... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  في السياسة

   
تمائم وتعاويذ ورقى وأبخرة وقراء بخت ومنجمون سحر للشفاء

فالح عبد الجبار

تاريخ النشر       24/01/2012 06:00 AM


بازار السحر، او سوق اللامعقول، الاعجازي، الماورائي، أكبر مما نظن. في أوهام طفولتنا، كانت الاذاعة والتلفزيون (في او ظهوره) مثلما كانت صالونات المثقفين، تسخر جميعا من "الفتاح فال"، قارئ البخت، الأعلى مرتبة من "قارئ" او "قارئة" الفنجان، مثلما تسخر من السحر. وكان معظم زبائن قراء المستقبل السحريين هم من النساء غير المتعلمات: مطلقات، وارامل، عوانس، او مهجورات، مهددات بمجيء "ضرة" واحدة او اكثر، عاقرات، او راغبات في إنجاب ذكر على رأس بنات، مريضات او خائفات من الآكلة (الاسم القديم للسرطان). وبينما كان الذكور التقليديون يسخرون من هذا "العقل الناقص" لـ "النسوان" علانية، كانوا يتقبلونه سراً: لعل خيرا يأتي منه! أو كانوا، كمخلوقات بـ "عقل كامل" يأمون المساجد ليقرأوا البخت بفتح الكتب عشوائيا على يد ملا، او إمام صلاة، ليروا ما في الصحائف عسى أن تنبئهم بالآتي وتحقق لهم الرجاء. أما المثقفون الحداثيون، فما كان عندهم سوى السخرية، لا السعي الى فهم هذا الزخم الهائل عند امهاتنا طلبا للرقى والتعاويذ، التعبير الأمثل عن الضعف إزاء جبروت عالم الذكور، والامتثال له، والتماس قوى سحرية للنجاة من أمواجه المضطربة، مثلما هو التعبير الحسي عن طلب الحياة، لمولود معافى، وقران هني.

ورغم ان الوسائل السحرية، متخيلة، او وهمية، فإن المطالب إنسانية، بل عقلانية. ولعلها أكثر عقلانية من جلوس الرئيس التونسي المخلوع، زيد العابدين بن علي، تحت مبخرة ساحرة عجوز، لا تشبه بالمرة ساحرات مكبث النحيفات، الشقراوات، العرايا، الحاملات مسحة من جمال الصبا، فهي اقرب الى عتريس، القبضاي المصري في أفلام الخمسينيات. ما الذي يمكن لأبخرة السحر، وتعاويذه، وتمائمه، أن تحققه للرئيس المخلوع غير الرغبة في البقاء، لا قيد الحياة (فهو مطلب إنساني) بل في كرسي الحكم المهزوز، وهو رغبة مقصورة على الحاكم الأزلي.

يستنجد هذا الكائن الذي فرض إرادته الخرافية على أمة بأسرها، بقوى سحرية، غامضة كي يطيل في عمر إرادته، بعد ان أفلت من يديه زمام القوى الفعلية، مادة وافكارا، التي تتيح للزعماء البقاء: مؤسسات وشرعية.

لكن من عساه يذكر ذلك في لحظة الاختناق المأزوم، لحظة إنطلاق القوى السحرية للمجتمع نفسه: أي قدرته الجمعية على الرفض، التي تبدو، في نظر الجرذ المبلول القاعد على القمة، سحرا غامضا لا يواجه الا بسحر معاكس، تعويذة تقي، كما يفيد اسمها، من غوائل الشر.

يبدو هذا الايمان بالرقى والتعاويذ، والأبخرة والحرز، مقصورا على زعماء العرب والمسلمين. لكن لهذه الخرافة، على ما يبدو، حضورا شاملا، يكاد يغطي المعمورة.

بوسعنا ان نلتقط، من نثار التاريخ، حشدا وفيرا من الزعماء، حتى اكثرهم حداثة، فالسادات يوم سقط برصاص مغتاليه، نسي حسب رواية متداولة، ان يأخذ معه صولجانه العسكري، ومارغريت تاتشر تعترف في مذكراتها، انها يوم واجهت قرار حزب المحافظين بتنحيها عن سدة رئاسة الوزراء نسيت ان تلبس عقدها الأبيض، الذي تلقت به فوزها في الانتخابات. هل كان صولجان السادات درعا يصد الرصاصات التي اخترقت جسده، ام كان العقد الابيض، لو حضر، سيغير مزاج القادة المحافظين ليذرفوا دموع المحبة، بدل إطلاق صيحات الاستهجان على السيدة الحديدية؟

ليست هذه وسوسة، بل إيمان رث بسحر الأشياء. هتلر زعيم المانيا النازية، العنصري المتطرف، المؤمن بتفوق المانيا علما وثقافة وصناعة وجيوشا، أي العارف بالعناصر العملية لقدرات المانيا، كان هو الآخر غارقا في سحر الاشياء. فانتصاره كان بنظره إعجازا إلهيا، واختياره زعيما لالمانيا (وهو ليس بالماني بل فنان نمساوي فاشل وعريف سابق) كان تجسيدا لهذا الاعجاز الميتافيزيقي.

ويوم تعرض لمحاولة اغتيال نجا منها، حسب المؤرخين نتيجة مصادفة عاثرة: وجود العبوة الناسفة وراء الساق الخشبية الضخمة لطاولة العمليات، وهي ساق متينة، سميكة امتصت قوة التفجير، بينما كانت الشبابيك المفتوحة لقاعة الاجتماع عاملا اخر ادى الى امتصاص هزة الانفجار نحو الخارج. فضلا عن ذلك تحرك اثنان بالمصادفة، لحظة الانفجار، ليكونا بين الزعيم ومصدر الخطر. يوم نجا، ادرك العسكر، السبب الواقعي لنجاته: موضع العبوة، الساق الثخينة للطاولة، فتح الشبابيك، وجود ضابطين بجواره. أما هو فقد اعلن ان تلك هي إرادة سحرية، كتبت له النجاة، لانها اختارته اصلا ان يكون ما كانه. ويوم فرغت قوى المانيا، أطلق رصاصة على صدغه، احتجاجا على زوال تلك الارادة، وانقلاب ذلك السحر.

لم يستجلب هتلر مبخرة عرافة، على غرار بن علي، فقد كانت العرافة ومبخرتها في رأسه اصلا. وزعيم آخر مخلوع، احمد حسن البكر، يصطحب زميله العسكري، حردان التكريتي، قبل انقلاب تموز 1968، الى ضريح العباس، حامي العهود عند فلاحي العراق، فهم يحلفون باسمه ضمانا لصدق الافادة، باعتبار ان العباس ليس إماما معصوما، من هنا غضبه وانتقامه إن نكث أحد اليمين عند الحلف باسمه. أما العهد الذي ارتجاه البكر وحردان من الذهاب الى مرقد العباس، فهو: الوفاء، التعهد بعدم الخيانة في الانقلاب العسكري القادم. لا البكر أوفى باليمين، ولا هو نجا من خيانة الآخرين. فحردان التكريتي اغتيل في الكويت بعد ثلاثة اعوام (1971)، والبكر عاد الى أبقاره، مطرودا من الرئاسة بعد اعوام. اما سليل الاثنين، صدام حسين، فالخرافة تجاور القسوة في مخيلته السلطوية الضيقة. ليس لدينا كثير حكايات عنه، لكن الحكاية الاكبر، وهي موثقة بصوته، ما رواه لقادته العسكريين في الكويت، بعد احتلال الاخيرة بأشهر، يروي صدام انه قام باستخارة، فوقع على سورة الفيل في القرآن الكريم، التي تصور ما وقع لجيش ابرهة وفيلته يوم اراد غزو مكة، ويشرح الرئيس الساحر لقادة الفرق انه عرف، للتو، ان شعار الحزب الجمهوري، الذي ينتمي اليه الرئيس الاسبق جورج بوش الاب، هو الفيل (شعار الديمقراطيين هو الحمار: رغم الصبر والعمل الدؤوب عندهم، ورمز الغباء والدونية عندنا)، وبعد هذا الشرح يردد صدام: يا سبحان الله! يا سبحان الله! موحيا لمستمعيه، البكم بالفطرة، ان مآل حرب الكويت مقرر منذ الفي عام او نحوهما، وان القوى العلوية التي دمرت جيش إبرهة، تقف الى جانبه، في تدمير إبرهة الحديث، بوش الأب. لم يكن الرئيس العراقي المخلوع بحاجة الى منجمين، وبصّارة، فقد كان يحمل المنجم والساحر والبصار في اعماق روحه، موقنا بأن نجاحه في الوصول الى الرئاسة، برهان قاطع على السحر الخفي، وما لجوؤه الى فعل الاستخارة، سوى الإعراب الظاهر عن القدرة على ان ينجّم لنفسه بنفسه، فهو الزعيم، المقتدر، الطالع، الصاعد، قارئ الآتي والرائح.

ولعبدة الخيالات الجامحة، عشاق الوساوس، ونظار الخرافة، نسخ كثيرة في العالم، حتى بين العلمانيين. ففي موسكو على أواخر عهد بريجنيف، شاع ان الأخير، أثناء مرضه، بعد ام تقدمت به الشيخوخة، التمس ساحرة غجرية، اشتهرت، مثل راسبوتين ايام القياصرة، بان لها قدرة غامضة على الاشفاء، ففي يدها، طاقة خاصة، تكشف مواضع الالم وتزيلها. اذكر اني رايت صورة لها مع ابنها سيرجي. كان للغجرية وجه مفزع، سمرتها تشف عن اصلها، اما تقاطيع وجهها فحادة، توحي بفحولة رجل لا لطف أنثى. لعل هولييود اتخذتها انموذجا للساحرات على شاشتها الفضية. عالم السياسة مضطرب، عالم تصنعه المصالح والاهواء، وتدخل فيه عوامل لا حصر لها، تعلي قادة، وتسقط اخرين مآل الفرد في الجماعة البشرية متقلب، فهو زائل وهم باقون. وما يصح على الفرد العادي في الحياة بعامة، يصح على الزعيم، القائد، في الحياة السياسية. وهو يتوسل كل القوى، الحقيقية والمتخيلة، لكي يضمن لنفسه البقاء، والاستمرار في عالم قاعدته الوحيدة هي التقلب. ولا ادري إن كان الاسد، او علي صالح، او المالكي، او الخامنئي، او غيرهم، يفتش في خلوته عن طلسم يقيه هذا الغول. هؤلاء هم العوانس، والعواقر، والأرامل في السياسة لا أكثر ولا أقل.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  فالح عبد الجبار


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni