... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  في السياسة

   
كيف فسدت أكبر المصارف العالمية؟

محمد عارف

تاريخ النشر       05/07/2012 06:00 AM


عندما يستشهد مصرفيون وأكاديميون غربيون بالفيلسوف كارل ماركس في تفسير أوضاع المال والأعمال، يجدر بنا سحب نقودنا من حساباتنا المصرفية، وحفظها في علب أمينة. وقد قررتُ في الأسبوع الماضي أن أفعل ذلك إلا أن المصرف الذي أتعامل معه منذ ثلاثين عاماً أخبرني بأن جميع العلب محجوزة. وهذه ليست نكتة، بل مشكلة يعرفها من يحاول هذه الأيام الحصول على عُلبة مصرفية لحفظ الوثائق، والنقود، وقضبان الذهب، وغيرها من مقتنيات ثمينة. وحتى في سويسرا، فردوس الادخارات الأجنبية التي تبلغ تريليوني دولار، تشُحُ العلب المصرفية التي لا تُحتسب محتوياتها لأغراض دفع الضرائب، ولا تتعرض لخطر التلاشي، كالحسابات المصرفية والسندات والأسهم التي أفلست بالتريليونات.

  والنكتة ملح الطعام في وجبة أرقام المال وجداول حركة أسعار الأسهم والسندات العسيرة على الهضم. وبطلة النكتة التي تفتح الشهية امرأة عراقية أبلَغَتْ البوليس عن ضياع زوجها، وعندما سألوها عن مواصفاته، قالت إنه "شاب يبلغ عمره عشرين سنة لونه أبيض وشعره أصفر وصوته حلو"، واعترض ابنها أن هذه ليست مواصفات الوالد، فزجرته: "اسكتْ... يمكن يعطونا بدل ضائع". وما البدل الضائع عن مصارف عالمية متهمة بالفساد والاحتيال على الزبائن، "باركليز"، و"لويد"، و"إتش إس بي سي"، و"بنك اسكوتلندا الملكي"، و"سيتي بنك"، و"دويتشه بنك"؟ أداء هذه المصارف في مواجهة الفضيحة كأداء الفريق الإيطالي في بطولة كرة القدم الأوروبية، فقدوا الإرادة على الفوز بعد أول هدف إسباني، وخسروا المباراة بشكل قبيح.

  ومنذ أن اندلعت الفضيحة خسر بنك "باركليز" ما يعادل ستة مليارات دولار نتيجة انخفاض أسعار أسهمه. وعلى المصرف دفع غرامة للمودعين المتضررين تبلغ نحو 435 مليون دولار. غرامة جسيمة إلا أن البنك يحقق خلال 13 يوماً موارد تعادلها، وكان قد حصل مع باقي البنوك البريطانية على دعم من أموال دافعي الضرائب بلغ تريليوناً ونصف التريليون دولار. وبوب دايموند، المدير التنفيذي لـ"باركليز" الذي اضطر للاستقالة أخيراً، يعتبر نموذجاً للمقامر الطماع، إلا أنه كوفئ بـ 25 مليون دولار، رغم اعترافه بأن أوضاع المصرف المالية غير مقبولة. ويستخدم "جو سيم"، أستاذ الاقتصاد في "جامعة لفربول"، عبارة ماركس عن "عباقرة الغباء البرجوازي" في وصف رؤساء المصارف الذين تستهدفهم الآن حملة واسعة تطالب بمحاكمتهم كمجرمين.

  ويعترف ميرفت كنج، محافظ "بنك إنجلترا" المركزي، بأن "إثم هذه المصارف كبير"، ويدعو إلى إصلاح النظام المصرفي الذي "يهدد الاستقرار المالي المتدهور أصلاً" بسبب تعمق أزمة اليورو. ومن يقدر على إصلاح مصارف عملاقة تواطأت في التلاعب بمعدلات الفائدة سنوات عدة، وخدعت الزبائن بمعلومات مضللة ومنتجات مالية فاسدة، واحتالت في بيع الأعمال الصغيرة ووثائق ائتمان فاسدة، بدعوى تأمينها ضد تقلبات أسعار الأسهم. كينج تحدث بلغة الإيماءات المعهودة لأساطين المال البريطانيين، ونفهم منها أن أسباب الأزمة عميقة تمتد إلى ثقافة صناعة المصارف، وهياكلها، والتعويضات المفرطة التي تدفع لرؤسائها، وتعاملها الرديء مع الزبائن، والتحكم الخبيث بمعدلات الفائدة الرئيسية.

  وكيف فسدت مؤسسات عريقة تتعامل مع موجودات مادية وأخلاقية ثمينة، كالودائع، والاعتمادات، والضمانات، والائتمانات، والمدخرات، والسيولة، وحتى الأسهم التي تدل على الشراكة في الملكية؟ "مركز دراسة التغير الاجتماعي الثقافي" في جامعة مانشستر، يشير إلى "عيوب أساسية في النظام المصرفي البريطاني لا يمكن علاجها باقتناص أكباش فداء، وطرد مجموعة قليلة من القادة المصرفيين ومحاكمتهم". وتتناول دراسة المركز أوهاماً سائدة في الإدارة البريطانية ترى المنافع التي يحققها حي المال "السيتي" هي الاقتصاد الحقيقي، فيما تعتبره الدراسة "الخلل الأساسي". فحملات العلاقات العامة العدوانية التي يستخدمها "السيتي" منذ سنوات طويلة حققت له امتيازات فريدة في إدارة المال، وفي النفوذ إلى قمة صانعي القرار. وأدّى ذلك إلى أن يصبح "السيتي" شبكة أسواق تتكاثر بواسطة أدوات مالية مغامرة لا تقدم شيئاً لدعم الرفاه العام أو رفع كفاءة الاقتصاد.

  وكابوس كثير من الناس هو الاستيقاظ في الصباح على أنباء إفلاس البنوك وتوقف آلات الدفع المصرفي. والنصيحة لمن يحاول سحب نقود من نافذة الدفع الآلي أن لا يُصاب بالذعر إذا قالت الآلة: "الحساب خال". فالمقصود ربما حسابه الشخصي وليس حساب البنك! وهذه نكتة عن وضع المصارف في عواصم المال العالمية، لكن الشائعات عن تواطؤ "بنك إنجلترا" مع المصارف في التلاعب بمعدلات الفائدة ليست نكتة. وإذا فضحت الشائعاتُ سيرةَ البنك المركزي الذي يُعتبر الأب بالعماد للمصارف العالمية، فحملات "احتلوا وول ستريت" قد تشرع نوافذ على رياح الربيع الغربي. والربيع في قلوب محللين اقتصاديين يعتبرون ما يحدث برهاناً على صحة نظرية ماركس عن الأزمة الدورية للنظام الرأسمالي.

  لاري إيليوت، المحرر الاقتصادي لصحيفة "الجارديان" يذكر أن الأزمة بدأت في ذروة الاطمئنان إلى النظام الرأسمالي عقب انهيار المعسكر الشيوعي، واعتناق الصين الشيوعية مذهب السوق. آنذاك شرع زعماء الغرب بالحديث عن نظام اقتصادي عالمي جديد في القرن 21 يخلو من الأزمات، ويغير العالم أكثر مما غيرته الثورة الصناعية. وبلغت الثقة بالنظام الرأسمالي الذروة عام 2007 فيما كانت نذر الأزمة الدورية تتجمع وراء الأفق، حاملة الركود الاقتصادي الذي لا يُعرفُ حتى الآن متى يخرج العالم منه.

  وتبدو نظريات دورات رأس المال متشائمة في تقييمها للوضع الحالي الذي تعتبره إعادة لـ"الكساد العالمي الفادح" في ثلاثينيات القرن الماضي، وترى الأزمات والصراعات السياسية الحالية تكراراً للأحداث التي أعقبت الكساد العالمي ومهدت للحرب العالمية الثانية. إلا أن التاريخ يعيد نفسه مرتين، حسب ماركس، المرة الأولى على شكل مأساة والثانية مأساة هزلية. والمأساة الهزلية اكتشاف الرأسمالية المالية أنها لا تعمل ما لم يوجد طلب كاف على السلع والخدمات، واضطرارها إلى حفز الاستهلاك العام عبر إقراض المستهلكين، وتسهيل القروض الفردية، والشروع في "تحرير الاقتصاد" والثورة الاستهلاكية.

  وهنا بدأت المأساة الهزلية لتراكم الديون الفردية والعامة التي نقلتها العولمة عبر القارات، فتقرض الصين أميركا مليارات الدولارات المطبوعة في أميركا التي تستخدمها لشراء سلع صينية زهيدة الثمن. والجميع سعداء، كما في النكتة عن عامل صيني طلب إجازة بسبب توعكه، فنصحه صاحب العمل الأميركي أن يتبع طريقته في العلاج ويطلب من زوجته أن تعد له حماماً ساخناً ووجبة شهية، وتلاطفه ساعتين فيصبح بعدها في أحسن حال. اتصل الصيني بعد ساعتين يشكره على النصيحة وأخبره أنه في أحسن حال، وأضاف: بيتك جميل جداً!


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  محمد عارف


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni