... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  قصة قصيرة

   
بقايا

نزار عبد الستار

تاريخ النشر       27/08/2012 06:00 AM


تخيلنا ان نجده واقفا بنحول يشف عن هيكله الروحي، ينتظر ان ننتشله من نفايات جمعها مدة ربع قرن قضاها متعذبا بحب مميت.

اضطررنا، أثناء اشتباهنا بمصدر الأنين، إلى فتح طرق خاطئة مبعدين عن تسرعنا مئات الاكياس محكمة الإغلاق، إلا انها طافحة الرائحة. أزحنا الكثير من الصناديق الخشبية الصغيرة المصبوغة برموز تحذيرية، وشعارات موانئ، وأسماء تجار دون ان نتحقق من نوع الحزن الذي كانت تشعله في قلبه. وبلا أدنى حذر تخلصنا من زجاجيات رأيناها غير مهمة لكنها كانت تعمق فيه طعنة انه ليس من وهبها لها.

كنا قد كسرنا الباب بضربات من أقدامنا ودخلنا بأنوف معقودة، ورحنا نناديه على أمل ان يميز رأفة صداقتنا القديمة. كان علينا، ونحن أمام مخلفات مأساته، ان نقدر شدة ما عاناه في مواجهة هول ان يفصل ما بين ما قشّرت طوال عشقها لبيتها من باذنجان وبطاطا وفاكهة، وبين ما اوجعته استهلاكاتها التجميلية عبر تفانيها الزوجي الطويل. لم نعتمد على ذاكرتنا السعيدة، فالبيت صار ضيق الملامح وأعمى، ورحنا نخمن، بارتباك، أين يمكن لقلقنا ان يكون، وأين يمكن له ان يحتضر من شدة عذاب الحب!.
 
تجمعنا في الحوش لنتعاون على فتح مسارات لنا باتجاه الابواب التي ظهرت حين ازحنا فساتين اشتراها لها لتموت معلقة بغبارها. شعرنا بعمق جراحه القلبية التي لابد من انها تفتقت مع الزمن امام عجزه عن الابقاء على طراوة الذكرى. وانه لابد عانى دمارا فتاكا من خسارة ان تتحول مخلفات حبيبته إلى كائنات من عفن، وان تغدو كل الاشياء التي لمستها جيولوجيا سيدة جميلة احبها.

احترنا وذهب فكرنا إلى انه قد يكون في إغماءة حزن مرتفع، أو انه في تيه حرصه على عدم إيذاء ذكريات الحب. اتفقنا ان نناديه لدقيقة ثم نأخذ شكل التماثيل انتظارا لردة فعله. كررنا ذلك مرارا ونحن نزداد تعجبا من معجزات ان يحبها بهذا الانهاك المؤسف.

حسبناها بالعقل: من غير المستحب ان يكون قريبا من متيبسات مطحون الشاي الذي شربته وقشور الطماطة التي عصرتها وبقايا الرز المحروق الذي طبخته، وأكيد انه ابتعد عن ألم ان يرى كعوب البامياء التي بترتها بسكاكينها غير وفية لجمال يدها. توصلنا إلى انه يمكن ان يكون متواريا في أعماق البيت بالقرب من نفايات عزيزة على قلبه، إلا اننا اكتشفنا البديل الصناعي عن واجبات ثدييها. مئات العلب المعدنية لحليب كيكوز الذي كبّرت به اولادها الاربعة ما جعلنا نعود لنختلف فيما إذا  يحق لنا التخلص من المعرقلات العاطفية لقاء ان نعثر عليه حيا.

في البداية لم ننتبه إلى ان البيت منظم على غرار اسلوب العطارين في إضفاء العجائبية على بضاعتهم. كانت الروائح تزعج تعاطفنا الا اننا كنا نبحث عنه ونحن في انبهار لا يصحو من سحر تبجيله نفاياتها. كانت الأكياس البلاستيكية مكممة بشرائط حمر مربوطة برومانسية خلابة وتظهر انهماكه الخرافي في التدوير، ودأبه على ان يثبت بالتصنيف مجهودات عظمتها كربة بيت. احمرت وجوهنا تعظيما لقلبه الذي يزن طنا من الحب ونحن نواجه براهين فهمنا منها انه تنازل عن غيرته ولم يهمل ما فعلته لإرضاء زوجها وانه احترم لها هذا القدر من المخلفات حين كتب على كيس بخط منكسر لكن بكلمات شجاعة: أعطاك الله عافيتي .. ذكرى سبعة مواسم يانعة مرت على الباقلاء المباركة التي سلقتيها تعبا على تعب، وتسلى باخضرارها زوجك الذي احببته.   
 
كدنا ان ننسى انينه من شدة  تعلقنا بجمال ما تذكره من مناسباتها التي من سابع المستحيلات ان تعود إلى بالها. كان قد زور العبارة التراثية التي ابتكرتها البلدية عام 1869 والمطبوعة على أكياس القمامة السود: حافظ على نظافة مدينتك. وجعلها: أحافظ، من اجل قداستك، على نظافة قلبي. ولف بها العشرات من تمنياته القلبية وبعناية عاطفية فائقة مستعملا بطاقات كارتونية تعريفية مخطوطة بحبر فسفوري معطر تؤرخ مبالغاته المطعمة بوخز اخذ يؤلم قلوبنا: تخليدا لنعيم شبعك ايتها الملكة، هذه الطبقات الصفر من بصل استخدم في اكلة دولمة ظهر يوم 15 / 10 / 1990.

قلنا نصل إلى الباب الصغير أولا لان الأنين هناك أوضح. بدت تلك الجهة مخصصة لحاجيات منفية الا انه اعتنى بها ولفها بالشاش: دراجات هوائية لعمر خمس سنوات، كرات من نايلون، بركة أطفال منفوخة، كرسي هزاز، حبال أكلها الزمن، أجهزة معطوبة. تمكنا سريعا من تجاهلها لانها مقترنة بالتحسرات وخالية من أنوثتها.

ونحن نفتح الباب خطر لنا إن عثرنا عليه ان نهدئ غضبه بوعد ان نعيد كل النفايات التي عبثنا بها إلى مواضعها الأصلية. صدمنا المنظر. ارتخينا خيبة وشفقة. كان مطبخها بكامل ادواته غير الصالحة للاستعمال. انصاف اقداح وحاويات بهارات مدمرة وملاعق ملتوية وفتاحات علب صدئة ومقال بلا اذرع وسكاكين مخلعة المقابض لا تقدر على خدش خيارة والاوجع من كل هذا انه كان يطبخ في قدورها المثقبة ويأكل في مقعرات شظايا صحونها وقلبه يذوب من حرارة الحب. لقد ضحى بكل أنواع السوائل من اجل ان يكون لشبحها المعظم وجودا سرابيا في مطبخ بيته. كان المكان انيقا وخاليا من غيوم الدهون السود ومجليا في بهاء كما لو انها أحبته هو وليس زوجها واستعملت كل هذا من اجل ان تكون سعادته متسعة كما السماء. وقفنا متلاصقين كي لا نوقظ حلمه. تفرجنا وفي انفونا روائح فواكه سوائل التنظيف التي أضافها مع مذياع صغير لبرامج الصباح النسوية، وعلق لها مريلة أنيقة من قماش مشغول بالكورشيه، وأثث لها ركنا أراده  بأرقى احتمالات التخيل حبا منه لجعلها تجلس على قمة اعتدادها بنفسها كمبتكرة أكلات لا مثيل لها في العالم. في تلك الجهة من المطبخ كانت تلمع صينية كيك على شكل قلب من السليكون الأحمر، وصينية لخبز الكوكيز مقعرة على هيئة أوراق العنب، وأكواب معيارية بصبغة الكرز، وخفاقة بيض كهربائية بلون وردي، وآلة يدوية لتقشير وتقطيع التفاح تنبعث منها نغمات راقصة، وإناء فخاري على شكل توت العليق، وقاعدة بقدمين لكيك حفلات الأطفال، وماسكة للأواني الساخنة على شكل رأس نمر، ووسادة لملاعق الخشب، وساعة طبخ رملية تعزف موسيقى. وبروجيكتور شحن يطلق ألوان طيف تغمر المطبخ مع نسمات تصويرية إذا ما قطعت الكهرباء.
 
تشنجنا وأخذنا ننفعل في التعامل مع نتائج هذا الخطأ الكوني الفادح الذي لم يسمح لهذه المرأة ان تكون لهذا الرجل. تتبعنا انينه على السلم الصاعد إلى السطح وفي الزوايا وفضلنا ان نغلق باب الحمام بعد نظرة حياء قصيرة لانه عذب عريه برغويات فاشلة دون ان يتوصل إلى ماركة الشامبو المفضل لديها. لم نملك الوقت لفك غموض صناديق خشبية مكعبة مقيدة بأحزمة معدنية ومحتفى بها بنبل شديد ولكننا انتشلنا من بين عشرات المغالف المبقعة بالعطور علبة خاتم من مخمل احمر فيه تشجير من اللون نفسه مرفقة به بطاقة بنفسجية مؤطرة بأزواج من طيور الحب كتب عليها: فستقة صغيرة ضائعة ظننتها قشرا فلم تلتقطيها.
 
الأتعس من كل هذا انه كان بلا بيت حقيقي،  بلا أثاث، ولا ملابس منظورة، ولا حاجيات، ولا أشياء شخصية، ولا ذكريات خاصة به وبأيامنا معه، بل يكاد ان يكون بلا نفسه، وليس له آثار أو مخلفات. تمنينا ان نعثر على نفاياته هو. على علبة سجائر أو حتى على جورب ينتسب إليه. لم تكن له حتى رائحة السمكة المملحة التي يتميز بها الأعزب عادة.
 
أصابتنا خاطرة ان يكون مطمورا تحت اكوام الاكياس واثقال الصناديق، وانه ربما تعرض إلى سقطة هيام أو انه انتحر حبا. كان أنينه ينبعث من كل الجهات ويتصاعد من الاكياس بينما قلوبنا معصورة عليه، وأنظارنا تدور بحثا عن اشارة حياته. اتفقنا على ان نتجه إلى الباب الوسطاني. ترددنا، فقد بات من الصعب علينا ان نصدم بشكله وقد صار منتهيا وغائبا في ابدية حبه القاتل. سكت الانين ما ان دخلنا ووجدنا انفسنا وسط غرفة مختنقة الزوايا بسجلات مهيبة الحجم تشبه تلك الموجودة في دوائر الاحوال المدنية. أنّبنا الاسف على اننا لم نكن بجواره، واننا تركناه يجن بها إلى درجة التفتت. توجع كل واحد منا على انفراد ونحن نقرأ يوميات شقاء حبه. كانت السجلات في قسم منها توثيقا اكاديميا لمحتويات 8596 برميل قمامة عمل على تفريغها في بيته قرابة ربع قرن اجلالا للكمال الذي وجدها تتمتع به من دون كل ما خلق الله من بشر. كانت السجلات طبوغرافيا كاملة لسطح وأعماق امرأة درسها بمنتهى التبجيل متوصلا إلى تحليلات واستنتاجات تشبه معاشرة حقيقية. انقطعت همساتنا وعزلتنا مبالغاته عن بعضنا البعض، ونحن نطالع كيف استنتج أمراضها، وأذواقها، ووضع توقيتا منضبطا لدورتها الشهرية من محصلة بحث دام ست سنوات قاس فيها نسبة نضج مأكولاتها، ومعدلات تهاونها الشهري، وظواهر خمول واجباتها.

شدتنا جداول فحوصاته التي لم تفض إلى نتائج ترضيه بشأن طقوس تخلصها من شعر إبطيها وساقيها،   ولا ندري لماذا كان يشير إلى عانتها بكلمة غالكسي. كما لا نعلم ماذا كان يقصد بعبارة بقعة الكابتشينو. ووجدناه، في صفحات مسترخية، يتغزل برفاهيتها، ورقي مشترياتها، وينجح في ان يقدّر، بعد تسع سنوات من ذل العشق، نوع الفيتامينات التي تنقصها، ومن ان يميز تغيبها عن بيتها، وينتهي، بالاعتماد على ما كانت تتناوله من مكسرات إلى وضع نظرية لما تحب وما تكره، حاسبا مرات متعها الزوجية، وحجوم أحزانها العابرة. وكان يدون تعليقات متطرفة متطلعا للعيش إلى يوم ان يتمكن، من خلال سلال مهملاتها، من معرفة بماذا كانت تحاكي نفسها. 
 
لم نستبعد ان تكون تخطيطاته مرسومة بحزن مخنوق، وانه بكى أمام الله كثيرا لان الحظ لم يرحم قلبه، وانها اعتقدت، باستعجال قلق، انها حصلت على رجل مناسب يتزوجها ويفتح لها بيتا بينما هو يكد مثل جرذ، ويتعذب من اجلها في دنيا أخرى، ويتوهج بغرام ما قص تعبها من زوائد الفاصوليا الخضراء دون ان يطمع، من شدة تعظيمه لعينيها، بأمنية ان تقع عليه نظرة غير مقصودة في لمحة خاطفة.

جمعنا الفضول حول سجل خياله الوجداني الذي احتوى على مخططات لطموح ان يعتق نفاياتها السائلة مدة ثلاث سنوات في براميل من خشب السنديان على طريقة الويسكي الاسكتلندي مخترعا  في صفحة معززة بتصاميم بنفسجية اللون، تشبه لوحة لباسل العبيدي، آلة شفط ذكية قادرة على مص مياه صرف حبيبته، طمعا في الامساك بتعزيزات معلوماتية جديدة قد لا تقل نعيما عن لمس غشاء الموسلين الذي يغلف قلبها حيث منجم رغباتها.
 
أخرجنا احدنا ليبحث عن المصدر الأصلي للأنين وبقينا نقلب الصفحات وكلنا اعجاب بما اوصله اليه حبها من تحضر. قرأنا بحوث تطويراته التي ادخلها على تجارب المانية واسبانية وايطالية في كيفية التعامل مع النفايات. وكما لو اننا فتحنا قبرا وطنيا لجندي مجهول الروح والعظام راحت دموعنا تتقاطر تأثرا بسجل مجلد بورق هدايا لماع ومزود بقفل بحجم زهرة برتقال غير متفتحة يضم كل رسائل الـ ( SMS) التي دونتها مكابداته بدءا من خريف عام 2003 تحسبا لفرصة ان يتوصل بتنجيم حسابي إلى رقم هاتفها الجوال. كانت تلك الحروف تئن وتصدر تأوهات منغمة، ووجدناها مؤرخة بتقارير تسليم، ومرسلة بأقصى مدة وبحروف كاملة الدعم مع رسائل بوسائط مرسومة بخط إلهامه، واخرى صوتية حددها بالزمن ليحرق دمنا بفراغها الغامض.

صاحبنا الذي أرسلناه خلف الأنين عاد دائخا وغير قادر على التوازن ويشكو من طنين في اذنيه. خرجنا إلى الحوش ليصدمنا مشهد الديدان التي نبتت من ارضية الطرق التي فتحناها عند رفعنا للاكياس والصناديق. خيل الينا انه يعادينا لاننا ارتكبنا جريمة بحق حبه. تماسكنا ورحنا نزيح المزيد من الاكياس وصولا إلى الباب الأخير.
 
فكرنا باحتمال ألا يكون قادرا على العودة إلينا، وربما لم يعد يذكرنا أو انه يظننا لصوصا، وانه بدلا من ان ينمي موهبة الاحتيالات الذكرية التي عادة ما تستعمل مع الجميلات راح يبدد كل الحب مكتفيا بمتعة وجودها على الأرض. رفعنا الكثير من الحاويات التي تضم تذكارات من الأعياد التي مرت عليها ووجدنا لوحة بحجم متر مربع مؤطرة بخشب مذهب لصق عليها، تحت طبقة من زجاج سميك، نماذج وصولات غير مهمة وفواتير غامضة اعتقد انها لمستها أو انها حررت من اجلها. تمزقت بين ايدينا الكثير من الأكياس التي أهلكها الزمن، وأخذنا نطرق الباب وأصواتنا المتعاطفة ترجوه ان يرشدنا اليه. حلفنا له بمقدساتنا اننا لن نسكت أبدا، واننا سنجلبها اليه بعد ان نجبر زوجها على ان يطلقها، وهددناه ان هو لم يظهر فاننا سنرسل اليها من ياتي بها لترى مقبرة حياتها المدفونة هنا.

كسرنا الباب ودخلنا. كانت الغرفة بنظافة متحف وقد تحاشكت على الأرض مفروشات أقمشة مرتبة على شكل أزهار عباد الشمس وقد أضاف اليها إكسسوارات منسقة بأعلى ذوق. خلعنا أحذيتنا ورحنا نتفرج عن بعد. لم يكن أمامنا الا ان نهدأ ونكف عن البحث عنه. كانت قلوب الأزهار تضم ما أسقطته الأمشاط من شعرها طوال ربع قرن من الجمال. وما استهلكه وجهها من أطقم ماكياج وفرش خدود وظلال عيون وبودرة بأنواعها وزجاجات عطورها وكلبسات شعرها ومقويات أظفارها ومحاليل إزالة الأصباغ ونماذج معطوبة لمجففات كهربائية ومستحضرات لإخفاء العيوب وملمعات شفاه وأصابع حمرة. ورأينا على سجادة مستطيلة قطعا منكمشة لنماذج من حفاظات دورتها الشهرية. وفي ركن بعيد لمحنا على دائرة من حرير احمر بقايا من ملابس داخلية وأزرار متعددة الأحجام والألوان ونصف سوتيان ابيض وضعه على وسادة ذهبية تمجيدا لمفاتنها. 

انسحبنا. تأكدنا مجددا من المساحات الفارغة التي أوجدناها له، ومن ارتباط الأبواب بشبكة المسارات، وأخذنا نسعل ونحن في طريقنا إلى ارض الزقاق. أغلقنا، بضجة مفتعلة، باب الحوش على أنينه البكتيري كي نشعره بأننا مللنا، وتعبنا، وعدنا إلى بيوتنا بوسخنا.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  نزار عبد الستار


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni