعفر علينا بعملين شعريين في وقت واحد، وهما: «تواطؤاً مع الزرقة» و«أنا أقرأ البرق احتطابا» ممثلاً بهما / ومن خلالهما استمراره الشعري ضمن نمطين من الكتابة يبدو أنهما لازماه، وتلازم معهما تعبيراً منذ نحو ربع قرن أصدر في خلاله من الأعمال ما يؤكد هذا المسار الذي نجده كمن يعمل على «تعميقه» شعرياً، سواء بالتواصل معه «نمطاً»، أم من خلال التنويع فيه «قولاً».
 وإذا كان للشاعر، هنا، تاريخه الشعري الذي يؤكد عملاه الأخيران تواصله معه والاضافة إليه، فإن هذا التواصل يدعو الى مراجعة هذا التاريخ في الأهم من مفاصله، فذلك وحده هو ما يجعل هذا التاريخ الشعري واضحاً، منجزاً وتطورات ـ وهو ما تحاول هذه المقالة أن تمضي فيه.
 لا يمكن النظر في شعر الشاعر حسب الشيخ جعفر بمعزل عن مرحلته الشعرية، أو وضعه بعيداً عنها. فإذا كان قد أدرك «جيل الستينات»، يوم كان هذا الجيل في ذروة صخبه، بعد عودته من موسكو العام 1967، فإن ما عاد يحمله من هناك هو عمله الشعري الأول «نخلة الله» الذي سيصدر من بعد تلك العودة، وقد كان فيه، كما ظل من بعده، بعيداً عن تلك «التجاذبات النقدية» التي اتخذت عند غير شاعر من هذا الجيل «أبعاداً شعرية» طموحة كانت تحاول «التأسيس» لحداثة أخرى غير التي أسس لها «جيل الرواد»، والتي كان حسب أقرب إليها في شعره الأول، وفي ديوانه الأول.
 غير أنه إذ عمد الى أن يتطور، ويغاير ذلك النمط ، محققاً إليه «الاضافة»، وليس الانسحاب منه، كان أن أخذ طريقه الى ذلك من خلال القصيدة، وليس عبر «الصخب النقدي» الذي بلغ عند البعض، من جيله، حدّ الطغيان على المنجز الشعري: وعداً بالتحقيق، لا انطلاقاً من المتحقق. فهو ـ كما سنرى ـ أراد أن يكون لحراكه ضمن هذه»الموجة» مداه الذاتي، وأن تتقدم به فيتقدم بها / ومن خلالها. وكما يبدو من تحولاته فإنه كان يريد أن يكون له «صوته الشعري» الذي يحدد سمات «مشروعه» وخصائصه. وقد أخذ دربه نحو «التوحد» مع رؤى ومفهومات شعرية كان يريد لقصيدته أن تكون بها / ومن خلالها. وهكذا كان الانتقال: من قصيدة الرؤية / الرؤيا بطابعها الغنائي، الى قصيدة الرؤية / التأمل، التي سيبلغ بها حدود التخييل (في ما سيعتمد لها من شكل شعري ينحصر في نطاق «القصيدة المدوّرة»...).. ومن بعد سنجده يعتمد ما يمكن أن الاصطلاح عليه بـ«قصيدة الأفكار الرؤوية»، وهي ما يتمثل، أكثر ما يتمثل، في شعره الأخير، وفي مستويات متعددة.. فكانت قصيدته التي أخذ نفسه معها بأطياف من الرؤى، والمفهومات، والتصورات، والتمثلات والتمثيلات التي تحركها الأفكار والرؤى، جامعاً فيها بين نظرات قد تكون متقاطعة ظاهراً (الحكمة.. التصوّف.. المواقف والرؤى الوجودية.. الأفكار التي قد تبلغ معه / أو يبلغ معها حدود التجريد).. مع ملاحظة تنامي البعد البلاغي في تعبيره الشعري.
 إلا أنه في هذه التحولات، التي تمت في مدى سنوات تقرب من نصف قرن، لم يتجرّد، شعرياً، من ذاتيته. فبقدر ما كان يهمّه أن يعبّر عن «وجوده المستقل» في ما اتخذ من مسار شعري، كانت له رؤيته لهذا الاستقلال. فإن كانت بداياته غنائية رومانسية، فإنه سيظل متعلّقاً بظله الرومانسي هذا وهو «يتأمل» الأشياء، والحيوات، والمواقف.. ونجد هذه الرومانسية تلاحقه وهو يكتب ما يمكن أن نسميه بـ«النمط الاستطرادي»، حتى وإن كانت «الأفكار» فيه هي «النموذج». فقد جعل لـ«الفكرة» ايقاعها، كما حافظ على وقعها الذاتي.
 من زاوية أخرى للنظر: إذا كان عمله الشعري الأول (نخلة الله) قد سادته نبرة انتماء الى القصيدة السيابية (نمط التعبير، وعناصر البناء الشعري، على وجه التحديد) في الجمع بين «الحالة الذاتية» و«الموروث البيئي» ـ شأنه، في هذا، شأن شعراء جيله الستيني ـ فإنه سيعمل على «تخطي» ذلك التأثير الذي داخَلَ نسيجه الشعري، من خلال ديوانه الثاني «الطائر الخشبي» (1972)، ومن بعده «زيارة السيدة السومرية» (1974)، باعتماد «القصيدة المدوّرة»، مع محاولة لتطوير رؤيته العالم، توافقاً مع تطوير «أدواته التعبيرية» فيها. وقد حرص في قصائد هذين الديوانين على انضاج تجربته، وتطوير احساسه بالأشياء.. فلم يعد ما يتبدى من عمق لقصيدته، في منحاها هذا، هو التشاكل الرؤوي للغة مع المكان، (كما كان في «نخلة الله»..) بل أصبح انشغاله الشعري يتجه صوب أفكار ورؤى مختلفة، ومتغايرة.. ولم تعد «الحقائق المكانية» وحدها ما يشغله، بل أصبحت هناك معطيات تلك الحقائق متبدية في صورة كشوفات تتعدد صور المرئي فيها وتتداخل بين ما هو «واقعي» بما يحمل من تعيّنات، و«رؤوي» بكل ما له من ضروب الرؤيا.. وستكون قصيدته هذه أقرب الى «التركيب» منها الى «التشكيل» و«التأليف» ـ اللذين هما من سمات شعره الأول.
شاعر له حداثته
غير أن الشاعر الذي سيشاطر نفسه، أكثر من مشاطرة الآخرين، في ارساء معالم «تجربة حداثية» لها غرارها الخاص، بعيداً عن التماثل. وسينعطف مع ثمانينات القرن العشرين الى نمط آخر من الكتابة الشعرية، إن كان عمله الشعري الأول فيها ديوانه «أعمدة سمرقند»، الذي قدّم فيه نمطاً شعرياً يجمع بين «ابتكار الصورة»، أو محاولة ذلك، واعتماد اللغة التي تميل الى «التخصيص» و«التعيين»، فإن تواصله مع هذا النمط (الذي ستتواصل تطويراته له) كان له أن دخل بما يكتب في نمطية مهما حاول التنويع عليها اجتذبته الى النمطية والتكرار، لتفتقد قصيدته ما يسمى بـ«عنصر المفاجأة». وقد أغرق، في ما كتب في سياقات هذا النمط ، بتفاصيل تداخلت زوايا النظر من خلالها الى الأشياء. فلم يقدم «النمط المتعارض» مع نمط قصيدة جيله الستيني ـ أو لنقل: القصيدة الحديثة كما «تطورت» (وإن كانت تطورات مخفقة في معظمها!)، وإنما تعارض، هو نفسه، مع قصيدته في طوريها السابقين.. فضلاً عن أنه، في نمطه الجديد هذا، لم يطوّر مشروعه الشعري ـ الذي كان ينتظر التطوير من أكثر من ناحية.. وحلت، في نمطه هذا، صيغة التناظر بين الذات والعالم، كما أن لغته الشعرية تحولت فيه، في حالات عديدة، الى لغة استنطاق ذهني، وأضحت «بلاغة القول» هي ما يسود «لغة التعبير» عنده. الى جانب هذا، نجد في «نصوصه» هذه ما يمكن تعيينه اصطلاحاً بـ«العوالم المتراسلة»، وإن في حدود علاقة الذات بالفكرة.. حتى ليمكن القول بأن هذا النمط أعاق تطوره الشعري، واستهلك لغته.. وأن ما أصبح قائماً في ما يكتب هو «المضامين»، وإن كان بعضها، كما يبدو، ذا طبيعة حلمية. فهو لم يضع فيه/ ومن خلاله أسساً جديدة، أو مغايرة، للقول الشعري (كما فعل في «الطائر الخشبي» و«زيارة السيدة السومرية»..) بما يمكن أن يُعيّن العلاقة / أو يَعقد الصلة بين «الوعي الشعري» في اطاره التجديدي الذي وجد نفسه يحقق فيه إضافة قائمة ـ على حد اعتقاده ـ و«وعي الشاعر بالعالم».. ب بل ظل هذا «الوعي»، بطرفيه، في حدود «تمثيلاته» أكثر منه في نطاق «مرئياته». كما أن اللغة، لغته الشعرية، أصبحت «أداة نقل» للأفكار، وغالباً ما نجدها تأخذ نفسها، أو يأخذها الشاعر، بدواعٍ ومتطلبات بلاغية، ليس غير، بما يقترب به من «أسلوب النظم»، وإن حاول تلوين القول بمرئيات شعوره الاغترابي الذي كتب عنه في طوره الأول، يوم كان يعيش في موسكو، يقول:
 ـ «أغوصُ في توحّدي
أبحث في تشردي
عن نخلة ومسجد قديمْ
يأوي إليه مثلما العصفور
وجهيَ الضائعَ اليتيمْ..»
ليكتب الآن:
ـ «قوّستُ، كالفقهاء، أكتافي وقارا
وأطلتُ لحيتيَ احمرارا
وسكرتُ، والصبيانُ تضحكُ: ياخَزَعْبَلَ..»
ـ «كالطاس في طَرَقاتها والغرقى المدينه
ويدي تدقّ وتنقرُ
وأنا الصدى المتقهقرُ..»
إن السؤال الذي يثار هنا هو: هل أن هذا النمط ، بشقيه (الثلاثيات، والقصائد الأقرب الى التدوين) هو كل ما أضحى أمام الشاعر من ممكنات شعرية؟
 قد يكون الشاعر في هذا المنحى الذي اتخذ وقع «موقع الضحية» لاختياره الذي ربما أغرته منه مسألة «التوالد اللغوي» الذي يحققه / ويُغري به مثل هذا النمط من القول القائم على الادراك، كم هو نتاج الادراك كمادة عقلية، وإن حاول تحويل المادة المدركة الى علاقة ذاتية مع اللغة، أو ما هو قريب منها ـ وهنا ما قد يتحقق عنده، في البعض مما كتب، من «شعرية القول»، وإن أدخلته هذه «الشعرية» في تراكيب الصيغ اللغوية (ولكن ليس دخول «أدونيس» الذي يبلغ باللفظ نطاق الغموض التام). إنه يدخل بصياغاته اللغوية حالة الوضوح كمن يسعى لابلاغ فكرة.. لا يرمي الى «بناء عالم» بقدر ما يهدف الى «إبلاغ فكرة». ونجد هذه الفكرة تتجسد من خلال تعدد الأصوات التي يعتمدها الشاعر بقصد المكاثرة ـ والتي هي وسيلة تكرار إبلاغ وتشديد تأكيد.
 والسؤال هنا هو: ماذا أراد الشاعر من خلال هذا كله؟ هل أراد تأكيد غنى الذات ـ ذاته؟ أم إشاعة تعدد رؤاه؟ أم الذهاب مذهب القول بأن للحياة مضامينها المتعددة، وما علينا إلا الاكتشاف؟
 وإذا كان هذا كله قد شغله في مستوى «المضامين»، فما الذي يشغله في مستوى «الفن الشعري» وقد أخذ «نصوصه» بهذا «الشكل المتكرر» وسيلة للتعبير؟ هل عاد بنصّه هذا الى «الصنعة الشعرية» التي أتاحت له تركيب النص وفاقاً لـ«أنساق فكرية»؟ ثم، لماذا تتقدم «لغة التعبير» عنده لتناظر «مكنونات القول» فيكون لها الحضور الأكبر؟ هل أراد، من خلال نصّه هذا، التأكيد أن الأمر أمر «بداهة في القول»، وإن اللغة إنما تتقدم بمحمولاتها، وهي محمولات تتخذ / أو تأتي في صيغتين: تصريحية، ومجازية.. وهي في الحالتين: لغة تُصرّح بمعانٍ قريبة، أو تكتفي بالاشارة ـ وهو ما يشكل «حالة ألفة» مع اللغة في مبناها / أبعاد تكوينها من قبل الشاعر؟
 عوالم متغيرة وأخرى متبدلة
يمكن أن نلاحظ في هذا السياق أن العوالم الشعرية لقصيدته قد تغيرت، وإن لم تكن كلياً، أو جذرياً: فمن عوالم مكانية محمولة على الزمن (في «نخلة الله»..) الى عوالم متصوَّرة، أو على ارتباط بالذاكرة مع اضفاء العنصر التخييلي قويّ الحضور (كما في «الطائر الخشبي» و«زيارة السيدة السومرية»..) الى رؤى مرتهنة الحضور بعوالم متعددة (عالم اللغة، والعالم المتخيل من خلال شيء، أو فكرة، أو حركة)، فضلاً عما لها، في جانب البناء الفني، من تتابع خطي ألغى، أو أضعف الى حد كبير، العنصر الدرامي فيها. إلا أنه، مع هذا، بقي يضع شعره بين حدّين: حدّ الذات ـ الواقع.. وحدّ الانفلات من كل وجود متعيّن ـ وإن بالعودة به الى الوجود في أفقه الأسطوري المتخيَّل، إن لم يكن انحداراً منه.
 ولكن، ونحن نكتب هذا انطلاقاً من أعماله الأخيرة، هل يمكن أن نعدّ هذا «الشكل الأخير»، بكل ما له من طبيعة فنية، هو المنتهى لتجربته الشعرية؟ وإذا كان الأمر كذلك فماذا قدّمت / وتقدّم هذه التجربة في المستويين: الشعري (في ما يتعلّق بتجربة الشاعر بوجه شخصي)، والشعري في مستوى التجربة الحاضرة للقصيدة الجديدة، والشعر الجديد؟
 يمكن القول إن قصيدته هذه تصوغ أداءها التعبيري الخاص بها، والمميِّز لها في مستويين:
 ـ القصيدة في «استرسالها التدويني»ـ هكذا أسميه تمييزاً لها، وليس انتقاصاً من فنيتها ـ كما في قصيدة «الساحر» من ديوانه «توطؤاً مع الزرقة»، وفيها يتخذ منحىً تسجيلياً ـ تصويرياً:
 ـ«هي درّاجةٌ / لم تزل عند منعطف الدرب مرميّة / متصدعة، خرِبة / في الغدوّ من البيت
 أو في الرواح إليه / تلوح كما هي / للشمس أو للمطر / في انطراحتها التَرِبة / تتحاشى
 الخطى القرب منها / وتُهمل عاطلة، / متآكلة / فلقد تتوارى في الصباح (الحفر)... «
ويتواصل «السرد» على هذا النحو، الى أن يصل الى القول:
ـ «مرّةً مرَّ، في ما بدا لي، / الصبيّ المعابث، فاستوقفني، / فخضخضها / واستوى فوقها /
 طائراً بالاطارين، بالمقودين / باليدين / بالبقية من جَرَسٍ صادحٍ / في أزقتها السالفة!»
 أو كما في قصيدة «الغجرية» من الديوان ذاته:
ـ«أُساهر المطر / أيقظ يدي الحجرا / (لعلّ في الحرف أعواناً على السهر) / لفّت عباءتها الخرقاء، وابتدرت / (سِقْط اللوى) تستحثّ الريح والشجرا / ولم تنسَ خُفّاً وفنجاناً ومبذلةً / وحفنة من قروش تحت أيدينا / فقلت ما قال، يوماً، بعض أخوتنا: / أضحى التجافي اعتياضاً من تصافينا.. وقلت: (الأخير.. فالدنيا تمدّ يداً / في الحالتين.. أفراخاً أو سراطينا..) / يا ساهراً حرِدا / أيقظ فمي الغَرِدا / لعلّ في الحرف تحناناً الى الطلل.»
 ـ أو كما في «ثلاثياته» التي انبنى منها ديوانه الآخر: «أنا أقرأ البرق احتطابا»، حيث تنبني «القصيدة» هنا على «ثلاثيات» (نظير الرباعيات)، تبدو كل ثلاثية منها مكتفية بذاتها تعبيراً عن الفكرة المقوِّمة لها:
 ـ«ما للفتاة وما ليا / تُبدي الستائر من عجائبها وتُخفي / وأنا أقصّ حباليا؟»
ـ «لم أدرِ من أيّ الثقوب / يتسلل الحكماء كالحمقى إليا / بيض اللحى، حُمْرَ القلانس
 والجيوب..»
ـ«أنا كالبقية من انائي /تلقى، هناك، وتغبشُ.. / الريح كالقطط الهزيلة تنبشُ.»
ـ«قُلْ أي شيء يا ربيع / الطرق موحلة الى قلبي، وفي الطرق الصبايا / يُسرِعْنَ بالخبز
 الدفيء، وبالصقيع..»
ـ«أشعلتُ أقلامي سجائرَ بعدما / لم يبقَ من عُقْبٍ لديّا /فإليَّ، يا صحفي، إليّا..»
 الغربة واغتراب الذات
هنا لا بدّ من الاشارة الى عامل مهم صاحَبَ شعره في طوره هذا، وإن كان مصاحباً له منذ البداية، إلا أننا نجده هنا يتعمّق أكثر. فقد كتب ما كتب تحت ضغط الشعور بالغربة، وإن كان حصاد الغربة، على امتداد مسيرته الشعرية، وفيراً. إلا أنه يبدو في شعره الأخير هذا كمن ينظر الى هذه الغربة بعين الداخل أكثر من النظر إليها بعين الخارج، فإذا هو في ما يقول أقرب الى التعبير عن «اغتراب الذات» ـ التي غاب عنصر الصراع من أفق التعبير عنها. ويمكن حصر توجهاته، في طور قصيدته هذه، في خطوط أساسية انتهج السير عليها في مساره الشعري:
 فهناك اطلالات العزلة، وتداعيات الذاكرة، واقعة وصورة، والرؤى الأقرب الى التوهم. فهو لاينطلق من العزلة إلا ليذهب إليها.
 وهناك المشاهد والحالات التي تبدو كما لو أنها اجتزاء من سياق، وليست سياقاً متكامل التفاصيل.. يعتمد فيها تداعي المفردات اللغوية وتكاثف الصور.
 الى جانب هذا لايبدو، في ما يكتب، منشغلاً بشيء اسمه «هاجس البحث»، قدر استجابته لهاجس «التدوين التصويري».. لتحل الذاكرة، وتداعياتها ـ حتى اللغوية منها ـ والانطباع الذاتي محل الرؤيا. كما أن للمفردة اللغوية عنده «ذاكرتها»، بما يعني انحداراتها من «مواردها الأولى»، سواء «البيئية» منها، المتصلة بحياته البدئية، أو ما كان له، ثقافياً، من «مدارات التكوين».
 ولعل ما أسميناه بـ«الفيض البلاغي» في شعره الأخير، وقد جمع فيه بين التصوير والتعبير، ما يقترب به من بنية الخيال الكلاسيكي، وذلك بالتزامه حدود التعبير الواضح، والمحدد بتجسيد الفكرة، وبالتماسك اللفظي.. وحين يخوض في التفاصيل، كما رأينا في النموذجين المتقدمين (الساحر، والغجرية) فإنه، كما يبدو، يعمد الى ذلك لبلورة «المضمون» وتحقيق البعد الفني للقصيدة.. بخلافه في «الثلاثيات» التي تأتي مكتفية بذاتها تعبيراً عن الفكرة المعتمدة.. فضلاً عما يبدو فيها من تحكّم بحساسيته الشعرية تجاه الأشياء واللغة، فهو يأخذ الجوهر، ويُعنى بالجوهر، لا بالتفاصيل التي نجده يُعنى بها في القصائد. فتقنية التعبير الشعري تقوم هنا على بنيتين، هما: بنية المعنى، وبنية التعبير عن هذا المعنى.. وبينهما ما يُدعى نقدياً بـ«وضوح الابلاغ». ويبدو أن هذه الصيغة التي اتبعها في بناء «ثلاثيات»ـه أغرته كثافة تعبيرها، وزخم الفكرة فيها، الى جانب «روح القصّ» التي تحقيق التداخل فيها تعبيراً، وقد يكون وجد نفسه يحقق «شعرية القول» بها / ومن خلالها.. فأضحت «الخط العام» لمعظم ما كتب في السنوات الأخيرة.
 إلا أن طبيعة «ترتيب القول» تجعل من قصائده قصائد سردية المبنى، معقودة التواصل بين «الصورة اللفظية» وتمثيلاتها، بما يتيح لما هو خيالي، أو تخييلي الصورة والتصور، أن ينفذ الى المبنى الشعري للقصيدة ـ التي تقوم في نموذجه هذا على ثلاثة عناصر، هي: اختيار الموضوع (وقد يكون فكرة، أو هاجساً ذاتياً، أو مشهداً صُوَريّ الرؤية والأبعاد)، واللغة التي تصطفي مفرداتها، وطريقة العرض التي يقدمها بها (أو أسلوب البناء الشعري).
 إن حسب الشيخ جعفر شاعر غنائي في أطواره الشعرية كافة. فإن كانت غنائيته وجدانية، رومانسية التكوين في قصائد طوره الأول، فإنها في طوره الشعري الثاني أصبحت غنائية تستمد عناصرها من «أطياف» قد تبدو، للوهلة الأولى، بعيدة. أما في طوره الثالث، الذي نحن بصدده الآن، فهي غنائية قائمة على الادراك في بُعديه الإحساسي والذهني.. فهذا الادراك أصبح الموجِّه الفاعل لحساسيته الشعرية. وقد أغرته الحكاية، بنية وطبيعة تكوين، في الحالتين، فتغلبت الروح السردية على عمله الشعري.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  ماجد السامرائي


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni