... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
(عراقـي): عراقـ.. (ـنا)

د. خالد السلطاني

تاريخ النشر       24/01/2012 06:00 AM


يستحضر كثر من العراقيين، ولاسيما الذين يقيمون في خارج الوطن، "اميج" بلدهم من خلال عناوين متعددة، وبوسائل متنوعة تبعاً لاهتماماتهم الشخصية والمهنية. لكن ما يوحد بواعث ذلك الاستحضار، توقهم نحو التمسك بذلك "الاميج" وجعله حاضرا دوماً في الخطاب. ثمة خوف (هل اقول "رعب"؟!) ممزوج بالحسرة، يراود كثر منهم، بأن بلدهم "المحبوب"، بدا وكأنه يختفي عن المشهد، والاهم، يتوارى عن ذاكرتهم، الذاكرة، التى حفظت صورته كوطن متماسك، مترع بالآمال العريضة المبشرة بالتقدم والازدهار. من هنا، يمكن تأويل نزعة ذلك "اللجوء" من الاستدعاءات التى سعى كثر من ممثلي الطبقة الوسطى عبرها، الى "ايقاف" ذلك الاختفاء، وإبعاد مثل هذا التواري.
في هذا السياق، كتبت، مرة، فاطمة المحسن، في كتابها <تمثلات النهضة في ثقافة العراق الحديث> الصادر سنة 2010، (... فلطالما كان البحث في أرشيفات الثقافة العراقية مغرياً لمغتربة مثلي. ويوم وجدتني أكاد أكون منهمكة في مقارنات بين العراق وكل مكان أحل فيه، غدا
الآدب والثقافة والتاريخ جزءاً من هذا الإحلال والإبدال. مهمة تشابه الوقوف أمام مرآة الزمن والبحث عن تلك التضاعيف التى تخفي الباب المفضي إلي طريق العودة. ) (ص. 7). اما صديقي الشاعر علي عبدلامير فيستذكر وطنه عبر "اشيائه" التى يستدل بها عن صورته، فيكتب في قصيدته <كان هناك ورد في الجوار> من مجموعته الشعرية، <بلاد تتوارى> الصادرة في 2005:
"........
كانت هناك لذةٌ،/ وإن كانت القفزَ بين الفخاخ. / كانت هناك مدينة. / كان هناك وردٌ يزهر على أيدينا. / الآن، لا وردَ في الجوار، / لايدَ امرأةٍ ترقً، ولا غدَ يبتسمُ"!.
عندما قابلت احد "طلابي" السابقين، في عمان بالاردن، في نهاية التسعينات، هو الذي تغـّرب قسراً عن العراق ما يقارب عقدين، انبأني بان جُلّ وقته الحرّ يقضيه في استذكار بلده، من خلال رسم "فضاءات" غرف "بيتهم" في حيّ <الوزيرية> ببغداد، حيث ولد هناك وترعرع. ويجد في "السلوى" المحببة لديه في اعادة رسم "مساقط" الدار، متعة، تغنيه عن "جزع" النسيان، الذي قد يداهمه يوما ما، فيفقد صورة مخططات "مسكنه"، وينسى بلده!.

شئ من هذا القبيل (إضافة الى أشياء آخرى)، يمكن ان يكون باعث صدور كتاب "عراقـي" (2010)، الذي ألفه الصديق والزميل د. إحسان فتحي- المعمار العراقي المعروف، والإكاديمي، والخبير في شؤون الحفاظ المعماري، و.. المصور الفوتوغرافي. انه كتاب هام (سنأتي، بعد قليل، على ذكر أهميته)، لكنه، ايضا، كتاب مميز. وتميزه ليس فقط ينبع من طبيعة موضوعه ومحتواه، وانما بقطعه غير العادي (تقدر ابعاد الكتاب بـ 24×34 سم)، وبعدد صفحاته 512 صفحة، والتى جلها ملونة. وبطباعته النظيفة والانيقة معاً، التى تكفلت بها "دار الاديب" بعمان، والتى يتولى الاشراف عليها الفنان العراقي هيثم فتح الله. والاخيرة، اعتبرها وارثة لـتقاليد "دار الاديب البغدادية" التى اسسها "فتح الله عزيزة" (والد هيثم) ببغداد، كمؤسسة طباعية فنية متقنة. وهي احدى ثلاث مطابع عالية الفنية، يعرف كثر، والشئ بالشئ يذكر، بان بغداد ضمتها، في حينها، وهي: مطبعة ثنيان، ومؤسسة رمزي، ودار الاديب البغدادية. وجميعها ورثت هي الآخرى أعراف وتقاليد مطبعة "الرابطة" التى اسسها المتنور العراقي "عبد الفتاح ابراهيم". ولئن تحدثت باسهاب، نوعاً ما، عن هذا الموضوع، فلإنه انني، اثق وأُصدّق مقولة صديقي الفنان "ناظم رمزي"، من إن احدى معايير الحكم على تقدم بلد ، اي بلد، يكمن في وجود مطابع فنية فيه. وعلينا، اذاً، تقصي عدد المطابع الفنية الحالية في بلدنا، في حالة رغبتنا لمعرفة درجة تقدمه!. لكن ذلك ،بالطبع، موضوع آخر!.

يحتوي كتاب "عراقـي" او بالاحرى ”My Iraq”، (فالنص مكتوب باللغة الانكليزية تحديداً)، والذي اضاف مؤلفه الى عنوانه الرئيس، عنواناً جانبياً "سيرة ذاتية فوتوغرافية.. وأكثر"؛ يحتوي على نصوص كتابية، مع مجموعة صور مختارة من مناطق العراق كافة. يتعاطي النص مع "محطات" هامة مستقاة من سيرة حياة كاتبها. وهي محطات تتماثل مع مصائر سير حياة كثر من مجايليه من مهنييّ العراق ومثقفيه : ذكريات الطفولة والمراهقة في أمكنة معينة، ثم السفر الى الخارج للدراسة، والرجوع الى الوطن، بمهنة جديدة، و... عيون جديدة, وبعدها التوظيف، ثم السفر مرة اخرى للخارج لاكمال الدراسة العليا ، والرجوع ثانية الى البلد الام، وممارسة الاختصاص في المؤسسات الرسمية وخارجها ، ثم... الهجرة خارج العراق!. لكن إحسان فتحي يضيف الى كل ذلك عناوين آخرى في "سرديته" النصية، تعكس اهتماماته المتنوعة مثل: "مع المصورين الفوتوغرافيين العالميين" و "مواجهة قريبة مع الموت"، وبها يتحدث الكاتب عن احداث دراماتيكية عاشها في ازمنة وبمواقع متنوعة، آخرها كانت "مغامرته" الجوية في تصوير مناطق الفرات الغربية، عندما تعطل، فجأة، محرك الطائرة السمتية (الهليكوبتر) التى كان يستقلها لأغراض التصوير، وقرر قائد الطائرة الهبوط بها وبركابها اضطراريا في عرض الصحراء؛ ناجيا، بهذا، (مصورنا) من الموت باعجوبة!.
يسرد "إحسان" في نصه فصلا يشير به، الى حبه واهتمامه في نشر الثقافة المعمارية بعامة وتجلياتها الحفاظية بشكل خاص، والذي أُعتبر هو،
احد مختصيها البارعين، بل وعدّ مؤسسا لموضوعها في اروقة الدرس الاكاديمي وخارجه. ويدعو هذا الفصل " شرائح ملونة، ومحاضرات و.. حروب" يعقبه فصل آخر خاص بـ "الهجرة الى الاردن" ويختم نصه بفصل سماه " حرب رقمية، فوتوغراف رقمي". اما أمكنة مواقع صوره، فهي تغطي تقربيا مدن العراق كافة، فهي تشمل بالاضافة الى بغداد بالطبع، الموصل، وعقرة وعمادية واربيل وسليمانية وكركوك وقرية "كومبتلر" (وهي قرية من أعمال كركوك، ادعوها <قرنة العراق> تشبهاً، بـ "قرنة الصعيد" بمصر، والتى قام على تصميمها، في منتصف الاربعينات، المعمار المصري المعروف "حسن فتحي"، وحظيت، بعدئذٍ، على شهرة واسعة اقليمياً وعالمياً)؛ وشيخ عدي، ودير مار متي، وسامراء والدور وآلوس، وعنه، وراوه، وحديثة وهيت وبعقوبة والحلة والكفل وكربلاء والكوفة والنجف والعمارة وواسط (الكوت)، ومنطقة الاهوار، والبصرة، واخيرا الزبير. اي، كل ما يمثل العراق تقريباً، او يتمثل به من مناطق جغرافية وامكنة تاريخية. وينهي، أخيرا، المؤلف كتابه بقائمة تتناول السيرة الذاتية للمصوريين العراقيين وغير العراقين الذين تواجدوا فيه بعد 2003، ويختتمه بقائمة آخرى خاصة بالمصادر الفوتوغرافية المعنية بالعراق، وهي "بيبلوغرافيا" اضافة الى أهميتها، فانها فريدة من نوعها، تظهر إهتمام المؤلف وحبه المهني للشأن التوثيقي الذي عُرف عنه دوماَ.

تعكس الصور الملتقطة، المنشورة في كتاب "عراقـي" جانبين اساسيين، يجد "إحسان" بهما تمثيلا لما يود ان يقدم لنا رؤيته عن بلده. أنهما، باختصار: "الناس" و "العمارة". صحيح ثمة صور بانورامية، يمكن ان نجدها في ثنايا صفحات الكتاب، لكن عددها، يظل متواضعاً مقارنة بالحدثين الاساسيين. يعرف "إحسان" كيف "يظهر" شخوصه الملتقطيين. ففي حين يبدو قسم منهم منهمك في عمله، الذي، غالباً، ما يكون يدوياً؛ أثناء حركة تثبيت "اللحظة"؛ نرى قسماً آخرا مستمتعاً في جلساتهم الجماعية عند المقاهي الشعبية، او في الشوارع المكتظة بهم. لكن "مصورنا" تستهويه، بشكل خاص، نوعيات سحن "ابطاله" المتصوريين وملامحهم البارزة. فيلجأ، هنا، الى اللقطات القريبة، او ما يعرف بـ Close-upلتأكيد خصوصية هذه الاوجه، وتعبيراتها المميزة. ثمة "بورتريهات" عديدة لناس العراق، نجدها مسجلة في العديد من الصور المنشورة بالكتاب. انها تبيّن تنوع مواطني هذا البلد العريق، وتشير الى تعدد اصولهم وإثنياتهم. ثمة تعاطف ممزوج بالاحترام يبديه أحسان الى شخوصه مسجلا هيئاتهم المعبرة في صور الكتاب المنشورة. ويوحي المصور لنا، في اللقطتين المنشورتين في صفحة رقم 159، الى مفهوم تداخل الازمنة، وتأكيد نزعة الحفاظ على التقاليد، عبر تشابه اسلوب غطاء الرأس لرجل بغدادي معاصر، مع "جراوية" امير سومري من لكش ،عاش في ربوع هذه الارض، في القرون الاولى من الالف الثالث قبل الميلاد!.
ثمة اهتمام خاص يوليه "إحسان" في مجموعته الفوتوغرافية لموضوع تصوير الاطفال، هم الذين "يعترضوا" طريقه، وهو في مهام تصويرية بانحاء عديدة من العراق. فيسجل عبر لقطاته المميزة، والمدروسة تكوينياً بعناية، لهوهم وضحكاتهم وبكائهم وفضولهم، وهم يواجهون المصور بملامح وجوههم المستثارة، وعيونهم البريئة. وبما إن الكتاب هو، ايضاً، سيرة ذاتية فوتوغرافية للكاتب، مثلما يشير عنوانه الفرعي، فقد حفلت محتوياته على لقطات عديدة للمؤلف، تجمعه مع مثقفي العراق
والعرب والاجانب. كما أبانت الصور المنشورة طبيعة نشاط المؤلف المختلفة في امكنة وازمنة متباينة عكست ثراء ممارساته المهنية والشخصية المتنوعة وأهميتها.

لا تفتأ مجموعة الصور المنشورة في الكتاب، تذكر المتلقي بقيمة العمارة الملتقطة ونوعيتها، هي التى تحيطنا من كل جانب. انها تحسسنا ايضا بما يود ان يقوله المصور لنا. وما يقوله هو ، في الحقيقة، امر رائع وجميل، لكنه ايضاً "جديد"، أو هكذا تبدو العمارة، "العمارة الشعبية" تحديدا،ً في عدسة إحسان فتحي. فتغدو نماذج البيئة المبنية، ولاسيما في تفاصيلها الجزئية، مدخلا ووسيلة لاكتشاف ما يحيط بنا من روائع. وهو كاستاذ للعمارة، ومحب للتراث المعماري، يشركنا في "درسه" المعماري، و"يورطنا" في ولعه التراثي، لرؤية جماليات العمارة الشعبية "الفرناكالر" (بحسب وصفه لها)، وتفاصيلها المتقنة والذكية.. والبهيجة ايضاً. انه يجعلنا أن نكتشف معه الجليل في المألوف، والمدهش في العادي، والاستثنائي في الشائع!. ففي اللقطات المنشورة، تمثيلا لا حصرا، في الصفحات 82، و148، و106، و148، و175، و180، و186-187، و212،و224-225، و238، و269، و273، و280، و308، و469، و474، و499، وغيرها من اللقطات القريبة والتفصيلية، ينشد إحسان الى تبيان ثراء المشهد المعماري المحلي وغناه، والذي به يتمثل العراق المتنوع والمختلف والمتآخي. وحتى في "تفصيلة" صورة الغلاف الداخلي، ينزع إحسان فتحي، الى تذكيرنا، رمزياً، بالبلد الذي يتحدث عنه، فمن خلال لقطة قريبة الى "نخلته" المميزة، و"بلبله" البغدادي الشجي، "نحزر" ،نحن المتلقين، ونخمن عن اية بقعة مباركة يدور الحديث!.

وتظل، فكرة نشر كتاب "عراقـي" ومحتواه، بالصيغة التى اقترحها لنا المعمار الدكتور أحسان فتحي، عملا ثقافيا ووطنياً في آن، خصوصا في الفترة الراهنة، حيث يمر البلد المكرس له هذا الكتاب، بمخاض انتقالي عسير، يزيده عسرا طبيعة الظروف المحيطة، القاسية والمتشابكة، ونوعية ذهنيّة طبقته السياسية التى لا تريد ان تعترف بفشلها الذريع في ادارة شؤون الوطن.
ان صور الكتاب البهية، المتنوعة والمتعددة، والتى بعضها بات تاريخياً، تنشد الى تثبيت "صورة" بلد عريق وذي شأن. وهي بالتالي تستحث "اميجه" المخزون في الذاكرة، ليصارع نزعات"التفتيت" والتهميش التى انهالت عليه من كل حدب وصوب. كما لو إن نداءاً واضحاً وعالياً تطلقه صور كتاب "عراقـي". كما لو إن هذا النداء يلمح الى قوة تأثير هذا الفن الرفيع. كما لو أن الصور المنشورة قادرة على منحنا متعة لا تعوض، يُستحضر بها عراق إحسان فتحي، الذي هو، في الواقع، عراقـ.. "ـنا" جميعاً.

مدرسة العمارة/ الأكاديمية الملكية الدانمركية للفن


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  د. خالد السلطاني


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni