... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
مآزق الشعرية العراقية: نُطْقُ (شريط صامت)... وبُكْمُ (طغراء النور والماء)

حسن ناظم

تاريخ النشر       15/01/2012 06:00 AM


أخيراً، يظهرُ من ركامِ اللغةِ اللامعة حُطامُها الواقعيُّ، أخيراً أيضاً تُستبدَلُ "الطغراءُ" ببقايا سيارة مفخّخة، و"النور" بجثّة متفحّمة، و"الماء" بدم مُهراق. لم تعد اللغةُ محبَّرة، إذ لم يعد التحبيرُ يؤسس شعريةَ الشعر، ولم تعد شعريةُ الشعر تَرْكَنُ إلى الشعر حسبُ، بل احتاجت السردَ لتدمج الحقل الأوسع للشعرية بالحقل الأضيق عبر دمج السرد في قصائد، ليمضي النصُّ، نصُّ حَكْيِ الآلام، بلا عقيدة لغوية، ولا رؤية استعارية، ولا حرص على التحكيك، إذ لم يعد غير اعتناق موارد اللغة بعضها بعضاً، وصبّها في مجرى واحد، سبيلاً للتغيير. أخيراً يظهر "شريط صامت" للشاعر عبد الزهرة زكي، وهو ينطوي على شعر ناطق، يقدّم شعرية تعالج التفاصيل وتؤسس تحدّياً حقيقياً لشعرية "طغراء النور والماء"؛ للشاعر نفسه. الشريط الصامت يصبح أبلغ أثراً وأشدّ تأثيراً، وبالطبع أكثر تقبّلاً واستقبالاً. إن فيه دعوةً للجميع لكي يتأملوا ويتمتعوا بجمالية مختلفة، جمالية لم تعد، يجب أن أكثر من التعبير "لم تعد"، تَقْصُرُ الجمالَ على النور حسب، بل على الظلمة، ولا على الزمرّد المهندَس حسب، بل على أنقاض الحديد، ولا على تنهيدة قَيْنةٍ تغنّي حسب، بل على آهات ضحيّة معتَصَرةٍ وجفولِها المذعور.

في هذا الكتاب، "شريط صامت"، يعود الشاعر عبد الزهرة زكي إلى عالم كان قد استهلّه جزئياً في العام 2001، حين أصدر كتابه الشعريّ "كتاب اليوم .. كتاب الساحر". يُفتتَح هذا الكتاب الأخير بالقصيدة المعروفة "هذا خبز"، وسأبيّن بعد قليل كيف غمطتْ هذه القصيدةُ الملتبسة سموَّ القصائد الأخرى في "كتاب الساحر". أعتقد أن قصيدة "هذا خبز" بحاجة إلى إعادة نظر في قيمتها الشعرية نظراً للسمعة التي حازت عليها إبّان التسعينيات، فهي قصيدة منبتّة الصلة عن باقي قصائد الكتاب أسلوباً، ورؤيتي لها أنها أُقحمت في الكتاب عنوةً، لأنها تعود كما أحسب إلى أسلوبية الشاعر في "كتاب الفردوس"، وإلى حدّ ما كتابه الأول "اليد تكتشف" (بغداد، 1993)، التي تنزع إلى لغة متعالية، ولم تكن ثمة خطة شعرية من وراء هذا الإقحام، سوى احتمال خطّة موضوعية لضمّ ما كُتب عن سنوات الحصار من شعر، فجميع القصائد مكتوبة بين عامي 1995-2000، وقد أثّر إدراجها في "كتاب الساحر" على قصائد ذات قيمة شعرية عالية من مثل "زاد المسافر" (ص30-31) و"تنويمة الأمّ الأخيرة" (ص44-46)، إذ أخملتْ قصيدةُ "هذا خبز" سائرَ النصوص الأخرى. إن قصيدة "هذا خبز" التي هي تجربة لكتابة قصيدة ترعى بقايا نزعات بناء عوالم شعرية غرائبية تحفل بالتصميم الهندسي للبهرجة اللغوية، والغموض الجليل، تمتّ بصلة لما بعدها، وتمدّ جذراً لتجربة الشاعر في كتاب "طغراء النور والماء" وسلفه "كتاب الفردوس"، المكتوب بين عامي 1993-1999.

في الواقع، ثمة وجه شبه بين مفتتح "كتاب الساحر"، إذا استثنينا قصيدة "هذا خبز" للسبب المذكور توّاً، ومفتتح كتاب "شريط صامت"؛ وأودّ أن أكثّف قراءتي عن هذين الكتابيْن لأسباب باتت واضحة للقارئ، فكلا الكتابين يُفتتَح بقصائد عن الموت، والعنوان الفرعي لقصائد الموت تلك يمنحنا مقدمة لما سيأتي: "الملائكة على شرفات مستشفى الأطفال"، فما أن نغادر قصيدة "هذا خبز" حتى نلج عالم القصائد التي لا تضع مجالاً للشكّ في صنوف الموت الذي كان على العراقيين أن يواجهوه في تسعينيات الحصار والظلم؛ إليكم عناوين القصائد التي كتبها عبد الزهرة زكي عن موت العراقيين في التسعينيات:

"يد الله" و"انتظار" و "زاد المسافر"، و"الطفل المخلِّص"، و"ملاك الموت"، و"هدايا"، و"ما زلت حيّاً"، و"عدسة سوداء"، و"رسالة إلى السماء"، و"تنويمة الأم الأخيرة"، و"دعاء الثكالى"، (كتاب الساحر،25-47).

إحدى عشرة قصيدة عن الموت في "كتاب الساحر" تضارع سبعة عشرة قصيدة عن الموت في القسم الأول من كتاب "شريط صامت: نصوص عن السيارات والرصاص والدم"، وستّ قصائد عن الموت في القسم الثاني الذي تتكرّر فيه قصيدة عنوانها "انتظار" سهواً كما يبدو (ينظر ص9 و ص36)؛ ثمّ تليها قصائد عن الخطف والقبور والنسيان. جميع هذه القصائد لها نسب بقصائد "كتاب الساحر"، في بنائها ولغتها، وأهمّ من ذلك عندي أن بينها صلةً في توقيت زمن كتابتها. بمعنى آخر، إن الشاعر يطفح كيلُه، ولا يعود يسعفُه البناء الزخرفي، فيُضطرّ إلى قول شيء مختلف، شيء ألصق بما يراه، لا بما يتراءى له، فبعد أن مضى قرابة عقد على حصار التسعينيات المميت والمذلّ، صدر "كتاب الساحر" (العام 2001)، وبعد أن مضى قرابة عقد آخر على سقوط الدكتاتورية وما جرّت من مقاتل، صدر كتاب "شريط صامت" (أواخر العام 2011)، كأن الشاعرَ يعالجُ شعريتَه ليطوّع استعصاءَها ردحاً من الزمن، كما في كتاب "طغراء النور والماء"، لكنه يبقى بحاجة إلى أن يجرّب شيئاً آخرَ جديداً، مثل كتاب "شريط صامت"، لا يطوّع فيه شعريةً ما بقدر ما يقتربُ من روحه وتمثّلاتها المشهدية في الواقع الفعلي، وفي هذا صراع داخل الشاعر نفسه بين شعريتيْن، واحدة يُعمل فيها عقلَه الرياضي هندسةً وبناءً، والأخرى يدعُها على سجيّتها، تخطّط مشهداً أولياً، وتتأمّله لتقدّمه هو نفسه مشهداً نهائياً.

"شريط صامت: نصوص عن السيارات والرصاص والدم" عنوانٌ ناطقٌ أشدّ النُّطْق مضاهاةً ببُكْمِ الطغراء وزخرفها الصامت؛ إنه "شريط صامت" يحكي بتواصل دؤوب حكاية الموت في العراق بعد سقوط الدكتاتورية. شريط يمرّ أمام البصر الحديد والعين الحسيرة سواء بسواء ليراه الجميع في حركة لا تنقطع، يذكّر بما مرّ من أهوال عبر نصوص كُتبت عن "السيارات والرصاص والدم" كما في العنوان الفرعي للكتاب، ولكي يلتصق الكتاب بحقبته، فهو عن السيارات المفخّخة والرصاص المدوّي والمكتوم والدم المسفوح في الشوارع، والمقاهي، وحافلات نقل الركّاب، والمطاعم، والجسور، والمساجد، والأضرحة.

يتألف القسم الأول من كتاب "شريط صامت"، كما أسلفتُ، من سبع عشرة قصيدة. رُتّبت بطريقة لتغطّي أنواعَ الميتات التي يتعرض لها العراقيون في حقبة البناء والتدمير هذه، فالقصائد كُتبت بين عامي 2008-2011 كما ينوّه الشاعر؛ أي في فترة تصلح لتأمّل ما قبلها، فهي سنوات تحسّن أمني نسبي بعد حرب الجميع ضدّ الجميع في أعوام الصراع الطائفي والحرب الأهلية والإرهاب. جميع القصائد عن الموت إلاّ قصيدةً واحدة التفتَ فيها الشاعرُ إلى إيغاله في موضوعة الموت فمنحنا فرصةً الحياة مرة واحدة، لكنها مرة واحدة تختم كلّ مشاهد الموت لتنقل لنا رسالة شديدة التأثير هي أن الحياة هي ما يبقى رغم فنون الموت المنتشرة بين ظهرانينا، القصيدة الخاتمة لهذا القسم أبلغ اثراً من قصائد الموت، كأنها قصيدة مواساة، ولكنها ليست كذلك في الواقع، كأنها تقول "البقاء في حياتكم"، ولكن لا على سبيل المواساة، بل على سبيل من يريد القول إن الموت لا يختتم الحياة، بل على العكس، الحياة هي خير خاتمة لكلّ هذا الموت؛ إنه نوع من الإصرار على قيمة الحياة وتأكيد أبديتِها، فهي مستمرة وكائنة بتمامها. وقصائد الكتاب تُمعنُ في تصوير التشظّي لكنها تؤكد لمَّ هذا التشظّي، إنها لا تريد فقط أن تنقل رسالةً للآتين عن موتنا وجنوننا، بل عن الحياة وسط الموت، وعن الأجساد كاملةِ الخِلْقة وسط تشظّيها وتحوّلها إلى أشلاء. إن قراءتي لقصائد الموت في القسم الأول لا تتوخى الموت، بل الحياة، ولذا لم أجدْ فيها نزعةَ احتفالٍ بالموت كما قد يبدو من الوهلة الأولى، بل كانت قراءتي تبحث عن الحياة في قصائد الموت، ولذا كنتُ أشمُّ الرائحة العطرة التي خلّفها شابّ عاشق خرج من البيت بقميص مفتوح، ولم أشمَّ رائحةَ البارود الذي قتله وهو يغنّي بقلب طائر. هذه هي رسالة القصيدة الأولى في الكتاب، قصيدة "رائحة الحب" (ص7)، وهي قصيدة تحكي حكاية عن الموت تُختتم بالحياة بحسب قراءتي؛ لأن ما يبقى ذيل من رائحة تؤكده القصيدة في آخر مقطع:

"رائحة الحب"

يا أم .. انتظريني،

ومضى

ترك الباب مفتوحاً ..

وترك خلف الباب

رائحة الحب.

كان سعيداً،

قميصه مفتوح

وشفتاه صامتتان ـ تغنيان .

وقلبه في عينيه يطير".

سمعت أمُّه الرصاص.

......

......

ومنذ أربعين،

لم يزل الباب مفتوحاً..

ولم تزل الرائحة

خلف الباب تنتظر.

ذيلُ الرائحة هو الباقي أمام القارئ، وهذه القصيدة واحدة من أروع قصائد الكتاب لأنها توارب الموت بسهو اللغة عنه، سهو متعمّد، إذا جاز التعبير، ليس ثمة سوى سطر واحد يُخطر القارئ بالموت، موت يُسمع من بعيد، وكلمة واحدة تدلّل عليه "الرصاص"؛ لا شيءَ غير ذلك عن الموت، سائرُ النصّ يحكي الحياة في طلعة شابّ عاشق يطيرُ قلبه في عينيه، ويغنّي بصمت سعيد. لا توارب جميعُ قصائد هذا القسم الموتَ باللغة، بعضُها يمعنُ في التفاصيل المؤذية، والكلمات التي يقشعرّ لها الجسدُ. القصيدة الثانية، "أسرع من الصوت" (ص8)، تحكي قصة رجل نخله الرصاص، لكنها تتحدثُ أيضاً عن القاتل حين يصعدُ سيارتَه لترغو مدوّرة العجلات والغبار. الموت بـ"الرصاص" يستمرُّ في القصيدة الثالثة، "انتظار" (ص9)، حين تُرمى جثّة منخولة بالرصاص هي الأخرى. في قصيدة "لا أحدَ يردّ" ص10، تبلغ التفاصيلُ ذروتَها، حطام، ودم، ودخان، وسيارة إسعاف، وجسد قتيل (ص10). وهكذا تُبنى القصائد على هذا التصاعد في إبراز التفاصيل على نحو ينمّي بُعْدَ السرد في القصائد فتصبح قصائد سرد مكثّفة، لوقائع سريعة، تحدثنا عن مصائر بشر لاقوا حتفهم فجأة وهم يهمّون بالعيش والاحتفاء بالحياة. يتنوّع السرد بتنوّع ميتات البشر، والوصف يطول البيئةَ العنيفة التي يأتي فيها الموتُ مرة كرصاصة في قصائد عدة، ومرة كعبوة ناسفة كما في قصيدة "بانفجار عبوة ناسفة" (ص17)، ومرة بحزام ناسف كما في قصيدة "قصة الجندي شجاع" (ص11)، حتى يأتي متسع للحياة أخيراً كخاتمة للموت:

"فرصة للحياة"

لن يلحقَ بالسيارة التي أمامه.

السيارةُ التي في الخلف لن تلحقَ به.

والثالثةُ التي اجتازتْه لم تنفجر.

ثمة متّسع للحياة..

باتخاذ قصيدة السرد ذات التركيز الشديد نموذجاً في كتاب "شريط صامت"، أُتيحت فرصة مواتية للحكي ولقول ما حدث بطريقة قد لا تتيحها قصيدة استعارية تقليدية. وعى الشاعر عبد الزهرة زكي درسَ الموت جيداً حين رآه شاخصاً، فأجّل تأمّله فيه، ونزل إليه يصافحه ويقدّمه بوجل مشفوع بالأمل. "لم يعد" عبد الزهرة زكي يفكّر بالموت تفكيراً يذكّره بالنجوم آملاً بحياة أخرى مثلها حين تلعب لعبة الاختفاء والظهور من جديد، لننظر معهاً إلى نظرته إلى الموت في واحدة من القصائد التي تبدو لي شاذّة في سياق الرؤى المبثوثة في "كتاب الساحر"، أعني قصيدة "دائماً ثمة أمل"، (ص28-29):

حين أفكّرُ بالموت

أتذكّرُ النجومَ الصغيرة،

النجومَ التي تختفي وتغيب.

هي، أيضاً، تموت

ولكن

هي تعودُ فتظهر.


دائماً

ثمة أملٌ

أملٌ لي ... في الحياة.

هذا أمل في الحياة لشاعر يتأمّل النجوم في لمعانها الساحر، أمل لشاعر يؤكدّه بالقول: "أمل لي"، أمل لساحر يرقب النجوم ترصّع قبّة سماوية، فيطامن من حَيْرته أمام الفناء والعدم الفلسفيين، وهو غير الأمل الذي يسكن راكب السيارة في بغداد حين يرى سيّارة خلفه لا تنفجر، وأخرى تجتازه ولا تنفجر، وأخرى أمامه لا تنفجر، فيطامن من فزعه بمتسع للحياة، وليس أملاً فيها، لأن نصّ "فرصة للحياة" في كتاب "شريط صامت" مبني على مسافات تفصل الخائف عن مواطن الخطر، وليس على ذكرى وتأمّل، كما في نصّ "كتاب الساحر"، تستنبت أملاً هو والوهم سواء؛ لأن الأمل بالحياة تأمّل فلسفيّ محض مبنيّ على تلاشي النجوم وانبعاثها، أما فرصة الخائف في نيل الحياة في بغداد فهي واقع محض مبنيّ على قربه وبعده إلى/عن انفجار السيارات المفخخة والأحزمة الناسفة والقتل العشوائي. وبالمقارنة مع فضاءات كتاب "طغراء النور والماء"، ثمة تأجيل، في الواقع، لمتعة النظر في "الطغراء" والانتشاء بها، وكَفٌّ عن تأمّل اختلاط الضوء بالتراب، واختلاط التراب بالنسرين، والنسرين بالضوء (ينظر: طغراء النور والماء، ص54) إذ صار الشاعر يرى في التراب مجالاً لاختفاء القاتل وظهوره (ينظر: قصيدة "الأغنية والتراب:، ص13، من كتاب "شريط صامت"). نعم، لقد رآه الشاعر مختلطاً بالدم:

كان الدم يسيح من بنادقهم،

تلتئم القطراتُ..

ويحفر الدم مجراه

على التراب،

بين العشب اليابس والحديد الصدئ؟ (شريط صامت، 22)

تأتي هنا، في كتاب "شريط صامت"، استجابة الشاعر إلى ضغطِ ما يحدثُ حولَه، ودويِّ ما يسمعُه كلَّ يوم، وفضاعةِ ما يتفرّسُ فيه كلَّ لحظة، فيكتب تحت الضغط والدويّ والفضاعة، وبدلاً من العيش وغمس اللغة في "نهار عباسيّ" والإنصات إلى "رواية الهدهد"، النصّيْن اللذين يؤلّفان كتاب "طغراء النور والماء"، يعيشُ الآن ويغمس اللغة في نهار بغداديّ أسود من الانفجارات والموت، ويُنصت إلى روايات الخاطفين والمخطوفين، ويخفّف الوطء على أديم الأرض متحسّساً القبور.

*ناقد ومترجم عراقي مقيم في الولايات المتحدة


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  حسن ناظم


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni