... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  أخبار و متابعات

   
الزمنُ يمشي على قدمين :مدخل الى ديوان عبد القادر الجنابي الجديد

احمد محمد أمين

تاريخ النشر       08/06/2012 06:00 AM


بدءاً أتساءلُ: لمَ يكون عنوانُ الديوان بهذا الطول ؟
لعلّ الإجابة لدى الجنابي، فهو يلعبُ مع قارئه لعبة ذكية ذات مغازعدّة، لكنّي أُفضّلُ العبارة الأُولى وحدَها. وأرى أنّ ' انحتني في الضوء ' ملائم ٌ ليكون عنواناً صادماً ملفتاً الانتباه. والعنوانُ ثريّا النص كما يقول الراحل محمود عبد الوهاب. لكنّ المُبدع ، أيّاً كان ايقاعه ، يتشبثُ بما قرّ عليه قرارُه، بغض النظر عن رأي النقد. وأرى أن العنوان الطويل هو مبتدأ النص ومن لحمته وسداه. فلا يُقرأ بمعزل عن سواه. والجنابي ليس عابراً يُطلُّ على نصوصه بهامشية لا مبالية، بل ناقدٌ ومبدعٌ في آن ٍ. وحين يُنهي عمله يتركه، وحين يعودُ اليه ثانية ً يكون قارئاً وحسبُ.
الجنابي ، بامتياز، شاعرٌ طليعي غطّى ساحة الشعر بكلّ منجزاتها وخلائقها الجميلة قرابة نصف قرن. ولم تفتر عزيمته وهمّتُه منذ وطأتها قدماه حتى ذي اللحظة. توغل في مدياتها ودهاليزها وأفضيتها بروح صدامية لا يُجامل ولا يُخاصم. اغترف من الماضي ما يُضيء حاضره، وأهمل ما يعرقل مساره الابداعي. كما أنّه لا يرضى بحاضره الا اذا رفد ايقاعه الإبداعي بالألق والديمومة والحداثة التي تجري من دون توقف، وليست لها نهاية تُلقى عندها عصا الترحال. ولأنّه مستقبلي أيماناً وتطلعاً وتطبيقاً فقد حدث بينه وبين مُجايليه صدعٌ عميق نافضاً عن كينونته ما يُقال: إمّا أن تكون مثلنا أو لا تكون .لكنّه ظلّ رأسَ الحربة مُحارباً باسلاً جدّدَ واوغل في التجديد كما لو كان أكسير حياة. وقد تضافرت له عواملُ ليكون في الطليعة ... فهو يُتقن بضعَ لغات، اضافة ً الى اقامته الطويلة في باريس، ماسة حاضرنا ، التي تمخضّت عنها رؤى الفنون بكل أجنحتها، ثمّ اتصاله المباشر برموز الحداثة من شعراء ورسامين ونقاد ومسرحيين وفلاسفة. لكلّ ذلك استجابت أعماله النثرية ُوالشعرية وكذلك فكره. فهو سريالي وعبثي وماركسي وفق ثوابته الشخصية. فيأخذ من كلّ حقل ما يعزّز أدواته الآبداعيه. انه لم يكن أبداً اُحادي النظرة منغلقاً ومنعزلاً. بل يأتلقُ وسط الطوفان والحمم والأفكار جمرة ً خلاقة لا تخبو ولا تتوقفُ عند رصيف أومحطة.
ديونُه الجديد الصادر عن / دار الغاوون / ينبىء ويؤكّد ما قلتُ. ومن مبتدئه حتى خاتمته يرمينا بالصواعق والرجوم التي تُرعشنا وتهزّنا وتُصيبنا بالحمّى من دون أن يصرعنا.
/ من الآن فصاعداً / خوذ وهضبة ُ احلام / ليلٌ مُصابٌ بضربة ِ شمس / ففي العبارة الاُولى تمرّدٌ على التجانس، كما لو كان هذياناً، فلا رابطَ بين الكلمات، لكنّها جميعاً ليلٌ مصابة ٌ بضربة شمس. والعبارة الأخيرة بكلّ رقتها وفُجائيتها خارج سياق العقل والمنطق، لكنّها معقولة ٌ ومقبولة في الشعر ..... ثمّ يصدمنا ويُذهلنا بهذه العبارة: كُلْ من عُشب الكلمات هيولى الرؤية ، المستغرقة في تماهيها الذي يتقاطع مع رجاحة العقل، فالكلماتُ تُقالُ ولا تؤكلُ، هي، اذن، شطط وهذيانٌ خارج أسوار الفهم العام، ولكي لا يُبقينا في مستنقع الذهول فيُفاجئنا ب/ فكلُّ مصابيح العالم لا يُمكنها تنوير مكان تسكنه العُزلة ُ / والعزلة ُ هنا ليس مكاناً، هي الإقصاءُ الفكري في ظلمات الماضي وحجراته المهجورة.
وعبر أكثر من ثلاثين عنواناً يأخذنا الجنابي الى أقاصي جنونه التي لا تتكرّرُ فيها الصورة ُ، بل حشدٌ من الغرائبية يجتابُ المعقول واللامعقول، خوضٌ في جمرات الغموض، ممرّاتٌ عصيّة على الأقدام العارية. انه لايصرخ ولا يوقظ النائم، بل يترك صوره الشعرية توغل في احلامه، تأتيه عن سبق اصرار، تجيءُ بعاصفة من الدهشة والإنبهار والفرح. أحياناً أقرأ ديوان شعر فتستغرقني الرتابة ُ والملل كما لو كنتُ ارتقي سُلماً بلا نهاية. فكلُّ ما فيه يتناغم على وتيرة واحدة. كأني بي أدور حول بقعة دائريّة ارى أشياءها ذاتها لكن من زوايا وأبعاد مختلفة.
قصائدُ الجنابي تضعك على مُذنب ناري ترى حواليك وما تحتك شظايا مربعات واشرطة صور على الرغم من كونك تمخرُ في الظلمات ولا تحترقُ. حتى عناوينه تجنّى عليها بالشعر / الموتُ يتضوّع منك / على الرغم من أنّ موتنا نتانة ٌ وذبول، لكنّه أحاله زهرة ً تتضوعُ شذاً.
من فضائل شعره، بل من سماته واشكالاته، أنّه مأهولٌ بالمُدهش والمستحدث والغريب العاق واللامألوف المُستعصي :/ الرملُ يُهيلُ سطوعَه / انطفىءْ لكي تشتعلَ غداً / كلُّ شيء دبّ فيه النوم / ماذا يحملُ الغدُ سوى ندبة بلا أهداب / المعاني كالماء لا شكلَ لها الا عندما يُقلقُها حجرٌ عابر / ففي هذه العبارات يُعاملُ الجنابي الجماد معاملة الكائن الحيّ. فيُضفي عليها احساساً حيّاً، مثل النطق والنبض، بل السخونة. فيستنطقُنا فيها فكراً ورغبات.
في هذا الديوان، كما في أعماله الاُخرى ينتقي الجنابي ما يُطرزُ به ذائقتنا وما يُطرينا، لكنْ خارج مسلمات التكرار والنمطية والعبث. لذلك حين تنتهي من قراءة أيّ ديوان له يُشعرك فوراً أنّك انسان آخر ولدتَ من جديد .وتعودُ متأبطاً جذوة صور ٍلغة ًوصياغة ً.
الجنابي ليس عابرَ سبيل فوق رصيف الشعر، فهو سليلُ اكثر من أربعة عقود شعرية مقرونة بالمثابرة والجهد النبيل والصدام الشرس مع الآخر والضد .لذلك يأبى أن يكون شعرُه ممرّاً سهلاً يعبر فوقه القارىءُ بلا مبالاة. لكنّه ينتهي منه مُحمّلاً بالوصب والصدوع والوجع، لأنّ الجنابي ترك على جلده ندوباً عصيّة على النسيان. ولنسمعْه: / رأسُك عشٌّ نائم ٌ أيّها الموتُ / .... يستنشقُ بثور سُرّتها / ... كم هو غريبٌ غناءُ الداخل / .... نشربُ الألفاظ / ....تعلّمْ كيف تتكلّم بدون كلمات / .... السماءُ تبصقُ صورتها / .... الحربُ ما أحلاها عندما يجعل تأريخك أطلالاً / .... بلدٌ جالسٌ على مصطبة / .... تشربُك المياهُ في شقوق الليل / .... ماذا أفعلُ بماض ٍ يخشى الولادات / .... العُزلة ُهذا الوقارُ القاسي / .... أيّها الماضي إنّك لم تمتْ / أجدك واقفاً أمام الباب / اترك ِ الوقتَ يولدُ دوماً / .... وأخيراً..../ للرياح هبوبٌ له قصدٌ / محو أثر كلّ وصية على الأرض /.
أعجبتني كل قصائد الديوان، لكنّ قصيدتين ستظلان زهرتين فيّ: اولاها تلك التي يرثي فيها البريكانَ من دون عويل أو بكاء، وتؤكد وقاره الجميل القاسي، وعُزلته النمطية لا الفكرية والابداعية. ففيها غمغمة ٌ طفولية واستقدام حياة كانت تتخفى في الظل بعيدة عن البهرجة والظهور الإعلامي. والثانية المهداةُ الى جان دموالوحيد الذي تعرفه الأرصفة والشوارعُ وسوق الكتاب والمقاهي التي تسترُ انزواءه وتشرّده: / أين أنتَ يا سنواتي الأُولى / ... سنوات الشارع والمقهى.
بعدئذ ٍ، بعد هذه الجولة الخاطفة التي لا تفي أبداً هذا الديوان الجميل حقه فقد حظيت عبر قصائده بثراء متعوي فكري، ووقفتُ على هاجس الجنابي الشعري الذي يتسعّرُ ألقاً وحداثة ،وينتمي الى الأزمنة كلّها، بعيداً عن الصخب والجعجعة والصراخ.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  احمد محمد أمين


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni