... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  قضايا

   
الرحلة بين بغداد والأنبار عبر "بزيبز"

بيان البكري

تاريخ النشر       12/11/2014 06:00 AM



عن: واي نيوز
ليس من السهل أن تقرر السفر بين بغداد والأنبار اليوم دون أن تستفسر من المقربين والأصدقاء المنتشرين على طول الطريق الذي تنوي قطعه. عليك أولا أن تتصل بمقربين في ناحية العامرية لتتأكد من كون الجسر هناك مفتوحا، ثم تتصل بمقربين وأصدقاء في صدر اليوسفية للتأكد من كون الطريق سالكا، وتتصل بمقربين وأصدقاء لتتأكد من كون الطريق بين ناحية عامرية الفلوجة والرمادي أو الخالدية مفتوحا أيضا.
وهذه الاتصالات يجب أن تقوم بها صباحا لأن المتغيرات قد تحدث بين ساعة وأخرى، ومع ذلك فلن تكون تلك الاتصالات والاستفسارات حرزا يقيك من الوقوع في بعض المشاكل.
في تقاطع عامرية بغداد تجد السيارات الصغيرة التي تنقل الركاب إلى جسر "بزيبز" مباشرة وأجرة الفرد الواحد خمسة عشر ألف دينار وحينما تستقل هذه السيارات عليك بتوخي الحذر وأن لا تتكلم مع أحد في أي موضوع كان لأن كل كلمة تتفوه بها قد تودي بك إلى مهلكة. لا تمتدح داعش لأن الطريق مليء بالعصائب ولا تمتدح العصائب لأن الطريق بعد بزيبز مليء بالدواعش، الزم الصمت واقبع منزويا في سيارتك مستغفرا وداعيا الله أن يوصلك بأمان.
تقطع السيارة الخط السريع حتى تصل إلى التقاطع الذي يقودك من ناحية اليمين نحو الفلوجة ومن ناحية اليسار نحو البصرة، سينحرف السائق نحو اليسار لأن الطريق نحو اليمين مقطوع عند أول سيطرة لقيادة عمليات الأنبار. تسير السيارة مسافة قصيرة لتجنح نحو يمين الخط السريع قاصدة منطقة صدر اليوسفية، وهذه المنطقة تسيطر عليها تجمعات الحشد الشعبي بشكل كامل.. الطريق هنا وعر بعض الشيء ولكنه معبد والسيطرات تنتشر فيه بشكل مكثف بحيث لا تبتعد واحدة عن الأخرى مسافة تزيد على سبعمائة متر وهي سيطرات تتراوح بين الجيش والحشد.. وعلى العموم فالسؤال التقليدي للسيطرات: (من أين أتيت؟ إلى أين تذهب؟) معجون مع الألسنة، والعجيب في الأمر أن هذه السيطرات تثق بالمواطن وإجاباته ثقة عمياء بحيث أن أي جواب يكون مقنعا لها فمن الممكن أن تقول أنك تتجه من خان ضاري نحو عامرية الفلوجة أو من أبي غريب نحو اليوسفية، ولن يعترض طريقك أحد، قال لنا السائق أننا يجب أن نجيب بأننا متوجهون من خان ضاري نحو عامرية الفلوجة تجنبا لأية مضايقات.
تهدر السيارة لمدة ساعة تقريبا (والأمر يتوقف على السيطرات) حتى تصل بزيبز أخيرا وهنا يجب عليك أن تترجل من السيارة وتخضع لتفتيش آخر سيطرة لقيادة عمليات بغداد، وعليك أن تسير مسافة تزيد على خمسمائة متر لتصل الجسر المنشود، وحين تراه لن تصدق الضجة الكبيرة التي يثيرها اسمه، فهو جسر عائم قديم جدا يتسع لسيارة واحدة فقط، "مثل حياتنا العائمة.. ذات الاتجاه الواحد نحو الهاوية".
وقبل أن تعبر الجسر ترى العوائل بادية عليها آثار التعب والإعياء من ثقل أغراضهم التي نجوا معها من الحرب غير المجدية طوال عشرة أشهر تقريبا. حينما وصلت نقطة التفتيش التابعة لقيادة عمليات بغداد سألت ملازما عن الأغراض التي يمكنني جلبها من بيتي فأجابني بأنه لا يسمح للأغراض أن تنقل عبر الجسر.. بل فقط الملابس والأمور الخفيفة. سألته عن الفراش والأغطية والوسائد فأجابني بأنها تعتبر من ضمن العفش الذي لا يسمح بنقله. ولكن أصحاب العربات التي تنقل الأغراض من ضفة إلى أخرى أخبروني بأنني يمكنني نقل الأغراض على شرط أن أوزعها في أكثر من عربة.. إنها عربات صغيرة يتقاضى أصحابها مبلغ ألفي دينار عن الحمل الواحد لتعبر الأغراض من ضفة عمليات الأنبار نحو ضفة عمليات بغداد، وحينما سألت ضابطا في الضفة الأخرى من ضمن عمليات الأنبار السؤال نفسه أجابني بأنهم لا يمانعون بنقل هذه الأمور ولكن عمليات بغداد تعيد كل ما يتعلق بالعفش.
الجسر كما قلت قديم ينحني نحو النهر ليقترب منه ثم يعاود الصعود وقد رأيت بعيني كيف يعاني أصحاب العربات من دفع عرباتهم عند الهبوط وهم يمسكون بها لئلا تتدحرج بسرعة.. وعند الصعود وهم يستنجدون بأصدقائهم ليعينونهم على دفعها نحو الأعلى.
على الضفة الأخرى هناك مرآب متكامل للسيارات التي تأخذك نحو الرمادي أو الخالدية وأجرة الفرد الواحد نحو الخالدية 25 ألف دينار ونحو الرمادي 35 ألف دينار.. تستقل إحدى هذه السيارات لتهدر بك في طريق صحراوي يسمى "الطريق المكسر".. وسمي كذلك لكثرة المطبات والأتربة المتوفرة فيه وهو طريق يلتف مع بحيرة الحبانية شمالا ليصل إلى المدينة السياحية إن كنت قاصدا الخالدية أو يلتف على بحيرة الحبانية جنوبا ليأخذك نحو الرمادي.. الطريق الأول يوصلك إلى المدينة السياحية وهناك تجد سيارات أخرى تأخذك إلى الخالدية بأجرة لا تتجاوز عشرة آلاف دينار للشخص الواحد أو بإمكانك أن تستقل زورقا خطرا يسير بسرعة جنونية ليقطع البحيرة ليوصلك إلى الجانب الآخر للبحيرة وبعشرة آلاف دينار أيضا. المحير في الأمر أنني وجدت الشرطة المسؤولة عن المدينة السياحية متواطئة مع سائقي التكسي فهي تمنع غير أصحاب التكسيات من اصطحاب أي شخص معهم إلى أي مكان.. أي أنك يجب أن تستقل سيارة من المرآب المخصص للنقل، فحينما أشرت بيدي لأحدى السيارات التي كانت متجهة نحو الخالدية منعه الشرطي الواقف أمام المرآب من الوقوف وقال له توجه مباشرة ولا تتوقف.
كان لدينا مثل قديم يقول (امشي شهر ولا تعبر نهر ) والمشكلة في هذا المثل أنه لم ينتبه إلى أننا قد نعبر بحيرة يوما ما، الطريقان يحملان نفس المقدار من الخطورة فالبحيرة قد غرق فيها الكثير من الناس والطريق الترابي معرض للقصف الجوي كما أن السيارات فيه معرضة هي الأخرى للانغراز في الرمل النهري الكثيف حول البحيرة. لقد شاهدت بأم عيني السيارات وهي غاطسة في هذا الرمل بانتظار التراكتورات التي تنقذها منه مقابل عشرين ألف دينار، ولهذا فأنت أمام خيار صعب إما أن تستقل الزورق وتعرض نفسك للغرق أو أن تستقل سيارة وتغرز في الوحل بانتظار المنقذ الذي قد يستغرق وقت قدومه ساعات، خياران أحلاهما مر ومع ذلك فالناس يفضلون المشي سنة كاملة على عبور بحيرة.
الطريق الآخر الذي يجنبك مرارة الانغرازات والغرق لا يخلو من مخاطر أخرى فالسائق يسألك قبل قرارك هل أنت شرطي أو في الجيش أو الصحوات لأن هذا الطريق يسير جنوب بحيرة الحبانية ويمر بعدة نقاط للتفتيش تابعة للجيش ولكنه حينما يقترب من الرمادي يصبح تحت سيطرة الدواعش.. الجيش كعادته يمارس التفتيش الدقيق إذ لا يسمح بدخول السيطرة سوى لسيارة واحدة يتم تدقيق الهويات فيها وتفتيش السيارة والركاب لمدة تتجاوز عشرة دقائق في أربع نقاط تفتيش، وحينما تنتهي منها تتسلمك نقطة تفتيش الدواعش وهي واحدة فقط لتدقق في الهويات فقط ولتدخل في أرض الدولة الإسلامية التي ترتفع فيها رايتها.
يأخذك هذا الطريق نحو منطقة تسمى الـ 18 كيلو وهي تقع على بعد 18 كيلو متر غرب الرمادي على الخط السريع لتعود أدراجك نحو مدينة الرمادي وحينما تصل الخط السريع يجب أن تتوخى الحذر لأن الاشتباكات بين جانبي السريع قد تنشب في أية لحظة.
المسافرون يفضلون هذا الطريق على الطريق الآخر الذي يذهب صوب كربلاء عبر النخيب ليعود إلى بغداد لأنه على الأقل يأخذ منك ثلاث ساعات إلى أربع على أكثر تقدير إذا استثنينا العقبات والمشكلات وأما طريق كربلاء فيأخذ منك سبع ساعات على الأقل إذا (الله ستر).
حينما وصلت بيتي في الرمادي أخذت ثلاثة أفرشة للأرض (زولية بقياس 2.5 × 3.5) وثلاثة أفرشة للنوم وثلاثة أغطية ومدفأة كهربائية وبعض الملابس.. واستأجرت سيارة بكلفة 150 ألف دينار عبر الـ18 كيلو نحو بزيبز، وحينما وصلت الجسر وزعت الأغراض بين ثلاث عربات وضعت في كل عربة فراشا أرضيا واحدا وفراشا للنوم وغطاء وبعض الملابس، وجعلت صديقا لي على هذه الضفة من بزيبز وأنا على الضفة الأخرى.. هو يرسل الأغراض وأنا أستقبلها من الضفة الثانية لأن الجيش التابع لعمليات بغداد يريد الأغراض ومعها شخص محدد فكلما وصلت عربة يجب أن أقف بقربها وهم يفتشونها ويسجلون اسم الشخص النازح ومحل سكنه ورقم هاتفه، والاتصالات مستمرة بيني وبين صاحبي على الضفة الأخرى ليرسل لي العربات..
وضعت الأغراض في سيارة بأجرة 40 ألف دينار نحو بغداد ولكن السائق هذه المرة أخذني في طريق مزعج بين البساتين لا أعرف أن أسير فيه مرة أخرى أبدا، قال ان السيطرات التابعة للجيش وتجمعات الحشد الشعبي في هذا الطريق أقل ولكنه أطول مسافة. سرنا بين البساتين ما يزيد على ساعة ونصف، وكان السائق ينصحني بأن لا أقول أنني آت من الرمادي بل من اليوسفية إلى أبي غريب أو إلى خان ضاري، لأنهم حينما يسمعون أنك قادم من الرمادي سيعرضونك للتفتيش الدقيق والتساؤلات الكثيرة، فالانتماء للأنبار أصبح مدعاة للتساؤل والحيرة.
على طول هذا الطريق تعرضت خمس مرات للتفتيش بحيث كان يجبرني فيها جندي في كل مرة على إنزال الأمتعة كلها على الأرض ليلقي عليها نظرة ويقول لي أعد وضعها في السيارة.. في هذه الأثناء تمنيت لو لم أكن عراقيا، تمنيت لو يضيع العراق كله.
في نهاية المطاف وصلت إلى مدخل العاصمة بغداد ليأخذ الجندي هوية الأحوال المدنية ويجد أنها تقول إنني من مواليد الرمادي فقال لي (فر السيارة وارجع). تساءلت مع نفسي: إلى أين يمكنني أن أرجع؟ زوجتي وأطفالي في بغداد وهم بانتظار هذه الأغطية والأفرشة ليناموا عليها فكيف يمكنني أن أرجع؟ ترجمت هذه الأسئلة إلى قول متوسل للجندي وساعدني السائق.. وبعد طول انتظار وتوسل سمح لي بالدخول..
لم تنته القصة هنا فلما وصلت نقطة تفتيش الغزالية سألني رجل التفتيش عن الأغراض وعن كتاب موافقة من قيادة العمليات بنقلها فأجبته بأنني ليس لدي أي موافقة. فقال: أستدر وأرجع.. رجعنا إلى مكان بعيد عن السيطرة واستأجرت ثلاث سيارات تكسي صغيرة ووضعت الأثاث في صناديقها وقلت لسائقيها سأسبقكم مشيا عبر السيطرة وأنتظركم بعدها. نجح السائقون الثلاثة في عبور السيطرة مع امتعتي، فأوصلتها إلى البيت.
يستحق الأمر أن أستذكر السياب وهو يقول (عراق.. عراق.. ليس سوى عراق).. أدركت حينها أن مفهومي لهذه العبارة والذي كان باختصار أن السياب يختار العراق فقط وليس سواه، كان مفهوما خاطئا والصحيح أنه ليس هناك من يستقبلك أو يؤويك إلا العراق لأنك منه، لا يحدث ذلك إلا في العراق، لا يوجد بزيبز سوى في العراق، ربما لو كان السياب حيا لكتب أروع قصيدة عن بزيبز، آخر مخترعات الحضارة العراقية، آخر وحي إسلامي نزل من السماء.

رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  بيان البكري


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni