... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  في السياسة

   
في مديح الغـربة

علي جعفر العلاق

تاريخ النشر       25/03/2016 06:00 AM


  لحظة مائية، أو موجة شديدة التفلت من نهر الزمن متصل الجريان. تلك هي تجربة السفر وما يتصل بها من مكابدات الغربة. لحظة مليئة بالتضاد أحيانا، فهي قد تبني وتهدم، تقلق وتريح، تكشف وتخفي. وكأنها تمرد من طراز خاص على المكان والزمان معا، أو باب الغربة ومفتتحه المثير للتوجس والريبة والفضول. تقتلعنا من انشدادنا إلى المكان الراكد والمعلوم والعصي على التحول، وتقذف بنا إلى المقلق والخفي من الأيام، وتخلخلُ ما درجنا عليه من استسلام للثابت والمألوف من الأشياء والأزمنة والأمكنة.

من منا لا يذكر أبيات الإمام الشافعيّ ذائعة الصيت التي يدعونا فيها إلى تجربة التغرب والتطواف “تغرّبْ عن الأوطان في طلب العلا وسافرْ ففي الأســفار خمـسُ فـوائـد؟” ومن مـنا لا يذكـر بيتيْ شــاعر الغربــة والغرابـة، أبي تمــام، الشـهيرين، واللـذين ينتهي أولهمـا بوصيتـه الجميـلة الحاســمة ” فاغتربْ تتجـدد؟”.

كان الاثنان، الشافعيّ وأبو تمام، يدعوان، ومنذ البيت الأول لكل منهما، إلى السفر أوالغربة ويحرضان عليها، إلا أن كلا منهما كان يلامس الغربة بطريقته الخاصة. ورغم أن الشافعي لم ينسَ تفريج الهـم باعتباره الفائدة الأولى من فوائد السفر الخمس، إلاّ أن هـذ الفقيه الشاعر، كان ينطلق من لحظة حياتية وتهذيبية واضحة، تجعل السفر والغربة لديه مقرونين، إجمالا، بطلب العـلا، وتفصيلا بما يعود على المسافر من سعة العيش، وطيب الصحبة، وتحصيل العلم والأدب. أما أبو تمام فقد بدا وكأنه ينقاد إلى لحظة شعريّة تغريه بالمغامرة في الترحال والتخيل “فاغتربْ تتجـددِ”، جملة إبداعية كاشفة، هي ثمالة الكأس، وزبدة المخاض الشعريّ في هذين البيتين.

ومع أنهما كانا مختلفين في مقاربة هذه الفكرة الثاقبة، فلا شك أن مسار المعنى في قصيدة الإمام الشافعي لا يقع بعيدا عن اهتمام أبي تمام في الموضوع ذاته. والشيء اللافت أنهما معا يلتقيان في نقطتين مثيرتين للدهشة. فهما، أولا، يتصالحان مع الغربة ويستخرجان منها زبدتها المصفّاة، أعني ما يجعلها أخفّ وطأة وألين ملمسا. ففي البيت الأول للشافعي إغراء واضح وقويّ بالتغرب والسفر وتعداد طريف لمنافعه ومزاياه. ومع أن السفر والغربة يحتفظان بدلالات تكاد تكون متجاورة، إلاّ أنهما ليسا كذلك تماما، فليس كل سفر غربة غير أن كل غربة سفر أو تكاد.

أما اللمسة الذكية الثانية، فهي الربط بين الغربة والسفر من جهة والوطن من جهة أخرى. الغربة ليست اختيار البطر، أو العابث، أو المولع بالمخالفة. بل هي نتيجة لوطن تجف فيه الحياة، ومعاناة تفيض عن طاقة التحمل. وما في الغربة من مجهول قادم قد يكون أرحمَ من حياة معلومة لا تطاق، في وطن صار دارا لإذلال البشر ” فموت الفتى خير له من حياته بدار هوان”. وكلام الشافعي هذا لا يبعد كثيرا عن عبارة للأمام علي يصير فيها الغنى في الغربة أحنَّ من وطن، والفقر في الوطن أشدَّ من غربة.

أما أبو تمام فينيط بالغربة مهمة تجديدية كبرى، حين تبث الجدة والحيوية في كيان الإنسان كله، وتغدو النقيض لما يعنيه الرسوخ الممل في المكان. ألم يصرخ الشاعر الجاهليّ “ربّ ثاو يملّ منه الثواءُ؟” إن طول الإقامة، كما يرى أبو تمام، طريق مؤكدة لذبول الجسد وتقادمه، فهو “مخلق لديباجتيه”. أي متلف لهما. والديباجة في اللغة بهاء الطلعة، والأسلوب، ومقدمة الكلام. أما الديباجتان هنا فهما الخـدان أول ما يترك عليه الزمن بصماته ورضوضه، وهو يمرّ على البشر عابثا بأجسادهم كما يشتهي ودونما شفقة.

هكذا تبدو الغربة لدي الشافعي وأبي تمام، تارة خلاصا من وطن يضيق ويتعفن، وتارة طاقة لتجديد الذات، أومقاومة للهرم ولـو إلى حين. فهـل ماتـزال الغـربة قادرة على تحقيق شيء مما حلم به الشاعر والفقيه؟ وأين غربة الأمس من غربتنا الكثيفة اليوم؟

هاهي الأوطان تعرى من أبنائها كل لحظة، فتدفع بهم إلى المنافي وقودا بشريّا مشحونا بالرعب والفاقة. المهاجرون يفوقون طاقة اليابسة، فلا بد من الليل والزوارق المثقوبة والمياه السوداء. أطفال يهبطون إلى الظلمات السحيقة عراة من أمهاتهم، وقتلة يختارون أجمل العذارى قرابين لآلهة الموت والجهل واللذة المتوحشة.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  علي جعفر العلاق


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni