... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  قصة قصيرة

   
ساعة الحائط

يحيى الشيخ

تاريخ النشر       12/02/2014 06:00 AM


   قضيت اليوم الأول معه في الحديث عن سفره وإقامته الجديدة، عن المدينة، والناس فيها... وحياته هناك. حكى لي أنه قضاها تائهاً، مضطرباً:

    ــ إني أختنق كلما عصى عليّ تذكر أمر ما. ينتابني شعور حي وعميق بأني أموت، يتضاعف مع كل جهد للتذكر. كل شيء أخذ يهرب مني، يتبدد، وأنا أتبدد معه.

 تحولت الأماكن، المصاعد الكهربائية، والطائرات، والقطارات، والغرف إلى قبور ضيقة لا يطيقها؛ فيهرب بكل إرادته العليلة إلى خارجها، إلى الفراغ.

   ــ الهرب حيلتي الوحيدة التي أجيدها. بي رغبة للمغادرة إلى الأبد.

عقله انتقم منه بهذه الطريقة، حالما قرر الهجرة. هو يدرك أن عقاباً ما قد حلّ به: عليه أن يتذكر كل شيء، وأن لا يهمل ماضيه الذي توقف عن المضي أبعد من سبعين عاما، فما تبقى منه لا يعني غير عادة حياة. كان عليه أن لا يغامر بنفسه، أن يتوقف، أن يلتفت، أو يعود أدراجه. لكنه فضل سماع نصيحة الطبيب، وأخذ يتناول حبة دواء، يوميا، تُلقي به خارج الزمان والمكان.

   حكى لي كم كان يؤنسه المشي لوحده. يستدرج الذكريات مع كل خطوة بسلاسة، بلا عنت؛ فيستعيد كينونته، ويمسك أبعادها. يخرج من بيته، يذهب في خط مستقيم إلى نهاية الشارع بمحاذاة الجدران، يعبر شوارع أخرى، ويعود على نفس الطريق بخط مستقيم. لا ينعطف، ولا يجنح نحو طرقات فرعية. إنه يخشى المنعطفات. فهي غادرة يكمن خلفها التيه. اليمين واليسار لم تعد اتجاهات دقيقة يثق بها. قال:

    ــ دختُ! حياتي انعطفت بدرجة حادة.

*****

    أخذتُ أطيل زياراتي، والمبيت لديه ليوم أو يومين. تماما مثل أذرع أخطبوط تمتد الأشياء في بيته. كان يصعب عليّ الحركة دون أن أسقط شيئاً في طريقي. أصص أزهار بلاستيكية تزدحم في كل مكان؛ في زوايا الغرف، على الطاولات الصغيرة في غرفة الضيوف، في زوايا المطبخ، على طاولة الأكل، تحت الرفوف وفوقها، في الحمامات فوق المغاسل. على الحيطان تلتصق أزهار بلاستيكية من كل الأصناف، والألوان، ذات أوراق صلبة براقة بلا رائحة. في الشرفة عشرات منها في أصص كبيرة تتشمس في العراء تغيّر لونها. شجرة صغيرة لا مثل لها في الطبيعة، تستند إلى قاعدة معدنية، تحمل فاكهة كروية، مطلية بلون فضي، تخيم فوق الهاتف، وتغطيه. طاولة الطعام الصغيرة في المطبخ احتلتها القناني، وعلب مليئة بالأقلام، وقصاصات ورق مطوية، وأشرطة ربط، وقراصات، وعلب أدوية فارغة، وعلب كبريت، وأكياس مساحيق تذاب بالماء: كاكاو بالحليب، قهوة بالحليب، زعتر وزنجبيل... لم يبق على الطاولة الضيقة مكان لغير طبق أو طبقين. الستائر مسدلة على شبابيك مغلقة، وستائر الخشب مسدلة خارجها. نافذة واحدة تفضي إلى الشرفة تغطيها ستارة شفافة تطرزها أزهار وردية كبيرة جداً.لا فراغ في البيت، لا هواء. سألته:

ــ ما حاجتك لكل هذه الأزهار الميتة؟

ــ لا شأن لي فيها... إنها خيارات زوجتي. يغريها أن تملأ كل فراغ في محيطها.

*****

    سمعت، خلفي، تغريد طائر مرتين أو ثلاث. لم يكن حقيقياً. إنه تسجيل سيئ لصوت طائر.

ــ هذا تلفونك يغرّد؟

دار وجهه صوب الحائط:

ــ لا... إنها الساعة.

   التفتُ إلى ساعة دائرية معلقة، تحيطها، بلا نسق، صور الأبناء، والأحفاد، والزوج في أعمار مختلفة، في وضعيات عائلية حميمية، وابتسامات تقول: كم نحن سعداء هذه اللحظة. الساعة تزينها، بدل الأرقام، صور طيور انتخبت من كل غابة في الأرض. سألت نفسي؛ إن كانت أماكنها، التي وضعت فيها بدل الأرقام، تتعلق بطبيعة حياتها. البومة في مكان الساعة الثانية عشرة، تنعق في منتصف النهار، وفي منتصف الليل. البطة الكندية بدل الخامسة. نقّار الخشب في الساعة الرابعة. ببغاء أحمر يسمونه "الكردينال الشمالي" في الساعة الثالثة. وطائر يشبه الهدهد أسمه "ملك صيد السمك" في مكان التاسعة. قلت له:

   ــ لم أكن أعرف اهتمامك بالطيور.

   ــ العائلة متعلقة بهذه الساعة. تنقلت معنا من بلد إلى آخر بعناية فائقة، مقمّطة بالملابس كأنها رضيع.

 كانت عقارب الساعة تشير إلى الخامسة، فغرّدت البطة الكندية. التفتَ إليَّ بنظرة يملؤها اليقين وقال:

  ــ سمعتْ! إنها البطة الكندية. يعني أنها الخامسة.

لم يعد ينظر إلى الساعة. يكفيه سماع تغريد طير من طيورها فيعرف الوقت. يعرف مكان الطيور في دائرة الساعة المؤطرة بالذهب، مكانها في دائرة زمانه المفتوحة على كل الأصوات، والأصداء، والمصادفات.

قلت له:

 ــ لكنها الساعة السابعة الآن! طيورك تأخرت ساعتين عن موعدها.

 ــ طيوري تغرد في الماضي... لكنه ماض قريب على أية حال. سأصلحها وأحتاج إلى مِفَك.

غادرته، وسمعت المفاتيح تدور في الأقفال. عند الباب همس لي قريني:

ــ سيخرّب الساعة بلا شك.

قلت:

ــ تخيل أنه يفتحها ويربط أسلاكها خطأً، فتأخذ البومة تنعق بدلا من ملك صيد السمك، والبلبل الأمريكي يغرد بدلا من البطة الكندية، والليل يصبح نهاراً، وتختلط المواعيد.

أضاف قريني:

ــ أو تفر الطيور من إطار الساعة، تطير، تحلق في الغرف، تحط على رأسه وكتفيه وتغرد في جوقة يقودها، يؤشر لها بعكازه، وهو يتجول في أرجاء البيت. ربما يغويه الحال ويخرج إلى الشارع، فتهبط طيور السماء تغرّد معه.

ــ لا قيمة لأرقام الساعة، ما دامت الطيور تغرد وتوقظ إحساسه بالزمن.

ــ لكن هذا زمنٌ افتراضيٌ، وليس الزمن المتفق عليه.

 لم يعد صاحبنا يتفق مع قضية... فما بالك إذا كانت الزمن، زمنه هو.

*****

   حملتُ قنينة خمر يفضله، وبعض الأطعمة الجاهزة، وزرته مساءً. كانت الساعة مبطوحة على طاولة الطعام. سقط نظري عليها مقلوبة على وجهها. أدركَ أني على وشك السؤال بشأنها، قال:

ــ فَتَحتُها... كانت الأسلاك مربوطة خلاف نظامها؛ أسلاك عقاربها لم تكن تتفق وأسلاك الطيور. إتفاقها ضروري لنظام الوقت.

بسبابه غليظة، قصيرة، شَعْراء، أشار إلى مجموعة أسلاك دقيقة جداً، وواصل شرحه:

ــ هي هكذا؛  إثنتا عشر سلكاً، لكل ساعة سلكها الخاص، يقابلها إثنتا عشر، واحدٌ لكل طائر. في الساعة الواحدة "الخدّاع"، وفي الثانية "القرقب"، وفي الساعة الثالثة "الكردنال الشمالي"، وفي الرابعة "نقار الخشب"، وفي الخامسة تأتي "البطة الكندية"، وطائر "النمنمة" في الساعة السادسة...

شغلني قريني عن مواصلة الإستماع لشروحات صاحبي، وسألني:

ــ أي طائر منها يحب؟

ــ أعتقد النمنمة، فهو آذان يقظته في السادسة صباحاً، وآذان قراراته الليلية.

عدتُ أسمع الشرح، وكان قد وصل إلى نهايتة:

ــ في الساعة الثانية عشر تجثم البومة القرناء على سمت الساعة.

بكلتي يديه، بحرص شديد رفعها إلى مكانها وعلقها. سألته:

 ــ هل لديك خارطة توضح ارتباطاتها؟

ــ لا، اجتهدت فيها.

همس لي قريني،

ــ قلت لك إنه سيخرّبها! لا أعتقد أنها ستغرّد بعد اليوم.

*****

   لا أبواب للحديث معه، ولا جسور. ندخل موضوعاً، ونخرج منه إلى موضوع آخر. لا أعاني معه من سوء فهم أو قصور معرفة. لا يقطع كلامنا غير "لا أدري"، التي يكررها بإصرار عندما يفتح المستقبل ذراعيه للمشاريع والتوقعات، أو يقطعه بأغنية ذكَرته بها كلمة وردت في حديثنا. لطالما يدثرنا وجوم، يطوينا على أنفسنا، وكأننا نكتشف عرّينا على حين غرة. قال:

ــ قررت إغلاق حياتي بالشمع الأحمر.

ــ من أين لك بالختم الملكي؟

ــ أختمها بحذائي، فله نقش بارز ومميز.

وقلب لي حذاءه.

طيلة الوقت لم أسمع طيراً يغرد. مضت ساعات المساء، والليل، ومستهل الصباح. إلتفتُ اليها، وسألت:

ــ ما بالها؟

ــ أطلقتُ سراحها.

همس قريني:

ــ يا خيبتي! لقد أطلق سراح عقله. إعرض عليه تصليحها.

عرضت عليه فكرتي لتصليح الساعة. وأنا أشرح له ما خمنته في مشكلتها، قاطعني:

ــ لا أحد غيري يعرف خطوطها. إنها تشبه أعصابي، لها ارتباطاتها السرية.

قام بجدية، منحنياً، وكأنه مقبلٌ على رفع قبة السماء على كاهله. أنزل الساعة من مكانها، بطحها على الطاولة، فك غطاءها، وأخرج أحشاءها. ذهبتُ للمطبخ، أكثر من مرة، أنقل الكؤوس والطعام. غسلت الصحون، ورتبتها، ومسحت الطاولة،. كان قد أنجز عمله، وأغلق غطاء الساعة، وأعادها إلى مكانها.

   ودعته. قبل أن يغلق الباب ورائي، أطلقتْ الطيور تغريدها واحداً بعد الآخر، بنظام دقيق. قطعتْ دورة إثنتي عشر ساعة بسرعة، ولباقة، واعتدال. اختزلتْ اليوم بلحظات. كانت فرصة لقريني، فصاح عالياً من خلف الباب:

ــ دعها تغرّد إلى الأبد!

 14 ديسمبر 2013


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  يحيى الشيخ


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni