... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  في السياسة

   
وطن للغريب

د. حيدر سعيد

تاريخ النشر       21/09/2012 06:00 AM


توطّدت علاقتي بعالم الآثار العراقي، بهنام أبو الصوف، في السنوات الخمس الأخيرة، بعد أن التقيتُه في العاصمة الأردنية، عمّان، التي وجدتُ نفسي فيها، إثر حرب الهويات الدامية، التي عاشتها بلادُنا، ولم أكن طرفاً فيها، وكان يمكن أن تحيلني ضحية لانتماءات قدرية، لم أخترها، ولم أختر الجهادَ من أجلها. وكان هو قد أقام، في سنواته الأخيرة، في المدينة نفسها، تخللتها سنة أو سنتان أقام فيهما في الولايات المتحدة.

أعرف أبو الصوف منذ زمن طويل، فهو نجم، ثقافي وأكاديمي، في العراق والعالم العربي، حين لم أكن سوى قارئ، مبتدئ، غير أنني لم ألتق به إلا في عمّان، فالرجل واحد من أهم علماء الآثار وتأريخ العراق الرافديني القديم، إلى جانب فؤاد سفر، وطه باقر، وفاضل عبد الواحد علي، وآخرين.

لعلّي لا أملك العدّة الكافية لأن أقيّم عملَ أبو الصوف ونتاجَه، غير أنني أعرف (وهذا ما تعلمتُه من خلال علاقتي به) أن التأريخ الرافديني، بالنسبة له، ليس مجرد حقل اهتمام علمي.

بالنسبة لموصلي، يتحدر من عائلة مسيحية، يمثل إحياءُ التأريخ الرافديني، بوصفه مصدرا وأساسا لهوية العراق الحديث، عملا حاسما. إنه اختيار ثقافي وسياسي، يريد أن يمنع هذه البلاد، المعقدة في نسيجها الإثني والديني، من أن تتجه إلى هوية إثنية أو دينية، واحدة، ومحددة. وبإمكان هذا الاختيار أن يضع سائر النقط الحضارية التي مرّت على البلاد على قدم المساواة، سواء كانت يهودية، أو مسيحية، أو مسلمة، سومرية، أو بابلية، أو آشورية، أو أكدية، عربية، أو كردية، أو فارسية، أو تركية، أو رومانية، آرامية، أو نبطية.

وجهُ العراق تشكّل من كل هذا، وقسماتُه تحمل أثرا لكل الخطوط التي عبرت على أرضه، وسمائه، ونهريه.

وإذا كان بإمكان الروايات الأخرى لهوية البلاد، إذا تطرفت (وقد تطرفت كثيرا)، أن تجعل من هذا الموصلي المسيحي، القديم فيها قدم مائها، غريبا، فإن التأريخ الرافديني سيكون أكبر من مجرد حقل دراسي. إنه هوية، ووطن.

ولذلك، كان الجهد الجبّار، الذي بذله أبو الصوف وزملاؤه، للانتقال من مفهوم (تأريخ بلاد ما بين النهرين) إلى (تأريخ العراق الرافديني)، يصبّ في مشروع تأسيس البلاد على تأريخ تعددي، متنوع.

نعم، ثمة من عدّ مشروع ربط هوية العراق بالتأريخ الرافديني عملا إيديولوجيا، وقد تكون بعض التيارات السياسية حاولت أن تؤدلج هذا الربط، غير أنه ـ بالنسبة لمثقف وباحث بقامة أبو الصوف ـ أكبر من الإيديولوجيا وأبعد. إنه اختيار لرواية هوية البلاد، أكثر عدالة، وتسامحا، واعترافا بالآخر والتعدد.

ولكن أبو الصوف مات غريبا، بعيدا عن وطنه، كعشرات مثقفي هذه البلاد الجريحة، وعلمائها، ومفكريها، الذين ألقت بهم السياسة المجنونة في مناف لم يختاروها.

وغدا، سنشيعه إلى وطنه الأبدي، في مقبرة سحاب في ضواحي عمّان.

لا أدري مَن سمّى مقبرةَ السيدة زينب، في ضواحي دمشق، (مقبرةَ الغرباء)، ففيها دُفن الجواهري، ومصطفى جمال الدين، وآخرون.

سيُدفن أبو الصوف في مقبرة غرباء جديدة. ومقابرُ العراقيين الغريبة تتسع، لتكون بحجم الشتات العراقي. ها هي مقبرة سحاب تصبح كمقبرة السيدة زينب، وقد باتت تضم مجموعة من كبار مفكري العراق، وعلمائه، ومبدعيه: إبراهيم السامرائي، وفؤاد التكرلي، وعبد العزيز الدوري، وبهنام أبو الصوف، وآخرين.

غدا، سنشيّع أبو الصوف، وربما سنكتب على شاهدة قبره الكلمات الموجعة نفسها التي كُتبت على شاهدة قبر الجواهري: هنا، وبعيدا عن دجلة الخير، بعيدا عن الموصل، بعيدا عن بلاد الرافدين وسمائها،.. يرقد بهنام أبو الصوف.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  د. حيدر سعيد


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni