... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
د. محسن الموسوي: حان الوقت لفئات المثقفين أن يتعلموا من الشارع

شاكر نوري

تاريخ النشر       21/01/2013 06:00 AM


عُرف الدكتور محسن جاسم الموسوي ولمرحلة ليست قصيرة ناقدا وباحثا أكاديميا واسع الانتشار في المحيط العربي، كما نال جائزة سلطان بن علي العويس في النقد الأدبي عام 2002. وتعد كتبه ودراساته النقدية، في دراسة الرواية وفنونها وكذلك الشعر، سباقة في تحويل مسارات النقد من مراجعات وصفية وعروض إلى ترسيخ لقواعد النقد الروائي. وشكلت كتبه في قراءة «ألف ليلة وليلة» منعطفا في دراسة هذا الأثر. ومنذ أن التحق الدكتور الموسوي أستاذا بجامعة كولومبيا الأميركية في نيويورك، الجامعة التي أقام فيها الراحل إدوارد سعيد تحليل عمله الأكاديمي، ودراساته وكتبه بالإنجليزية تحقق نجاحات مرموقة، ونال أحدها (إسلام الشارع أو إسلام الجمهور) لقب الكتاب الأكاديمي الأكثر تميزا لعام 2010، حسب ما أعلنته مجلة «الاختيار» المعنية بتصنيف الإصدارات المعرفية. وهنا لقاء معه:

* ماذا تضيفه دراسة الأدب العربي في الأكاديميات العالمية والأميركية؟ وما آفاق تجربتك في هذا المجال؟

- عندما قررت التحول إلى الأكاديمية الأميركية، واختارتني جامعة كولومبيا، رأيت الفرصة مناسبة لمتابعة مشاريع التأليف باللغة الإنجليزية. وليس هذا التأليف بطرا، ولكني وجدت ضعفا في القراءة بين العرب بسبب العكوف على ما هو مرئي، والتلفزيون وفضائياته بشكل خاص، كما أن التأليف يشهد حالة ترد: فالتأليف الجاد يستدعي المثابرة والتفكير الحازم، لا اجترار المعروف أو استرجاع القديم. كما أن جمهورا كبيرا من القراء في الأنحاء غير المأزومة لا علاقة له بالفكر والفلسفة أو الثقافة الرصينة أن جمهور الغيبيات آخذ بالتزايد، ويجري تغذيته باستمرار ضمن حملة مدروسة ومبرمجة لجعل هذه الأصقاع مسلوبة الفكر والإرادة. من جانب آخر إن الجمهور الذي عرف بالقراءة الجادة الراعية كان يتمركز في مناطق هي الآن في حالة ارتباك وفوضى وحرب ودمار. التأليف بالإنجليزية يأتي بمثابة حالة من الاضطرار، فأنا أبحث وأكتب الآن بقصد وضع الأدب والثقافة العربية على خارطة الثقافة العالمية.

لدي الآن عشرة مجلدات من دور نشر مبرزة ومرموقة: وهذه الكتب لتتنوع في تناول الثقافة العربية، قديما وحديثها، وهي الآن في متناول الأكاديميين والطلبة الذين يولعون بالأدب العربي وبالثقافة العربية. وهؤلاء في تزايد، وأغلب هذه الكتب صدرت بطبعات سميكة وورقية، مما يعني أنها توفرت للمكتبات التي تحتفظ بالكتب وتيسر تداولها عادة، وللقارئ الذي يبتغي شراءها بسعر أقل. ويمكن أن نقول إن هذه الكتب اكتسبت وتكتسب صيتا حسنا. ونالت مراجعات متميزة، حتى إن «إسلام الشارع أو إسلام الجمهور» نال الحظوة والصدارة، واختير كأفضل كتاب أكاديمي لسنة 2010.

* وهل خرجت من ولعك القديم، (ألف ليلة وليلة)؟

- المأسور بـ«ألف ليلة وليلة» لا يخرج منها: فهي السلوى والتحدي، وهي سلوى لأن الذهن يحتاج إليها قلما أضنته السنوات وأنهكته المتاعب. فقد وجدت ضالتي في البدء عندما أنجزت كتابي الأول «الوقوع في دائرة السحر» الذي ظهر بثلاث طبعات في القاهرة وبيروت وبغداد، وحان وقت ظهوره ثانية. وصدر بالإنجليزية في واشنطن سنة 1981، ثم أردفته بالعربية بـ«مجتمع ألف ليلة وليلة» عن طريق «دار النشر الجامعي التونسي» التابعة لوزارة التعليم العالي. وبالإنجليزية أردفته بكتاب لاحق هو «السياق الإسلامي لألف ليلة وليلة». والآن أعكف على «ألف ليلة وليلة سلعة كونية». فـ«ألف ليلة» تأسرك لأنها تمتلك حذق البساطة الإنسانية البكر، طفولتها التي توارب لتخدع. وهي الملاذ كلما أردت الخروج من مناقشات أكثر جفافا ونكدا. إن جمهورية الأدب في العصر الإسلامي الوسيط تستكمل حلقات ما أنا مزمع عليه في وضع الثقافة العربية في إطار مستكمل الحلقات بين ماضٍ وحاضر: إنها تستحضر عناصر القوة والضعف في هذه القوة، لتضع القارئ أمام رصيد ينبغي أن يألفه ويفهم الظواهر الجديدة وطرائق تأجيج الشارع قديما وحديثا.

* إلى ماذا تعزو الوضع العربي الأكاديمي الذي يشهد انحدارا ملحوظا؟

- ينبغي أن نتذكر أن وضعنا العربي الأكاديمي شهد انحدارا ملحوظا منذ عقود. وفي ظل الظروف المضطربة وتردي الإنفاق على المؤسسات المعرفية والتخلف في إدارة المؤسسات وتهاوي الأنظمة، تردي التعليم وضعف دور الأساتذة أدى إلى انقطاع وشائج المعرفة. وإذا كانت المؤسسات لغاية الخمسينيات تعاني انحسارا طبيعيا يرافق بدء النهضة المعرفية، فإن مجيء الدولة الوطنية وتوزعها في التعليم أوجد أملا خلابا في نفوس العارفين والعلماء والأساتذة، وهو أمل سرعان ما تعرض لانهيارات متباينة جراء القبضة الآيديولوجية (بمواصفاتها ومرجعياتها المختلفة) التي سادت وتعززت على مر السنين. وهكذا نرى أن التعليم العربي، لا سيما في الإنسانيات، انتقل من الترسيخ الفقهي (فيسيولوجي) إلى الوصفي والتاريخي والتحليلي وغاب «التركيبي» تدريجيا، وهو النمط الذي يقترن بـ«فلسفة» المعرفة وتجذيرها ومواجهة مشكلاتها كما هي عليه لا كما يتمناها السياسي أو فقهاء السلاطين، واشتدت ظاهرة الفقه السلطاني وترسخت، حتى أصبحت الآن من مواصفات الانغلاق المعرفي الذي جعلته الفضائيات سمة أساسية من سمات التخلف خلف واجهة وسائل الاتصال الجديدة. كان علماء الأجيال الماضية ينحون باللائمة على «وعاظ السلاطين» كما يسميهم العلامة الراحل الدكتور علي الوردي، وهم الوعاظ الذين لا هم لهم غير تبرير الوضع القائم والإمعان في تجهيل الناس خلف دعاوى باطلة عن المعارف والأديان. ولو راجعنا ما كان يكتبه ابن دقماق المصري وكذلك ابن الأخوة وابن جمعة حول بطلان عمل هؤلاء وزيفه ووقوعه في منظومة «الأعمال الميسورة» والسهلة والمنافع الشخصية لرأينا أن الحلقة النفعية (أي استثمار شغف الناس بالسهل والعادي) تظهر دائما في أيام الفراغ الفكري والمعرفي وتستهدف دائما الغالبية الساذجة، كل ذلك بهدف إبقاء الأمور كما هي عليه. ولهذا لا نستغرب أن تتردى مناهج التربية والتعليم، وتسف مناهج الآداب العربية وتغيب الفلسفة في مناطق كثيرة في الوطن العربي باستثناء المغرب العربي الذي شكلت الفلسفة رصيدا قديما في ركائزه. وتلاحظ محنة التسطيح على غالبية خطيرة من حملة الشهادات الذين ما زالوا يعيشون في راحة بال عجيبة تنم عن ضعف ذهني وغياب الدربة المعرفية والتأسيس الفلسفي، وهذا يمكن أن تعودنا إلى التحولات الكبرى في التأسيس الأكاديمي الأميركي: علينا أن نتذكر أن نهضة التعليم هي التي تقترن بظهور الإمبراطوريات وتزايد قوتها. وغالبا ما يجري الإنفاق الكبير من قبل المؤسسات والأفراد على مخابر المعرفة وسبلها وأدواتها وسوحها، لا سيما في العلوم المختلفة. ولكن، وعلى الرغم من انحسار الدعم للإنسانيات أو لتداخلها العصري بالعلوم الاجتماعية، فإن وجود الإنسانيات في قاعدة التأسيس المعرفي العام، أو ما يسمى في الجامعات بالمفردات الأساس أو الجامعة، جعل هذه قادرة على تعميق الأطر الفلسفية للتفكير، وهي الأطر والمناهج التي تلفظ خارجا كل ما هو سطحي وعادي.

* ما تأثير ذلك على دراسة الأدب العربي؟

- عندما ندرك عمق التأسيس النظري ورسوخه نعرف أن هذا ينسحب ضرورة على الحقول كافة، ومن بينها دراسة الأدب العربي، نحن إذن لم نعد بإزاء المسح المسطح لظواهر الأشياء، ولا بتاريخ بسيط لهذه. هناك أسئلة تحفر داخل ركام معرفي لتندرج أجوبة ما، وهذه الأخيرة ليس نهائية: إنها في حالة ارتعاش دائم لأن اللحظة ليست ثابتة، والثبات يعني الموت والاندثار، وتأتي المنهجيات النظرية والفلسفية لا بمثابة ترديد لمقولات فلان وعلان، ولكن لاصطفاء ما هو قادر على مزاولة المزيد من التنقيب والحفر، فثمة ظاهرة لدى أجيال جديدة تأخذ المقولات وتصفّها صفا وكأنها هي الأخرى عطايا مقدسة يجري توارثها وتوالدها على أنها هبات معرفية تعطي مستخدمها صكوك الغفران المعرفي. ينبغي أن ندرك أن تقدم العرب في نهضتهم بعد عصر التنوير كانت «عقلية» أولا، استخدمها العصر المادي (أي الرأسمالية) في توسعها في المحيط الأقل خطأ ودراية والأكثر تراجعا وتخلفا وضعفا. أما تدفق الإمبراطورية الأميركية في قنوات العولمة فهو تأسيس على تلك «العقلانية» لغرض استنفاذها: وهكذا جرى إعادة توظيفها في اقتصاديات السوق وهي اقتصاديات يجري توطينها بطرائق مختلفة ويضمنه القوة المفرطة. لهذا ينبغي أن ندرك أن الأكاديميات ليست مؤسسات للتجهيل وتبادل الوثائق، بل هي مخابر معرفية، يدرس فيها الأدب كمادة معرفية لها مكوناتها وسياقاتها واحتمالات استقبالها. فهي تفصح عن ماضٍ، لكنها تتحدث مع الحاضر والمستقبل، لا توجد مادة، شعر أو قصة أو مقالة، خالية من الخصوبة أو غير مستقدمة للأسئلة والتنقيب.

* هل بمقدور المنهجيات المستجدة الوقوع على مكنون آخر في الداخل الثقافي العربي؟

- إن محنة الثقافة المعاصرة تتأتى من المحاكاة والتقليد والتماهي مع القدامة من جانب ومسايرة قشور المعرفة الغربية، والأميركية من جانب آخر، علينا أن نتذكر ومن دون مواربة أن العرب لا يطبقون الثقافات الآسيوية ولم يألفوا معها ولم يكلفوا أنفسهم عناء البحث فيما. وعلى الرغم من التباكي على الأسلاف فإن هذا التباكي كذبة مموهة ودجل، إنه التخفي خلف «المحافظة» للمضي في التدليس. إن ثقافتنا المعاصرة في مساحة ليست صغيرة هي ثقافة تدليس. علينا أن نتذكر أيضا أننا توقفنا عن الاحتكاك بالثقافات الآسيوية منذ القرن الخامس عشر عندما بدأنا بالاكتفاء العثماني/ الفارسي وتخليفا عن بقية آسيا. أما محاكاة السلف التي يكثر فقهاء اليوم الحديث عنها فهي خالية من العمق وتعوزها القراءة المدققة. فالجهل بالموروث هو على أوجه اليوم. ولهذا يجري الاجترار على قدم وسائق، ويؤخذ من «تاريخ» السلف ما يتوافق مع رغبة فقهاء السلطة. أما المنهجيات المستجدة فهي واسعة معرفيا بمعنى أنها تستطلع مساحات البحث، لكنها تحفر في حيثيات المعارض وسلالتها وتكشف الزيف والترقيع بيسر أكبر. ولنضرب مثلا على ذلك ما يقوم به باحثون جادون من أمثال المستعرب الألماني توماس باور: فالعصر المملوكي والوسيط غالبا ما ينال الطعن والعداء في أوساط الأكاديميات العربية. وعلى الرغم من الجهد المتفرق للانتصار لثقافة ذلك العصر، لكن الانطباع العام يقوم على مبدأ اعتبار العصر المذكور مرحلة انحطاط وتدهور. ويعتبر «الانحطاط» مأخوذا في المفاهيم الغربية لتاريخ أوروبا عندما جرى إعلاء عصر التنوير مقارنة بما هو ضده، أي العصر الكهنوتي المقترن بسيادة الفكر الكنسي وسلطة النبلاء. أوروبا العصر الوسيط تبدو ظلامية في عيون التنوير بين الذين أخذوا بالفلسفة العقلانية واعتمدوها في قراءة نقيضها أي العصر الأوروبي الوسيط.

أما أغلب الدارسين العرب فقد استمالتهم الفكرة، لا سيما أن سقوط بغداد 1258 يعني بالنسبة لهم انهيار المركز وغياب السلطة. ولا عجب أن يعمد سلاطين المماليك إلى استقدام خليفة من بقايا العائلة العباسية للمراهنة على ديمومة السلطة والخلافة. لكن هذا الطقس كان ميتا منذ البداية لأن الجمهور أثبت سطحية هذا التقليد وبطلانه.

لكن المنهجيات المستجدة في حفريات المعرفة قرأت وتقرأ تلك المرحلة لا من خلال تعلق السياسي بالثقافي، بل من خلال «العامل الثقافي» بصفة مجموعة من الاحتياجات والاستجابات والتراكمات. أي إن غياب المركز لا يعني ضرورة انهيار التراكم المعرفي الذي أخذ مجموعة من التأصيلات والإضافات وشيد فوقها أو عبرها قراءات مهمة وإنجازات معرفية وثقافية ليست اعتيادية وفي مشروعي الجديد المعنون «جمهورية الأدب في العصر الإسلامي الوسيط» استبدلت المنطق السياسي الهرمي بآخر بديل حيث تتشكل «الجمهورية» من العارفين سلعة وعطاءً وهبة في آن واحد مع جمهور القراء، آخذين بتلابيب بعضهم البعض أو متحاورين معهم في كتب ما كان لها أن تثمر وتستدعي غيرها إضافة وتكريسا وشرحا وإيضاحا وإيجازا وردا ومعاكسة لولا وجود هذه «الجمهورية» أو الفضاء النقاشي الذي استمر على الرغم من الظروف المضطربة وكثرة الحروب الخلافات المنهجيات المستجدة تعيد ترميم ذاكرة درجت على أن تستهوي الانهيار وتستسيغ أعباء الخذلان والفشل.

* كيف تربط بين الحداثة والسلوك والمعرفة؟

- كانت «الحداثة» و«القدامة» تتصارعان كمنطلقين يتغيران باستمرار ويتبادلان المواقع ضمن جدلية الثبات والتحول كما ذهب إلى ذلك أدونيس. هذه الظاهرة قائمة في الثقافات. ولكن علينا دائما أن نسأل عن مواضع القوة والنفوذ في المجتمعات. فنحن كعرب كنا نزاول لعبة «الحداثة» بينما نقبع خلف «القدامة» سلوكا؛ أو نتبادل دور القدامة ونزاول الحداثة. هذه الازدواجية سحرت علماء الاجتماع. وسعى الدكتور علي الوردي إلى وضعها في منظومات الحضارة والبداوة كما فعل ابن خلدون، ويمكن أن يكون هذا الأمر إشكاليا فعلا، لكنه لا يقدر علاجا أو تأويلا للظواهر المختلفة. وعندما جاءت الدولة الحديثة في ظل الظاهرة الغربية، أو كأحد إفرازات الحروب الكونية والتوسع الاستعماري لم تألف النخب أهمية التحاور الجاد والمخلص مع الغالبية التي ألفت طقوس الموروث وعايشته جيلا بعد آخر. وهكذا ضاعت النخب في التنقيب عن ترقيع هنا أو هناك وهي تسقط معرفة على أخرى ومنهجية مغايرة على وضع مختلف. بينما كانت الإيديولوجية الشمولية تعبد تأليف النظريات وتسقطها على واقع عربي يستدعي تمعنا في تكويناته الاجتماعية والعرقية والدينية لا التفافا عليها عبر الشعارات الفوقية. ولهذا سرعان ما تساقطت هذه «الشمولية» أمام ضغوط الواقع. وحتى إذا سلمنا بحقيقة «العولمة» كالظاهرة العنف والإفراز الأقوى للمرحلة الأخيرة من اقتصاديات السوق (الاقتصاد الحر)، فإن ذلك لا ينفي الاعتراف بأن الأيديولوجية الشمولية أخفضت في أحسن مواقعها، أي ألمانيا النازية وروسيا الاشتراكية. إذن حان الوقت لفئات المثقفين والمتعلمين أن يتعلموا من الشارع حتى وإن تورط الشارع العربي في فقه العولمة المسلح وطغيانها الإعلامي. إن لكل ظاهرة مهما بدت جامعة وكاسحة نقطة خذلان وضعف، هذا ما تقوله منهجيات ما بعد البنيوية. وهذه المنهجيات هي الأخرى مسكونة بعدم الاستقرار والثبات وهوس فائدتها وإخفاقها أيضا. إنها لا تدعي الأحقية، ولا تريد التلكؤ عند أعتاب المدح. إنها منهجيات تستضيف التغيير لتضمن الاستمرار. فمتى ما تحولت إلى معاير ثابتة أو منظومات نهائية انغلقت وهرمت واندثرت. العالم اليوم في حالة ارتعاش آسر، لكنه محكوم بمواقع النفوذ التي تستخدم ما لديها من طاقات لإعادة توجيه المعتقدات والأفكار ومعها الثروات والشعوب بما يخدم مصالحها. ويمكن لاقتصاديات الهامش أن تكون ذيلا تابعا أو سوقا استهلاكية لكنها تبقى كذلك من دون قدرات فعلية ولا إمكانات معرفية مادامت قد ارتضت بالذيلية.

* ولكن ظهرت كتابات عربية حافلة بطرح المواضيع الإشكالية في الثقافة العربية؟

- نعم، هذا صحيح، نحن بصدد مناهج القراء، ومدى اقتران ذلك بالمحاكاة والنقل من جانب والأخذ السلبي من الثقافات الأخرى، من جانب آخر أما على صعيد صناعة المعرفة فهناك اتجاهات توضع تحت مفهوم «المتحول» الأدونيسي، كما يسميها عزيز السيد جاسم في كتابه تحت هذا العنوان «ديالكتيك العلاقة المعقدة بين المعجز والعقلاني» - عن «دار النهار» 1981. وتوضع كتابات الطيب تزيني ومحمد عابد الجابري ومحمد جابر الأنصاري وآخرين تحت هذا المفهوم وكذلك الكتابات «الإبداعية» منذ نضج مفهوم الحداثة العشرية والأدبية. وكما تلمس «المعجز» أي الفضاءات الصوفية، والعقلاني، أي الجدل الفلسفي، مهما في ميدان الحفر الواعي في الرصيد المعرفي العربي، وهو رصيد غزير يستدعي من الدراس والناقد إعادة قراءة وتركيب في انساق سلالية تتيح تبين معالم النفوذ والسطوة، وكذلك الرد والمقاومة والبناء هذه ثقافة واسعة تمتد خارج الرقعة العربية. علينا أن نتذكر أن المشاركين الكبار في صنع ما نسميه بالثقافة الإسلامية ممن كتبوا العربية كانوا من الكثرة والعمق ما يبعث عن الدهشة هؤلاء كانوا يقيمون في خراسان وخوارزم، لكنهم كانوا يلمون بالمكتوب في بغداد والقاهرة وحلب مثلا. وعليك مطالعة «المفتاح» للسكاكي مثلا لترى أن «تلخيص» القزويني و«إيضاحه» قادا إلى عشرات الكتب التي ملأت أصقاع وعواصم الممالك الإسلامية مثلا. بينما كانت «بردة» البوصيري توحي بشيء فريد لصفي الدين الحلي الذي يعزز بديعيته برديف بلاغي يثير دارسين وشعراء آخرين فيكتبون ما يماثل البديعية وشرحها. وعندما نرى أن هذه الموجات الكتابية تتجاوز رقعة جغرافية معينة ندرك أن الثقافة أوسع بكثير من رقعتها. ولا يمكن أن يقال إن هذه مجرد ظواهر ساذجة وسطحية أو إسقاطات عصر مظلم. ما الذي نقوله عن الفلسفة التي لم تتوقف عند ابن رشد وإنما أخذت مسارات أخرى في ممالك غير عربية؟ نحن بحاجة إلى تمعن أكثر في الماضي، كما أننا بحاجة إلى وعي أكثر بالحلقات المترابطة بين فلتات النهضة الأولى والمسعي الحثيث لرواد النهضة التالية منذ الخمسينيات: فالقصيدة والرواية والمسرحية التي ظهرت منذ ذلك الحين لم تكن أرضا بورا، وفيها رصيد قد لا يعيبه صاحبها. وحتى في حالات من القصائد التي تبدو اعتيادية كقصيدة البياتي «على قبر السياب» نرى أنها تفصح عن قلق البياتي من رفيقه في حركة الحداثة الشعرية، كما ذكرت ذلك في دراستي للشعر العربي (بالإنجليزية) سنة 2006، كما أن ما يبدو قناعا شعريا كقصائد أدونيس في «مهيار الدمشقي» ليس كذلك ما دام الشاعر يعي أولا أنه يريد تضليل القارئ ونفسه أيضا خلف ما يبدو قناعا. وما يبدو قناعا لا يعدو أن يكون تسفيها للأقنعة الشعرية. وكذلك حال الرواية منذ أن التبست بالقصة القصيرة عند رائدها الأقوى يوسف إدريس ومريديه من أمثال عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي وزكريا ثامر قبل أن يأتي جيل لاحق ينقل المزاولة الإبداعية خارج المعضلة النفسية وازدواجية الذات أو انفصامها نحو المؤسسة والدولة التي تعاني من هذا الانفصام. هكذا كان جيل القاصين والشعراء المثابرين الذي تكاثروا منذ نهاية الستينيات. ويمكن أن تقترن اللحظة الإشكالية بهذا التقاطع والالتقاء بين الحداثيين الأول أو النهضويين وبين المتمردين التالين لهم الذين وجدوا أنفسهم أمام مصائد المؤسسة التي ظنوا أنها يمكن أن تكون بمنأى عن الفساد. إن «الإشكالية» ليست هبة من أحد، كما أنها ليست سلعة يتصيدها المرء بين القراءات والكتب، إنها مواجهة صارمة بين وعي المثقف والأمر الواقع. إنها تلك التي أربكت التوحيدي في يوم من الأيام وجعلته يعلن غربته دون ادعاء بجدوى البحث عن خلاص.

* هل تجد المثقفين العرب غرباء عن ذواتهم وأمام محنة في العصر الحالي؟

- لا تخص «المحنة» العرب لوحدهم، لكنهم سيعانون الأكثر بسبب التفاوتات التي تزداد حدة بين المنتفعين في «طفيلية» السوق، أي السوق الاستهلاكية التي لا دور لها غير الإنفاق وتشجيعه، وبين الغالبية الكبرى من الجمهور ومع تعاظم تبعية الاقتصاديات الطفيلية للرأسمال العالمي في ظل العولمة ووسائل اتصالها عبر الفضائيات الأكبر، تتعاظم مشكلات الثقافة العربية، لا سيما مشكلة اللغة العربية التي تجيء في قاعة اللغات المعرضة للاضمحلال. علينا أن نلاحظ أن تقرير اليونيسكو في هذا المجال ليس لهوا. ويكفي أن نشير إلى أن البلدان الأكثر ثراء والتابعة تماما للرأسمال العالمي تجد في أقسام تدريس الأدب العربي عبئا لعدم وجود طلب على خريجي هذه الأقسام. وبدل التساؤل في هيكلية التعليم وتوسيع قاعدة تعليم العربية على شيء المستويات وتعزيز ثقافة اليافعين والأطفال، يجري البحث عن حل فوقي لمثل هذه المشكلة. أما في البلدان الأفقر أو الأقل كفاءة أو تلك الساقطة في مدار الفوضى عبر الاحتلال العسكري ومثيله الاقتصادي فإنها تنحدر تدريجيا في ظلامية حظيرة من الجمل والخرافة وتضليل العامة. وما يجري في العراق مثلا يعطي مثالا لمعنى التجميل المبرمج عبر اللعب على عواطف الناس ومعتقداتهم المكبوتة فأكثر من ستة أشهر تضيع على الاحتفالات الدينية وغيرها في الرشاوى والفوضى وتبادل الثراء الفاحش بين الفئات الطفيلية التي أفرزها الاحتلال الأميركي. ويراد منها أن تحول البلاد إلى مثيلاتها في جنوب شرقي آسيا، مجرد أسواق ضعيفة - لمجتمعات آفلة عاجزة تنتظر الموت أو تجاهد من أجل البقاء. وهكذا نرى أن المنطقة تخلت وتتخلى عن طموحها أيام الاستقلال الأولى، وهي تدرج الآن على ترقيع حياة باهته غير فاعلة، لا وزن لها ولا أثر.

* كيف ترى الإبداع الروائي العربي في الوقت الحاضر؟

- ظهرت أصوات روائية حديثة متميزة أمثال يوسف زيدان ومحمد الأشعري ورجاء عالم وعبده جبير وربيع جابر وغيرهم. لكن هذه الروايات المكتوبة بلغة متميزة ترفع من قدر العربية بعد أنماطها عبر الفضائيات، لكنها مشحونة بالمحنة والإجهاد هي الأخرى. ترى أن رجاء عالم في «طوق الحمامة» ومحمد الأشعري في «القوس والفراشة» مثلا يضطران إلى تمثل الوعي الباطن المذعور من «التطرف» لكنهما لا يبذلان جهدا لتعميق علاقة التطرف بالطفيليات المتكاثرة التي تتغذى على الرأسمال العالمي. فـ«التطرف» ليس ظاهرة دينية، وإنما ظاهرة سياسية تقترن اقترانا شديدا بالصراع الدائر حول المنطقة وثرواتها.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  شاكر نوري


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni