... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
رواية أحمد سعداوي "فرانكشتاين في بغداد": فانتازيا سردية وسط غابة من الجثث

هاشم شفيق

تاريخ النشر       09/11/2014 06:00 AM


لفرادتها الفنية وعمق محتواها ولخصيصتها الإنسانية المتميزة، نالت رواية «فرانكشتاين في بغداد»، للروائي العراقي الشاب أحمد سعداوي، جائزة «البوكر» العالمية بنسختها العربية بطبعتها التاسعة 2014.
تقوم الرواية على ثيمة أساسية عمادها الجريمة والقتل والدم المسفوح دون وازع من ضمير، ودون أدنى شعور إنساني بسقوط الضحايا والأبرياء والفقراء والمستطرقين وعابري السبيل،والعمال والأطفال والشيوخ والنساء، وأطياف الشعب العراقي كافة الذين يسقطون شهداء في غابة شرسة يديرها العنف والإجرام المنظم والعقل الإرهابي الذي يقتل لغايات ومذاهب شتى،في عراق يتمزق ويتآكل أمام الجميع، وخاصة شعبه الذي لا يعرف كيف يلملم جراحه ومزق ضحاياه من وسط الشوارع والساحات والأماكن العامة.
ثمة شخص يظهر وسط هذا الدم البريء المهدور، ووسط غابة الجثث المتساقطة كل يوم بشتى الوسائل، أبسطها وأبرزها هو تفخيخ الجسد الآدمي، وتلغيم سيارة بالمتفجرات، أو ارتداء حزام ناسف ليتم التفجير بعد ذلك وسط حشد من الناس المسالمين والأبرياء الباحثين عن حياتهم وتفاصيلها اليومية في بلد كبير وواسع مثل العراق.
وسط هذا الظلام يظهر بطل الرواية الذي لا اسم له، ولكنه يسمى «الشسمه»، وهو مصنوع من قبل رجل يبيع الخردة، تواتيه الفكرة وهو يجمع المهملات والعتائق والمنسيات من الأدوات المنزلية وغيرها، فكرة ان يجمع الأشلاء البشرية التي خلفتها الانفجارات والسيارت المفخخة في شتاء 2005 في بغداد، يجمعها ليصنع نموذجه الآخر، وهو يدور في احيائها، خصوصاً في مركزها، حيث الباب الشرقي ومنطقة السعدون وشارع أبي نواس، ومنطقة البتاويين والكرادة وساحة الطيران، في مربع يغصّ بالفقراء والمتعبين والمشرّدين، ويعجّ بالإثنيات والمذاهب ومختلف الديانات التي تسكنها، وخصوصاً منطقة البتاويين وما جاورها، مثل القصر الأبيض، حيث يسكنها منذ زمن بعيد العديد من المسيحيين والأرمن، وفيما سبق اليهود. جامع القطع وبائعها، وهو أحد أبطال الرواية الرئيسيين، يدعى «هادي العتاك»، أي بائع الأشياء العتيقة. العتاك هذا هو من يصنع «فرانكشتاين» من القطع الممزقة من أجساد الضحايا، حيث عمد كخالق أو كفنان عصامي، إلى ابتكار صنيعته هذا، فسعى بوعيه الساذج والبسيط إلى تركيبه، قطعة قطعة.. رأس من هنا، رقبة من هناك، بدن من هذا، يد وقدم من ذاك، أوعين وجبين وخد ولسان وأسنان، يضيف لها القلب أيضاً والشرايين والروح ان وجدتْ، وكل ما يخلفه الجسد المتفجر من اشلاء بشرية ليركبها ويخيّطها من أعضاء منسية ومتروكة من أجساد هؤلاء الممزقين المرميين والمنسيين في الأزقة والزوايا المظلمة، وبين الخرائب والأوحال والجدران والبيوت المتهدمة، جراء التفجير الذي يقوم به أشخاص مجهولون في الغالب، لا يِرون، ولا تستطيع حتى أجهزة الدولة إلقاء القبض عليهم إلا في حالات نادرة، حين يفشل مشروع القتل والتفجير نتيجة خلل ما، وحتى لو تم العثور على الفاعل فانه يظهر بمظهر انسان مغلوب عليه، مشترى من قبل هرم من القتلة والمجرمين الكبار والمرتزقة الذين يعيثون في البلاد تفجيراً وقتلاً وتنكيلاً، طاعناً في حياة البشر العادية واليومية.
الشخصيات في الرواية، كلها تقريباً، تتمتع بدور أساسي..شخصيات غير مهمّشة،أو ثانوية، بل الكل يشترك في تقاسم الأدوار والظهور، بدءاً بالراوي، والمؤلف والبطل شبه الرئيسي، أعني محمود الصحافي الذي يتمتع بقدْر من الحركة والظهور والتميز في سياق الرواية وتفاصيلها الكثيرة المتداخلة. تميز يجعله من خلال الموقع الذي يشغله ينافس «هادي العتاك» صانع الشخصية الثائرة والمنتقمة لدماء الضحايا على دوره وظهوره، وينافس حتى القاتل الصنيعة، والمنتقم نفسه الذي هو»فرانكشتاين»، فهو من يطلق عليه هذا اللقب عبر مقاله الصحافي الذي يعدّ سبقاً صحافياً لمجلة «الحقيقة» الذي نشره فيها، وأحدث دوياً في الدولة ومؤسساتها الأمنية والمخابراتية «دائرة المتابعة والتعقيب»على سبيل المثال. أما البعد الزماني للرواية فإنه لا يتعدى العشر سنوات، وهي السنوات التي تلت التغيير في العراق، وجاءت بالاحتلال وأدواته ممن يحكمون العراق حتى كتابة هذه السطور.
من هنا جاءت التفاصيل الزمنية، وهي كثيرة لا تحصى، جاءت متساوقة مع البعد المكاني الذي حفلت به الرواية، وهي تتمدد على مساحة سبعة عشر فصلاً، هذه الفصول التي حفلت بالإثارة المشهدية وعناصر التشويق التي مَتَحَتْ من تقنيات الفن السينمائي الكثير، اللقطة الباهرة، الصادمة والمحفّزة للأفكار، من أجل إعمال الذهن والتفكير بالصيغة المرسومة للشخصيات جميعاً وهم يتحركون ويتحرقون إلى كشف مصير الآخر المنزوي والمبتعد والقابع في أمكنة الخطر ودائرة الشبهات والإجرام، مثل سكن كتائب السحرة والجن في مبنى قديم في منطقة الدورة، حيث عاشت هذه المنطقة في ظل الاصطراع الإثني والمذهبي، صراعاً دموياً، مما جعل من بيوتاتها المهجورة مرتعا للفئات الضالة والمتحاربة والمتنابزة، وخصوصاً في أزمنة الحرب الأهلية التي اندلعت في عامي 2006 و2007، وكان الناس العاديون والأبرياء وقودها الدائم، خطف وقتل على الهوية والاسم والمكان.لقد أصبح المكان ذاته عبئا على الانسان العراقي لا يعرف أين يسكن، فالجهات كلها أصبحت موسومة بعلامة القتل والكراهية والبغضاء.
في هذا الحيز المكاني الذي يتقاسمه زمن الحرب الأهلية تفاعل البعد الفننازي وخياله ليدير هذه التجربة المريرة داخل النسيج الشبكي للرواية، وينقذها من البنية السطحية التي تشيع في الأعمال البوليسية. انها الفننازيا الشاعرية، القادرة على التلاعب بالمشاعر والأحاسيس والرؤى لدى المتلقي وهو يتابع حركة كتائب الجنالتي تدعم وتؤيد القاتل «فرانكشتاين»الذي يجوب ليل بغداد ونواحيها الشعبية، ساكناً الخرائب، قاطعاً الشوارع والحارات، وقافزاً على الجدران وأسطح البيوت، هذا الذي لا يموت بإطلاق الرصاص عليه، كونه كائناً قادراً على النجاة وتبديل ما فقده جسده من قطع غيار من جثث أخرى تسقط، يأخذها ليثأر لها، ولكنه حالما يثأر لشخص ما يسقط عضو أو جزء من الشخصية القاتلة «فرانكشتاين»، مما يجعل من مهمته ان تكون مستحيلة، لأن القتل سيكون من أجل القتل ليس إلا، والمهمة ستكون مجرد عبث في الدم والولوغ في المزيد منه، لأن الضحايا سيسقطون وهو سيظل يطارد أرواحهم لغاية رأب وترميم ما فقده جسده في حالة الثأر، إذ ستصبح القضية حينها مجرد قتل وثأر، في مشهد طويل من الموت اللانهائي. إلى جانب المؤازرين من شذاذ الآفاق، المنحازين للمجرم الخطير وأفعاله وهدفه الذي يرون فيه عملاً إنسانياً، هنالك الانتقام من المجرمين الاصليين الذين لا تستطيع الحكومة والدولة ملاحقتهم وأخذ القصاص العادل منهم. يظهر في الجانب الحكومي الخيال الفنتازي ذاته حيث «دائرة المتابعة والتعقيب»هي الأخرى تستعين بأشخاص من الفلكيين والمنجمين والسحرة، في محاولة منها لتحديد مكان القاتل ومكان الجريمة، حتى لو كانت سيارة مفخخة من قبل مجرمين آخرين غير المجرم الكبير والخطير. ثمة سوريالية شعرية تبرز من خلال تصرف هؤلاء اثناء عملهم، فهناك صراع دائم حول العمل وتحديد مكان القاتل والمجرم، صراع يدور بين المنجم الأكبر والأوسط والأصغر، تآمر ودس وتلغيز، محاكياً بذلك، أي الروائي وكاتب العمل أحمد سعداوي، وغامزاً من قناة الجو العام الدائر في دائرة السلطة العراقية واصطراعها على السلطة والمقدرات وشؤون البلاد المحترقة والمحتلة.
إنها الرؤية الفنتازية الجميلة والمضحكة والدامية أيضا، تبرز مجدداً، في جو تسود فيه لغة الدم والكاتم وتفجير الأماكن العامة وقتل من يهوى القاتل قتله،هكذا في الظلام أو في وضح النهار تمتد يد الموت لتختطف من تشاء وتريد، وهي قادرة على المطاولة والتهديد والفعل في مناخ موتور من البغضاء والشحناء والإقصاء المتبادل بين اطياف المجتمع العراقي.
شخصيات عديدة تمر في الرواية وتترك آثارها وتساؤلاتها الوجودية وانفاسها في كل زاوية ومكان مرّت به، قُدّمَتْ في الرواية كمعادل جوهري لشعب كامل،شخصيات لها هواجسها وطموحاتها، ومشاغلها وهمومها اليومية. إنها دراسة سايكولوجية معمقة للشخصيات، وصورة بانورامية جامعة،أخاذة، تلك التي رسمها سعداوي لشخصياته الحيوية والفاعلة على طول صفحات الرواية، ومن هذه الشخصيات فرج الدلال، محمود الصحافي، باهر السعيدي، هادي العتاك،العميد سرور، نوال، زينة، أم ايلشوا، القط نابو، دانيال الغائب، أم سليم البيضة، أبو انمار صاحب الفندق، فريد شواف مصمم المجلة، المصور حازم عبود، أبو سليم الجالس في شرفته يراقب حركات المارة في الشارع، وعزيز المصري صاحب المقهى الذي يسرد عليه هادي العتاك حكاياته مع «الشسمه» الذي صنعه من جثث الضحايا. حكاية لا تنتهي إلا بإلقاء القبض على «هادي العتاك» الذي صَوّرت دوائر السلطة الحكومية من أجهزة مخابرات وشرطة وجيش خاص وعام إنه هو القاتل والمجرم الخطير الذي قبضت عليه ليقدم للعدالة.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  هاشم شفيق


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni