... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
مثقَّفون كالمثقَّفين : "الطاعة العدوانية"

عبد الرحمن طهمازي

تاريخ النشر       17/08/2012 06:00 AM


 

عبدالرحمن طهمازي
تعليق أدبيّ يناسب عبد الملك نوري:
انتقاد الظرف غير الأصليّ يرغب الكاتب احيانا ان يقول كثيرا من الافكار في وقت قصير، ويرغب حتى ان يقولها مرة واحدة، ولكنه قد ينجح، بدلا من ذلك، في ان يلخِّص فكرة واحدة تلخيصا رائعا في جملة تصلح للتداول العام. هذا نعرفه نحن العرب على انه من "جوامع الكلم" الذي يحتل مكانه في شواهد البلاغة، ومن نافل القول ان نذكر ان غير العرب يعرفونه ذلك قبل العرب وبعدهم. وهناك اوضاع تلخصها تراكيب مختصرة، ليست جملا كاملة، وتكون تلك التراكيب اللغوية مدخلا ناجحا الى تحليل، او دليلا ذا تأثير على نتائج التحليل. لن اجد صعوبة في حشد عدد من نماذج هذه التراكيب في ظروف مختلفة، ولكن في بالي قضية واحدة، كثيرة التشعب، مع كونها فاقعة اللون الى حد الازعاج، لمن يريد ان ينزعج، هذه القضية هي "سهولة الانقياد*" التي وجدنا عليها كثيرا من المثقفين العراقيين بعد 9/4/2003 ويلحق بذلك "الثقة المزيَّفة" بمظاهر السياسة لأولئك بعد ذلك التاريخ، و"الطاعة العدوانية" التي يمارسونها ايضا، وتعبيرهم الغامض عن "الراي العام المجهول" بواسطة "الموافقة المضطربة" ساتوقف عند هذه التراكيب ولا اضيف اليها سيلا من اشباهها، فهناك مزيد لمستزيد. ولا احتاج الى تنبيه القارئ اللبيب مرة ثانية ان هذه التراكيب التي ذكرتها ليست تعابير طائشة بل هي تاتي في سياقات اغلبها فلسفي عن جدارة ثم ان منتجيها هم فلاسفة اوربيون ليس هناك من خلافات جوهرية حول اخلاقياتهم او معاناتهم المعرفية، وقد تقيدوا بطابعها الاوربي، لكنها (اي التراكيب) تفلت من ظرفها لتصيب اهدافها في الفضاء النثري الذي يتعايش فيه ابناء ادم، حيث لابد ان نرى تشابه الاخلاقيات النفسية في الظروف المختلفة، فآدم نفسه لم يمر بمرحلة الطفولة لتتشكل له سيكولوجية ما على حد تعبير احد الباحثين الاميركان. يشير تركيب "سهولة الانقياد" ضمنيا الى صعوبة عدم الانقياد(الممانعة او الحياد السلبي)، كما ان الانقياد لايعني التفاعل، ففوكو، الذي بنى هذا التركيب، يعرف انّ "فن الوجود" كما هو عند اليونانيين القدماء يختلف عن المعيشة وافانين المتعيشين، ولاشك في انه يتوقف مطولا عند البناء البطئ للفرد، مع تحفظه الضمني على تسارع الحداثة. وفي الحقيقة تضم هذه التراكيب نوعا من الدراسة التحذيرية من الفاشية والنازية والديكتاتوريات الاخرى المتبقية وامكانات تعايشها مع الديموقراطيات التي تهمل الفرد واستقلاله في ظروف معينة وتسمح بتجزئة ذلك الفرد في الحياة الشخصية او الاجتماعية، في النظرية والممارسة، في الدنيا والدين.. وفي الايديولوجيات وكل مشتقاتها المحتملة. ان مايلفت النظر، عند الكثير من مثقفي العراق، وهم الذين يعنوننا هنا، منذ الحرب العراقية الايرانية، ان اولئك الكثيرين، تساهلوا في قبول علاقة النظام بهم بالتالي علاقتهم به، ثم اعتادوا على الانقياد، اقصد تعلموا انه لا باس بالانقياد لاي مناسبة انقيادا مفيدا للانتفاع الشخصي ليس من اجل تجنب شر النظام، وانما لمماشاته باعتباره قدرا من الاقدار التي لافكاك منها الا بالتماشي معها ! ثم استمر التماشي (الانقياد) في زمن الحصار الاقتصادي..ثم صار الانقياد اسلوبا.."نظاما في منظومة " حتى بعد 2003. بل ان الابتداع في الانقياد ظهر على شكل بطولي.. فمن اجل الديموقراطية تهون الطاعة التي كانت في السابق عدوانية ثم تتحول الثقة الزائفة، التي تبادلوها مع حكم البعث الثاني، الى موافقة غير مضطربة، لانهم دفنوها في الراي العام المجهول، حيث يمكن للفرد ان يتجزأ عدة مرات ويجد ذلك الفرد الثقافي نفاقه يسرح ويمرح بين الهويات الأهوائية، فلكل شئ أوانه..، وليس الانسان الا "ابنا لوقته "، اذا انتزعنا هذه العبارة من سياقها الصوفي الاسلامي، ومااسهل الكولاج في التاريخ المدهون للانقياد. تبدو هذه الاليات مفهومة من الناحية الموضوعية – اذا اخذنا بحقيقة ثقل الحاجات وتوالدها العذري والهستيري - وهي مقبولة من طرف اولئك المثقفين الذين كنزوا في دخائلهم بلادة الدوافع التي صارت "كبيرة " بعد ان ابعدوها الى زمن مضى ويمضي، ولكنها تهبّ مثل تهديد لضمير يتململ بين اونة واخرى.. بَيْدَ انه يتعرض الى التانيبات التي تواجهها العروق الغامضة، المتخمة بالتقريع المزعج الذي يصدر عن مبادئ تم انفصالها عن الواقع ودلالاته المتحركة. انّ اقرب الاشياء التي يمكن ان نعزوا اليها سهولة انقياد المثقفين هي الحاجات المعنوية او المادية، وكانت السلالم التي تتناولها الاقدام من قرب او من دون بحث متعب، هو الطائفية (وفيها احزاب والخ..) والقومية (وفيها ايضا احزاب والخ..)، وفي كثير من الاحيان تتبادل الطائفية والقومية الانخاب فيما بينهما، وتقومان بالعبور معا، ومن غير اي حرج الى العبارات التي تتقافز فيها الديموقراطية الدستورية على غير هدى. في هذه الحفلة التنكرية التي تجري بشكل علني يتكوّن الضغط الطائفي على ديانة المتدينين (فضلا عن وطنيتهم) وكذلك الضغط القومي على وطنية القوميين (فضلا عن دينهم).وهنا يستمر السباق بين " الوجدان الكاذب " والهوية وينقاد المثقفون المقصودون الى نسيان دور المثقف في المنعطفات: حيث تغذية المجتمع باخلاق التسامح وواجبات المساواة (النسبية)اي : لما يمكن تسميته من الناحية الدستورية النظامية بثقافة المواطنة، وهي التي يتشبع بها الفرد ليعود بها الى مجتمعه، هذه الثقافة التي بدونها لا يمكن ان يتسمى اي نظام بانه ديموقراطي. ان المثقفين العراقيين الآن والذين وصفناهم بالكثرة، في حالتهم من الانقياد السهل، فقدوا ذلك الدور القياسي الذي كان للاكثرية المثقفة المؤثرة (منتجة الثقافة) في ثلاثينيات القرن الماضي وحتى الهجرة التي اختاروها او اضطروا اليها ابان الحكم الثاني للبعث، فبدل ان يعملوا على تخليص الدين من الطائفية الانانية، اولا، ثم تحويل الفرد الى موضوع دستوري ديموقراطي بعد تفريده وتجريده من دون اي قيود او تفاصيل خادعة لكي يتبناه الدستور، اذا كان دستورا عن حق وحقيق ،(اي ليس موضوع طائفة او قومية او دين او جنس او تراتب اقتصادي واجتماعي..الخ)، لايكون فيه اي موضوع آخر مزاحما للفرد، بمعنى ان يكون هذا الاخير محظيا بكرامة المرء one’s dignity وبالكياسة السلوكية delicacy of conduct كما يقول الاميركان حول دستورهم وكثيرا ما يعنون بالكياسة الدلالة على الانصاف. لكن سهولة الانقياد "حررت "هؤلاء من مواطنيتهم، ومن ديموقراطيتهم التي من المفروض ان تكون من الناحية النظرية سابقة على الدستور.. ولا يبقى للدستور الا ان يكون تذكيرا.. بالحقوق "الكثيرة " مع الحذر غير القليل حين ياتي ذكر الواجبات. ان السرد الطائفي والقومي للحياة، في الظروف العراقية المدخولة الآن، جعلت من السرد الذي يقوم ويتساجل به مثقفون، اكثر المشاغل خطورة على شعب باكمله، فالحرية لا تستحق هذا الاسم مالم تكن عامة متكافئة وهي بالضبط محيط الفرد، ومالم تكن علنية غير خاضعة لاي اسلوب من شانه ان يجعل منها ذات درجات ملتوية بالامراض وعدم الوضوح، يسهر على ادامة التوائها اولئك الذين احترفوا الاعتياش على عثرات المنعطفات.

 انّ ما ستتناوله الملاحظات التالية مرتبط ارتباطا مباشرا بالوضع الراهن لعدد لا يستهان به من المثقفين العراقيين، دون ان يراد بالملاحظات فصل وضع هؤلاء عن اوضاع سابقة لغيرهم قد تتوغل الى زمن بعيد (سمّاهم علي الوردي وعاظ السلاطين ولكننا نحتاج الى القليل من السرد التأريخي؛ أي: ان علينا الاخذ بالدزاين: الان وههنا في المستوى الاجتماعي او مستوى الطبيعة، فما الذي ينفع من طغراء "حضارة النهرين" اذا كان النهران يتجفّفان على الارض نفسها وامام الورثة؟ وهذا هو درس التأريخ الذي ينبغي الا يكون ابعد من تكوين فكرة عنه ومنه بدلا من تلقينه، وهذا قد يعني ان نعمل على ان يكون لدينا الاكثر من خارج السرد التاريخي والقليل من التاريخ) مع اخذ الفارق بعين الاعتبار، كما انه لايراد الفصل بينهم وبين المجتمع على ما هو عليه الان، مع ادراك ان التقاليد لا تكف عن معاودة النشاط، التقاليد باوجهها المختلفة، التي تراعى والتي يتم التنصل والسأم منها ايضا على نحو ظاهري، وهذا التنبيه في ارتباط الملاحظات التالية ينطبق عل الملاحظات الاولى التي نشرت في ايلاف (6-8-2012) وعلى تلك التي ستنشر لاحقا تحت العنوان الرئيس نفسه، فالوصف، من حيث كونه خطوة منهجية وهو ما لا اريد تجاوزه، وان بدا على غير ما يكون عليه الوصف،لاستطراداته التي توحي بانه وجهة نظر قطعية، مثلما يفعل المجاز الكثير فعله في الاستغناء عن الحقيقة، هذا الوصف لا ينبغي اعتباره قدحا فقط، وهو لن يتبرأ كليا من ذلك، وانما هو تنبيه على لحظة تاريخية، الان وههنا، يمكن لاي ناقد اخر ألا يتجاوب معه، بل ان يفنّده، ولكن المهم عندي اليوم ايصال معنى لا علاقة له باطراف المحاججة التي تجعل العراقيين، لو انخرطوا فيها، بعيدين عما يعنيهم، وليسوا هم اليوم في منجى من الهدف الذي يضعه سياسيو النفوذ نصب اعينهم الا وهو: ان تكون السياسة عملا يصرف الناس عما يعنيهم، كما يعرّفها بول فاليري من غير رتوش افلاطون التي اضفى عليها باسكال سلبية غير خاملة.

انّ التقريب بين النخبة والمجتمع، في مثل هذه اللحظة، وان بدا مقاربة منهجية، غير انه موضوعيّ كذلك،... التقريب قد يساعد في الاتجاه نحو معرفة "شيفرة الفشل" حسب عبارة ياسبرز والتي عانينا من الارتطام بها، وما زالت لدينا هلوسة التكرار على طريقة فن المجادلة لدى الكلاميين القدماء، والذي لم تستطع حياتنا بكل التقلبات البشرية والطبيعية المعطاة والمحتملة ان ترد عليه او ان توقظ جذريا طريقة اخرى لتبني حياة جديدة او متجددة. واذا بقينا بحدود الالفاظ البالية، فان "شيفرة الفشل" لن تتفك بحل من الحلول، فمع اللغة يوجد دائما العمل، والاقوال التي ليس تحتها عمل – كما كان يقول مالك ابن انس – غير مستحبة. انّ "الانتشار الداخلي" حسب ايجاز ماكس فيبر منوط بالعمل ودفعه للتخوم وهو الذي يسمح بان نقيس قيمة حضارة متقدمة ما.

ان اغلب الذين قبلوا بطاعتهم العدوانية فورا وبالتدريج، قد تدربوا في عهد البعث الثاني ولصالحه، وكان ذلك لصالحهم بمعنى من المعاني، وقد رضعوا الاذلال وتراهقوا باقنعة من الكبرياء الاعلامي، وخاصة في ظروف الحروب. وكان قسم منهم قد اختار الهجرة، وفي المهاجر تدرب هذا القسم على اخلاق اللاجئين الاضطرارية، وليس هذا متقاطعا مع التجربة الاولى، وعادوا ابطالا للحرية.. يطلبون الثمن عن هجرتهم، بذرائع متنوعة، اما الذين بقوا في البلاد، وكانوا اكثر تمرسا بالنفاق والميوعة، فان بطولتهم تتجلى بسرعة التحاقهم، وبدون تحفظ، بالركب القادم، وحجز الاماكن في سلطة الاعلام على سبيل المثال وكما قلت فقد تلقوا تدريبا صعبا ونجحوا في اثناء حكم البعث، وظهرت الحاجة اليهم بعد 9/4 ماسة، وبدا وكأن عملهم السابق كان تمهيدا "للحرية"، وما اسهل التجربة حين تحبوها الولاءات الجديدة. وبين الطاعة الاولى والثانية توجد علاقة واحدة هي الاعتداء الصارخ على الحرية الثقافية التي هي محصّل ليس من اليسير في الظروف الصحيحة المزايدة عليه، وبالتالي العدوان على الراي العام باستغفاله مرة ثانية بالهزء الجارح من ارشيفه القريب، فهؤلاء لم يكونوا بعيدين عن ذاكرته.. بل ما زالت البنوراما تعرضهم. كان التصفيق عاليا للنظام السابق وفجأة استمر ترحيبيا بالتحرير، ونشطت الايادي بالتصفيق والرجم معا. اما اولئك الذين لم يدافعوا عن البعث الثاني ولم يرحبوا بالاحتلال.. فقد وجدوا انفسهم غير قادرين على ايصال صوتهم الى الراي العام الا على نحو طفيف، بسبب من المعاودة الكثيفة للولاءات. ان المثقف الذي سجنه نظام البعث جنائيا انقلب سجنه سياسيا، واحتلّ مكانا يستطيع منه ان يامر وينهى. ولكنه المثقفين الذي حقق امن نظام البعث بهم علاقة واستمرؤوها واداموها بالخدمات مقابل ايفادات او ما اشبه، هؤلاء، ولا اشير لهم باولئك، فقد كانوا من الكثرة بحيث ملأت تقاريرهم الى الامن او وسطائه، ملفات ضخمة، وقد اتيح لي الاطلاع على ملفين من تلك الملفات بعد 2003، واثار انتباهي ان احد ابرز المثقفين، وهو ايضا اكاديمي واعلامي، كان يزود الامن يتقارير مفصلة عن شقيقه المطارد سياسيا، وكان كاسبا اضطر الى ترك عمله وعائلته في بغداد ونجا بجلده، وظل على ثقته باخيه المثقف يراسله باخباره، وهذا بدوره ينقل المعلومات الى من يعنيهم الامر، وهكذا تتحول ثقة الشقيق المطارد الى وثيقة امنية. وفي واقع الحال: ان الطاعة العدوانية بلغت مداها المتعسف حين وجد الدكتور انه اذا اختار الوظيفة المميزة والنفوذ فعليه ان يذهب حتى الى الاعتداء على الثقة الممنوحة له بالغريزة الاخوية، وربما من دون ان يكون مطلوبا منه ذلك، ولكنه اختار "توثيق العلاقة". فهو مضبوع قبل دوران الضبع، كما سياتي في القصة. ولن نسال عن مصير طاعته، التي تطورت محليا وعربيا و.. كل ذلك ولا عَجَب، فقد مضى شعبان ولمّا يمضِ علينا رجَبَ.

ان تركيب "سهولة الانقياد" له علاقة بـ"الطاعة العدوانية"، ولكن دعوا الامثال تقول قولها اولا، فان سلّما واحدا يكون صالحا للصعود والنزول، وهذا لا يشكل التباسا في وظيفة السلّم المزدوجة بين الحركة وهيكل السلّم، وتبرز الفخاخ حين نصعد وفي نيتنا النزول او حين ننزل وفي نيتنا الصعود، والفوضى هي المسؤولة عن تضارب القصد والعمل، وليس هناك من انفصال بين الفوضى والازمة، فالشلَل السياسي يقع في معمعة الفوضى الحالية. اما المثل الثاني، وهو قصة عراقية نموذجية، فحين يريد الضبع اصطياد فريسته، لا يقوم بمطاردتها وانما بالدوران حولها، حتى اذا احسّ بان الحين قد حان، يترك الضبع الفريسة ويمضي وتمضي الفريسة اليه منجذبة بدورانه الذي ادار راسها، فهي لم تكن تدور قدر ماكانت تتابع دوران الضبع. ويسمي العراقيون الفريسة في هذه الحالة: المضبوعة. آخر الامثلة قارّيّ آسيوي، حيث الكلب في الاسطورة يضع شرطا لكي "يقبل" بوضع السلسلة في عنقه، "الشرط" هو: ان يلقى اليه بعظم.

وضوح هذه الامثلة لا يرحم احدا. ولا ضير، فالانظمة الاجتماعية الوقائية، وابرزها العشيرة، لم تعد متلازمة، كما ان الحكومة والبرلمان ومجلس القضاء يتحدثون عن تاخر بناء الدولة، ولكأنّ هذه الجهات غير معنية بالاسهام في بنائها اي كأنّ الدولة هي الخالق الذي يسبق وجوده تلكم الهيئات (!!) ولسنا بحاجة الى تعب لفهم مشاعر الكثير من العراقيين رجالا ونساء... حول انفسهم انهم يعتبرون علانية اشخاصهم في وسائل الاعلام مشاريع جثث، بكل الدلالات المنحوسة، قتلة وقتلى او موتى مأزومين بالامراض والقلق وعدم الاكتراث واليأس التام..الخ، وان من الملاحظات البارزة التي تميز "الطاعة العدوانية" للمثقفين المقصودين هو اتفاقهم مع الحكومة في ان كل مايحدث وما في طريقه الى الحدوث، على نحو غير مرض، هو بسبب عدم وجود دولة، وهنا يكون هؤلاء متفقين مع الحكومة على اضفاء غطاء من التبرير على المظاهر غير العادلة والنوازل الجرمية، وبهذا يفقد المثقف موقعه الذي من المفترض ان يكون بعيدا بعدا نقديا ولو بدرجة نسبية من السلطة (يمثّل الالتحام بالطابع الانتقالي من طرف المثقفين عيبا اخلاقيا وعقلانيا، ففي ظروف من هذا القبيل يختار الناقد، دون ان يفقد صلته بالوضع، بل ان يتصل به على نحو انفع، يختار ان يكون "على الشاطئ" كما يقول هوبز. فالطابع الانتقالي لا يسمح باعتبار التجربة الحالية نظاما ديمقراطيا فالعراق يحتاج الى تنظيم ديمقراطي اوّلا، وليس هذا تلاعبا بالالفاظ، فقد ثبت ان التنظيم اهمّ من حيث الاجراءات من النظام الذي لم تتهيأ اسبابه الضرورية، وهذا هو السبيل الذي سلكته الحداثة في التأريخ السياسي، فهي – الحداثة – ليست حربا كما تريدها الولايات المتحدة الاميركية بطريقة الاجتياح).

وهنا اوجه الانتباه الى انه قد يكون لملاحظاتي اثر تضليلي في ان المقصود بالمثقفين هم كل المثقفين العراقيين وليس ذلك هو القصد، لانني لا ابحث هنا في الاستثناءات التي لا تكون ملموسة في هذا الجو، مع انها من العوامل المامولة للالتفات الى الضمير الخصب الذي يتوقعه الناس باعتباره: خلاصا سلميا!

وبالنظر لسرعة بيع وشراء القمصان الملبوسة اختلطت الابدان بها وتعرضت نباهة العراقي العفوية الى تحريف ولم تعد كافية لملاحقة الدلالات، فالتبادل والتداول، وان كان علنيا، غير ان المصالح "الكريهة" ليست معروضة بروائحها، وعلى هذا تعتبر "الطاعة العدوانية" ملحقة بالعنف الرمزي، على حد تحليل بورديو، والذي لا تظهر نتائجه الجوهرية بسرعة، وهذا هو الخطر وفي هذا السياق يكون التعليم المتصل بالتربية – ونخص الابتدائي منه بدون ان ننسى الاستثناءات المعزولة - مسرحا للعنف الرمزي، فالاطفال يصيرون اهدافا ومواضيع للتنازع الايديولوجي: الطائفي والقومي والخ، وقد يجري هذا التنازع في المدارس تبعا للمناطق والادارات والهيئات التدريسية وحتى عمال التنظيف، وليس هناك من اهمية للعلم او العرض الموضوعي للانسانيات. فان تكون معلما (أي مثقفا بالمعنى الاصطلاحي) من الطائفة او القومية الفلانية، وانت مؤدلج بها، فعليك ان تقوم تلقائيا بالاساءة الى الاطراف الاخرى ان لم تعمل على اخفائها. وفي هذه الحالة فان المدرسة ليست مكانا لتعايش المعلومات وعرضها، ولن يعود الطفل متربيا على اسس التلقي وبالتالي متهينا للحكم، فهذه الملكة يراد تعطيلها مباشرة، وهي متعطلة اساسا عند المعلم المشبع بالنرجسية الخبيثة: الطائفية او القومية او الاجتماعية التي تقصي او تشوه كل الايجابيات المتعلقة بغيرها، وهنا لا مكان لما كان يسمى عند العرب من ان القوة تشتاق الى القوة، اوان تسمح للطفل في ان ينجذب الى افضل ما في المعلومات حسب معايير موضوعية صادقة نسبيا، بعد تعليمه مبادئ الحساب والنحو.. وان الرهاب من معلومات المعلم يتساوى مع المحرمات، ومع النجاح في مراحل الدراسة.. ويتساوى الخوف، اذن مع التصور والتصديق، في ظل ايديولوجية الطاعة التي يصحّحها ضجر الطفل ورعبه من عدوانية عدم الطاعة ايضا ويضاف الى ذلك مجون المناوشات الطائفية والقومية المنتشيتين، اين سيذهب مثل هذا الطفل في مراهقته وازدواج اهدافه ووسائله التي قد تكون مخبأة حتى عن عائلته واترابه؟ اين سيذهب في رجولته وهو ملتفع بالعنف الرمزي؟. ان طائفته او قوميته قد تكفان، في لحظة، عن الترحيب بهذه الثمرة التي افسدها الماضي ولم يعد يتقبلها المستقبل. ان الطاعة اخذت نصيبها العدواني من التربية ثم من التعليم (هل تساءلت الامم المتحدة والمستشارون الاميركيون والعراقيون مع قيادات الطوائف انه من الممكن بله الحتمي ان تفقد الطائفة سيطرتها الطائفية الداخلية في حالة المحاصصة التي اتخذت قاعدة لتوزيع المسؤوليات العددية ام ان صراع الاوزان داخل الطائفة الواحدة والحزب الواحد والقومية الواحدة سيأخذ ابعادا ليست تأريخية تقود الى الحل التنظيمي وليست على بال المراقبين الذين لم يعودوا قادرين على التحكم في ملاحظاتهم).

ومع ان تركيب "الطاعة العدوانية" قد بدا جميلا في بداية استعماله، في ندوة سوفيتية، وكان يشير الى الغالبية، ولكنه يكوّن مع "سهولة الانقياد" الفردي شيئا من قبيل المحلول والمركب معا - اذا جاز ذلك كيمياويا – ولكنه جائز من ناحية السلوك النفسي الفردي والجماعي.

وليست "الطاعة العدوانية" سلوكا ملحقا بالسلطة فقط، وانما يكون دائرا ايضا في فلك اشتقاقاتها وتناقضاتها، فأول شئ يبدأه المثقف المعني هو الاعتداء على ذاته المثقفة، وتاريخها المضطرب، والذي يكون تفسيره سياسيا وحزبيا سهلا في العادة، ثم تاخذ دائرة الاعتداء والطاعة بالاتساع والتلوّن الحربائي، ان شيئا من النفوذ المبتذل سيكتسب، من طرف السلطة حين تعتدي على استقلال المثقفين بالمال الذي يطلبه هؤلاء على شكل رواتب او مكرمات منتظمة، وهكذا يتحول استقلال المثقفين الى انفعال نقودي او مباهاة بالنفوذ، اوشهرة اعلامية تتلاعب بالهويات "الثقافية" (في الواقع تنتقل الشهرة الى ان تصير هوية الهويات وبدونها يضيع هؤلاء في لجج التبجحات الفارغة دون تانيب.. لان النسيان الثقافي قد حاق بهم.. ولا يعنيهم ذلك لان الصفح الجميل يسدد فاتورته المال واستثماراته وذكريات النجاح، مرها... وحلوها... و... و...) ولا نذهب ابعد من الثقافة.

 والواضح ان السلطة والمثقفين مسؤولان عن هذا الديالكتيك الكلاسيكي، بين السيد والعبد، فشرط الكلب الاسيوي، الاسطوري، قد حقق للاسطورة: سلسلة اطول يمكن للكلب ان يصل الى عظام اكثر مادام لا يشعر بالمضايقة، او لا يريد ان يفكر انه منظور، فحشرٌ مع الناس عيد. شأنه شأن "المتعاون" السارتري.. (هل يذكره القارئ؟).

ان الشئ الوحيد، في تخارج المثقفين، والذي لا يشعرهم بالخجل او الاحراج، هو مطلب الحرية للشعب وللافراد وللثقافة، اما اكتساب القوة من السلطة والنفوذ والمال، وجعل سلطة المعرفة مركونة، فهذا نوع من الطاعة التي تسيئ الى صورة المثقف اولا، وتنشر انطباعا عن ان الثقافة يمكن ان تكتسحها السلطة السياسية بمالها ونفوذها، دونما ضير على المثقفين. فلا يعود لهؤلاء أي دور قياسي. وهكذا تتشكل " الثقة الزائفة " بين الاطراف، ذاتيا وتخارجيا.

لن اذهب الان بعيدا في الوصف، لان الاوصاف الكثيرة قد تلعب دور التحليل، كما ذكرت فيما سلف، واكتفي بهذا المستوى من الطاعة العدوانية. والذي له قابلية على الاشتقاق،وقد يكون ابرز اشتقاقاته العدوانية متأتيا من ضحالة التدين الطائفي والتدين القومي (وحتى التدين بالاحزاب...) والسعي الى الكلمات الشائعة وفرض تثبيتاتها " الاستراتيجية" عبر عدوانية التكرار الماكر، وهذا ما يعرفه،على بساطته، كل من اشتغل على علاقة اللغة المبتسرة الفقيرة، مع كونها فضفاضة وثرثارة، بالسياسة المؤدلجة وتلطيخها الناس بالطاعة" العمياء"، أي تحويلهم، بالعنف الرمزي، الى رعاع.

ان الطاعة العدوانية، وقرينتها سهولة الانقياد، وها هنا نفك الاقواس، تبدأ بالتجمعات الافقية الكبيرة، سواء كانت عصيانا مدنيا – على حد تسمية حنا ارندت – او تثقيفا سريا له وعود جماهيرية او طاعة للسلطة التي تقوم بتمثيلها سلطات عدة،وفي تلك التجمعات ياخذ الفرد بتسليم وجدانه في القليل الى المجاميع، ثم تقوم المجاميع بملاحقته نفسيا الى ان يحضر جسديا، مما يضع في النتيجة علامة الاستفهام الاخلاقية على مثل هذه الآلية، دون ان يوصم بالخطيئة السياسية او الغلط التاريخي.

(من حق القراء ان يعيبوا هذه الملاحظات بعد ان ينتبهوا الى انها لم تتطرق الى السلسلة غير المتقطعة بالفعل، اقصد المسلك والاثار التي ترتبت على الحكم الثاني للبعث، وعلى الاحتلال الاميركي وحربه الثقافية الباردة.. وعلى تدفق المسكوكات الاقليمية ثقافيا. ان الموضوع الذي اقصد اليه له علاقة محددة بفكرة المسؤولية الثقافية المحلية الان وها هنا. اماالتاثيرات والمعاودات فلها مكان وموعد اخر من الخواطر حين ياتي التعليق المناسب على " الراي العام المجهول". ومن حق القارئ الممحِّص ايضا أن استدرك او استانف فاذكر ان التراكيب المستعملة هنا هي تراكيب غربية المنشأ، لكنها ذات محتوى سياسي – قد يكون هو المستوى السياسي نفسه – ليس بالضرورة ان يكون ايضا الوجه الرسمي للاقتصاد والمجتمع والتاريخ في الغرب فقط، وقد استدرجناالمحتوى انسانيا وان بشكل تبسيطي، والاعتقاد ان مثل هذا التبسيط لا يضر باصل الاطروحة.
-----------------------------------------------

*التراكيب المذكورة عدا "الموافقة المضطربة " مستلة من فصل"حول الشر السياسي "في كتاب جورج كاتب " المحيط الداخلي – النظرية الفردية والثقافة الديموقراطية" ترجمة علي حسين حجاج. كما ان عددا من الملاحظات التكميلية هي من آثار الكتاب نفسه ولا بد من لفت نظر القارئ الى ان تلك الاثار قد دخلت في لحمة هذه المقالة.

عن ايلاف


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  عبد الرحمن طهمازي


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni