... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  رواية

   
الاعزل . . . ح 2

حمزة الحسن

تاريخ النشر       01/02/2007 06:00 AM


ربيضة عبارة عن غابة بطول 9 كم تقريبا، وهي شبه جزيرة يشكلها دوران النهر حول نفسه وهو يهبط من الشمال ـ بغداد ـ نحو الجنوب ويتسع وينفتح كلما إبتعدنا عن الغابة حيث يواصل النهر جريانه نحو العزيزية مخترقا مدن الجنوب حتى البصرة.
 
ربيضة قديمة  لكنها ظلت مكانا لا يقترب منه إلا هؤلاء. ظلت مكانا ولغزا ومصدرا للحكايات الليلية وهي كثيرة في هذه البقاع من الأرض قرب ضفاف الأنهار.هذا الشريط المائي الممتد من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب ،هذه السهول الخضر، والمراعي المعشبة، المستنقعات المائية الساحرة ، غنية بحكايات سكان ضفاف الأنهار القائمة على الإنتظار، الترقب، الفاجعة، الجفاف، الحرب، المطر، الموت، الدفن، الحب، الأمل، الحزن. هناك ميل طبيعي عند الناس للحزن. ضارب في الأعماق ، حتى لكأنه الفرح .
 
غابة ربيضة بقايا عالم اندثر أو في طريقه. حين اندثرت تماما كان آخر رموز السلام في بلدتنا قد تلاشى وحلت محله رموز مخيفة. كأن الحاضر بكل همجيته كان ردا أو عقابا على عذرية الماضي. إنه النقيض لكل ماهو حي، ونظيف، ونقي. نكسة الزمن أو عربدة التاريخ في غفلته القاتلة.
***
 
مدخل الغابة الآن، وبعد الحرب اللعينة الطويل: نقطة حراسة وسيطرة وحرس خاص ببدلات خاكية أو مرقطة وتحيط بها من جميع الجهات أبراج مراقبة بالنواظير والبنادق. كل شئ موجود في ربيضة الآن إلا الغابة. بنايات رمادية مبهمة وبنادق مصوبة نحو شريط الأشجار في الضفة المقابلة، هناك تنام البلدة القديمة في سلاسلها، كعبد أو أسير.
***
عبق الهواء برائحة أعشاب الليل.قال يوسف: ـ فكرت هذه الأيام أن لا أترك ربيضة في الشتاء.
رد ثجيل: ـ صعبة.
ـ صحيح لكن لا وجود لنا في المدن. اشعر بالإهانة كلما دخلت البلدة . كلكم تعرفون حكاية الشيخ.
                   
هذا الحادث وقع فعلا في يوم صار قديما لكنه محفور في الذاكرة الجماعية. أشهر الحوادث في البلدة لأن هذا النوع من الحوادث يتناقله الناس لوقت طويل في تلك الأزمنة في المجتمعات الرعوية. دخلت جواميس يوسف ،سهوا، حقل الشيخ الاقطاعي الذي كان مارا  فأرسل في طلب المعيدي.
 
وقف يوسف أمام الشيخ وهو يتوقع خطوته التالية. حين نزل الشيخ وحوله الحوشية كان السوط قد أز في الهواء قريبا من ظهر يوسف الذي اندفع كثعبان مستفز وخنجره  في يده ليضعه في لمح البصر حول رقبة الشيخ وسط ذهول الحوشية وحيرتهم. أخيرا دفع يوسف الشيخ بعيدا وهو يبصق وساق قطيعه خارج الحقل في حين كان السكوت يتكيء على كل سنبلة وعشبة وحجرة وشوكة. كل البرية بدت صامتة في ذلك الصيف المحرق، المهلك.
 
ها هو قصر الشيخ نفسه يطل على غابة ربيضة حتى بعد مقتل الملك. كان المرور أمامه ممنوعا على المارة. لكن مدنا بكاملها صارت محرمة بعد نهاية الملكية وظهور المدن الحزبية. الآن يلوح القصر نفسه من صريفة يوسف  في ربيضة غارقا في الظلام. ظلام الليل. وظلام التاريخ .
***
صوت مزمار يأتي عبر الريح النهرية المنعشة من جهة طاهر.إنه يحتفل لوحده في وصول الرجل الذي أنقذه وصار زعيما. مزمار وهواء عذب والقمر يشرق في السماء كحارس لهذه المخلوقات التي صارت جزءا من جسد الغابة وعظمتها وتاريخها العريق. فانوسه معلق فوق شجرة صفصاف عملاقة. خنجره يومض على ضوء القمر. هؤلاء القوم ترتعش قلوبهم كخناجرهم تحت التراب والفرح والصداقة التي يقسمون بها كالرغيف، كالشرف، كالإيمان، كالموت.
***
 سمعت يوسف يقول: غدا سيأتي راجي مع قطيعه. فرحت لهذا الخبر لأنني أعرفه من خلال زياراته الليلية لنا في البلدة. رجل ربعة، قصير، ومرح وضاحك دائما .أعرف أيضا ولديه حاتم وحافظ وزوجته نعيمة. لكنني أعرف عشقه الصامت لجارتنا. إسمها كميلة لكن صورتها في ذاكرتي تلمع كحصى تحت ماء رائق. كميلة قامة سمراء طويلة أصابته برجة في عقله كما يقول. يفتعل زياراته لنا لكي يراها. تمر صامتة قربه فيرتج جسده الثقيل كالمحموم.
 
قال يوسف:ـ سيكون وجود راجي معنا بلوى. لن يفك من حرشته  لثجيل. مزاحه ثقيل وثجيل طبعه حاد.
 
من أعماقي سعدت لهذا الخبر. هل سيأتي معه أولاده؟ لا أدري. حاتم في مثل عمري ـ  تسع سنوات ـ وحافظ ست سنوات .
***
 قتل حافظ في حرب الخليج الأولى وكان معي في نفس الوحدة بعد  أن أعطاني  رسالة  إلى  أهله  بدقائق  في  ليلة مظلمة مرعبة وكنا يومها في منطقة البسيتين شرقي العمارة في منتصف شباط1982 .قتل بعد أن أخذت منه الرسالة ، حين خرج في الظلام يبحث عن شيء فأصابته رصاصة تائهة في خاصرته ولم يقل أكثر من كلمة: آه.. لقد مت. كلاهما معي في نفس المدرسة. نتقاسم الطعام والشتيمة المألوفة عن المعدان.لم اسلم الرسالة في اليوم الأول، ولا اليوم الثالث. في الرابع ذهبت فوجدت مأتما في الشارع.
***
طاهر أيضا عنده ولد. شعره أحمر وبشرته بيضاء وعيونه زرق كأبيه.إعتاد راجي أن يقول له مازحا:ـ (هذه من مخلفات الإنكليز). قُتل في نفس الحرب.
 
استأذن ثجيل وانصرف وطمرته ظلال الأشجار وتوارى كشبح في السكون المسيطر. قال يوسف:ـ  ثجيل رجل شجاع.
أيده أبي بحرارة: ـ لكنه غير محظوظ.
اراد أن يضيف لكنه صمت: ـ ثجيل بلا ذرية.
 
يشرق وجه ثجيل صحة  في الخطر والتوقع. رجل برية أو غابة أو صحراء. تشهد على ذلك جروحه المنتشرة في كل مكان من جسده وكل جرح له حكاية.
***
 
جاء طاهر إلى صريفة يوسف بعد إنصراف ثجيل وكان القمر مشرقا فوق النهر والغابة، ورائحة النباتات النهرية حادة مع نسمات ليلية عذبة محملة بروائح مختلفة.جثة ضخمة تحمل ذراعين طويلتين قادرتين على سحب  سفينة غارقة. جلس إلى جوار الموقد قبالة أبي الساهم. يوسف كعادته بشوش مع ضيوفه. طاهر صامت لكنه يغلي. يريد أن يتكلم لكنه يتردد. سأل عن آخر الأخبار.قال يوسف:ـ  قتل الملك وسحلت جثته مع العائلة.
ـ من فعل ذلك؟ سأل طاهر مستنكرا.
ـ الناس .
ـ ممكن. الزعيم لا يفعل ذلك وأنا أعرفه جيدا.
 
فرصة لفتح حكاية الإنقاذ.ابي قال ان كل شيء ممكن لأن الحقد أعمى وذكرهم كيف قتل الشيخ في النادي  في صراع على النيابة: ـ صارت جمهورية. قالها يوسف وهو يحرك الجمر.
ـ جمهورية؟ ما معنى جمهورية؟
سأل طاهر مدهوشا. أجاب يوسف: ـ كانت ملكية فصارت جمهورية.
ـ بس ؟
 
***
 
صوت كريستينا العابث الطالع من عدمية عريقة في المرح والضجة والسخرية يعلو على كل صوت.في العودة وعلى ظهر القارب طلبت مني أن أعملها ثانية وهي تقود القارب. صارت شهية أكثر خاصة بعد أن أنضجتها الشمس ومياه الخليج القادمة من خليج رصاصي بلون جسدها المتوحش. رائحتها تملأ جسدي بعطر يصير مع الوقت دما اخر. كل ما اتذكره وانا على ذلك الوضع الذي فرضته علي نزواتها هو جبال تركض وخليج ينقلب وضفاف تتحرك وأنا اتنهد فوق قامة السرو الفائرة ورائحة جسدها تخرق كل ذرة في جسدي. صرت صورة مختصرة لجرو لاهث فوق قيامة الجسد. حين أكون واقعا تحت تأثير جسدها تتلاشى كل إمكانية للتفكير الا من فراغ مهول يطل على هاوية الأحاسيس المختلطة. هذا الجسد الفالت من قوانينه أقرب ما يكون الى وكر  عبادة ورائحته المائية بخور الأديرة الليلية المنزوية في أعماق جبال كهنة في عزلة مشعة.
 
***
سأل طاهر:ـ  هل سيأتي راجي في الصباح؟
ـ نعم.
قال:ـ  ستبدأ المشاكل مع ثجيل.
قال أبي: سنوصيه بذلك.
ـ لن يسمع. لا يقدر على ضبط نفسه.
قال ذلك طاهر وسألني:ـ هل تحب الزعيم؟
 
حكاية الغرق أيضا. لا يستطيع أن يفهم كيف انهم لم يتحدثوا في الراديو عن حكاية الإنقاذ اللعينة. كل أسئلته المتكررة عن الأخبار تدور حول هذا الأمر من باب خفي. حكاية الإنقاذ أكبر من طاقته. كيف يستطيع نسيانها؟ كان مستعدا لأن يحلف بأغلظ الإيمان على ان الحكاية صحيحة من أولها إلى آخرها. لكن من يصدق؟ حتى الزعيم نفسه لا يمكن أن يصدق أو يتذكر ذلك.قال كأنما يحدث نفسه بصوت ذاهل:ـ  سيأتي يوم يروي فيه الحكاية بنفسه . أنا واثق.
***
 
مكبرات الصوت تزعق في شوارع البلدة نافية خبر مقتل الزعيم. الجموع مصابة بالصدمة. أمس شاهدوا فيلما لجثة الزعيم في التلفزيون وقد أجلسوه على كرسي وجاء عسكري ليمسك به من شعره ويبصق عليه أمام الناس. تلك البصقة عرتنا جميعا، كانت أكثر فصاحة من بلاغ الإنقلاب. كان الفقراء  قد وجدوا فيه  رمزا وملاذا وأملا. الأمل سحق على شاشة التلفزيون والحياة ديست علانية. ساد الظلام في الليل والنهار وتوقفت الحياة والأنفاس. سقط فجأة الرجاء والخطاب اليومي والصورة والوجه الضاحك والوعد. لم يصدق أحد الحكاية أبدا لكن الحقيقة العارية إخترقت القلوب الراعشة كمصيبة غير معقولة أو كقدر أنزل الناس إلى قعر هاوية اليأس.
 
طاهر الاشقر خلف الرجل حامل المايكروفون وهو يحتضن سره في سحب جزء من التمثال إلى البيت. يعلن الصوت الأشبه ما يكون بحشرجة عجل مذبوح بكذب خبر مقتل الزعيم. أخبار تنتشر لا أحد يعرف من أين تقول ان الجثة التي ظهرت هي تمثال شمعي هدية للزعيم. أمل هب من قلب صحراء الوجع. فوضى السلطات المحلية وركضها في الدرب الذي قال أحد ما  ان الزعيم مر  فيه كسر صلابة اليقين الراسخ في القلوب كخنجر. طاهر يرعد وسط جموع فقدت وجودها وحلمها الخاطف الذي ظهر عدة  مرات في قلب السماء ضاحكا كأمل مشع. من يطفيء هذا الغليان المندفع للمشاعر الهائجة؟ قيل انهم سيستخدمون الرصاص لتفريق الناس. إضطربت الجموع. ارتفع هتاف وصراخ. في الليل خلت الشوارع إلا من دوريات الشرطة والكلاب واليأس والغبار والصمت الشاحب المتكيء على ظلال الشوارع الميتة.
***
                 
ضجة هذا الفجر أثارها راجي وعبوره النهر باكرا. خرج من النهر قبل القطيع كثور يجرجر جثته عبر الوحل.كان يشتم كل شيء: الأشجار والنهر والقطيع والمعدان والعمر  والزعيم وطاهر الثور والملك.
 
ـ لماذا الزعيم؟ إحتج طاهر مزمجرا.
ـ لأنه سمح لكلب مثلك أن ينقذه.قال  ذلك راجي بمكر ساخر إشتهر به.
 ـ ستصدق يوما.. وسترى. قالها طاهر بثقة. قلص راجي عينيه ونظر بعيدا في الغابة. سأل: ـ أين أبو سرحان؟
 
هذا أول الغيث. يوسف  فهم المعنى المبطن لهذا السؤال. أجاب:ـ نأمل أن تكون سنة خير وسلامة.
 
ضحك راجي وإهتز كرشه وتساقط منه الماء وبقايا الطحالب والاعشاب التي  علقت به خلال العبور.علق راجي:ـ انشاء الله.
وأضاف متضايقا:ـ لكن قل لي بروح والديك هل تتسع ربيضة لكل هذه الوحوش؟
 
عندها فقط رفع يوسف يده . تلك كانت علامة واضحة لمن يعرفه بأن لا وقت لمثل هذا الكلام.انصرف يوسف على عجل. ترك القطيع طافيا مع البقية  في هذا الفجر الذي ينذر بحرارة ورطوبة وهواء راكد. لم يأت معه من الأولاد عدا صافي إبن أخيه نصف الاطرش والاحدب وهو في العشرين من العمر.ضحك راجي وهو يعلق: ـ  ليكثر عدد الطرشان. من سيحرسنا من الذئاب ؟ من سيسمع ضراط النمل؟
شوهد ثجيل وهو ينحدر نحو النهر مع قطيعه.قال راجي: ـ عرضة أرنب .
وإلتفت نحو طاهر: ـ  إذن تنتظر أن يزورك الزعيم يوما؟
أجاب على الفور: ـ لم لا؟
 
وبدون توقع إنحنى راجي قليلا بوضع ركوع سريع  وأطلق  ريحا نتنة كصوت تمزق قماش. كان الموقد مشتعلا يغلي فوقه الشاي وعلى الجانب الشرقي من الغابة تشرق شمس ندية، حمراء، ومتوهجة، ترتفع ببطء من ضفة النهر نحو هامات الأشجار التي تبدو في هذا الشروق مغسولة بالضوء والماء والسكون البازغ من أعماق الأرض كما تبزغ الشمس من قلب السماء. في البعيد تبدو أشجار النخل في شريط طويل، صامت، وعلى إمتداد النهر. صافي صامت. تتهدل ذراعاه وشفته السفلى لا تتطابق مع العليا: ـ مالك خانس مثل الخنزير؟
زمجر راجي . لم يجب صافي بل تملل خجلا:ـ أرجوك يا عم كف عن ذلك. نحن في محنة.
ـ محنة؟
علق راجي ضاحكا. أضاف: ـ  خنازير ربيضة أهون من خنازير البلدة.
 
كان صوته هذه المرة جادا. وكانت الشمس قد بدأت تنعكس على أكتافه، ولابد انه يشم الآن الرائحة الطرية للأعشاب وأوراق الاشجار. تلك هي أحلى ساعات النهار حيث البرودة منعشة والهواء مسكر، والسماء صافية ومشرقة. شربوا الشاي . دخنوا. تبادلوا بضع كلمات عن الليل والذئاب والضباع والخنازير. يوسف قلق . تحدث صافي بمتمتة عرف بها عن تحسين الصرائف وبناء سياج من الأعمدة حول الحظائر. ايده طاهر قائلا:ـ  ربما يزورنا ضيوف.
 
الحلم نفسه. لم أر في حياتي راجي عابسا ومستقرا في مكان أبدا. لا  في زياراته لنا في البلدة في المساء التي تمتد حتى بعد منتصف الليل ولا في المقاهي ولا في الحقول التي صادفته فيها خلال خروجنا إلى المراعي الصيفية.
 
***
مرة واحدة فقط رأيته جثة هامدة  ممددة فوق مشرحة المستشفى في غرفة التشريح الكائنة في أقصى زاوية حين تعلقت بنافذتها الواطئة ورأيت كيف شق الطبيب صادق القزويني بطن راجي  ومزق لحمه الطري بمشرط حاد كان يوغل في الجسد كسكين في الزبد. صافي هو الذي أطلق عليه الرصاص بعد سنوات من أحداث ربيضة جراء خلاف على حقل . جلس صافي على ركبتيه وفي يده بندقية قبالة راجي المدهوش، في مساء شاحب  في حقل والشمس على وشك الغروب، لم يستطع أن يقول له سوى الكلمة الأخيرة كآخر رجاء من الموت: ـ أنا عمك ياصافي.    
 
لكن احدا لم يسمع هذا النداء. ما أبشع الموت قتلا في  حقل في غروب شاحب على مشارف مدينة متراصة المنازل مطلية باللون الطيني ؟ في الصباح التالي لعملية التشريح وجدت ثيابه الداخلية المدماة مرمية على مزبلة خارج حائط غرفة التشريح التي لم أرها منذ ذلك اليوم المشؤوم.
***
                  
تفرقوا بعد الشاي وذابوا بين الأشجار. لكن أصواتهم تتردد طوال الوقت. هذا يجعل هدوء الغابة أليفا. يجعله آمنا، محسوسا. تتلاشى الأسرار قليلا في النهار ويحل الصوت وحركة الأقدام والطير  وذعر الحيوانات الصغيرة اللابدة في أوكار عميقة في الأرض وتحت العشب أو الدغل. مشهد الأشجار في الضفة المقابلة في وقت الظهيرة يبدو راقصا راعشا كأنه لوحة  حية على جدار. لم أجد مثل ذلك الشريط الأخضر حتى على ضفاف الدانوب الأزرق.
 
الطيران الزلق، الرتيب، الإنسيابي، البطيء للطيور النهرية فوق صفحة النهر غالبا ما يجعل المشهد الخلفي للأشجار البعيدة المتراصة أكثر حيوية. طبيعة تفور على ضفاف منسية. طبيعة تعطي بسخاء أكثر مما تأخذ. طبيعة أجمل من نفسها لأنها لا تدرك كم هي جميلة. هذا هو الجمال غير المدرك لنفسه كجمال الينابيع والغزلان والنجوم والأطفال والزهور والفراشات.
 
لم تعد ربيضة مع الوقت مكانا موحشا تماما رغم ان كل إحتمالات ذلك لا تزال قائمة . هؤلاء تقبلوا المخاطر كجزء من نظام الحياة ومن مقومات إستمرار حياتهم. أخذ خوفي يتضاعف  من مصادفة خنزير بري بعد ان سمعت عنه الليلة الماضية.
 
وحدة ثجيل تتراكم. بعيد ومنزو وغير مهتم بما يدور او لا يدور. الإنزواء حتى في غابة منزية يؤمن له الأمان. يؤمن له قبول وضعه بلا تذكير. ثجيل لو لم يكن رجلا لكان إسطورة.
***
 بعد ذلك بسنوات طلب قبل موته من فاطمة وهو في رقدة الموت والاحتضار ان تأخذه الى البرية وان لا تخبر احدا ابدا. كان يخجل حتى من ضعفه في مواجهة موت وقدر بشري. كان يريد ان يموت بعيدا عن كل عين كصقر أو عشبة برية أو حجر منسي. تعفن في احتضاره فذهبت فاطمة لتخبر يوسف مضطرة. نظر اليها ثجيل بتلك النظرة المعاتبة الأخيرة قبل ان يلوي عنقه كجواد يموت في براري مفتوحة على الريح والابدية.
***
 
صارت زيارة الزعيم وسواسا يوميا لطاهر. ينتظر على الضفة ويراقب. يسأل عن الأخبار. قيل انه يتسلل ليلا إلى الضفة الأخرى ويقترب من جماعة تسكر وتلعب القمار يوميا بين أشجار كثيفة حتى داهمه يوما خبر الانقلاب ومقتل الزعيم فعبر النهر كوحش مستثار خرج من الغابة.
 
في المساء يشرق قمر عراقي من خلف الأشجار ليغمر الكون بنور شفاف رائق فتغطس غابة ربيضة من جديد في سرها متدثرة بالاشجار والريح والحكايات ومواقد النار وعواء الثعالب يوم كانت الثعالب حقيقية،كالغابة، كالنهر، كالقمر، كالماء، كالأمل.
2
 
 
خريف عراقي شاحب ومغبر. شاحب في المدن كما هو شاحب في جبهة الحرب.كنت قد تعرفت على يسرى خلال فترة الحرب حين كنت قادما من جبهة الجنوب الى المنزل في اجازة عادية. كان القتال علىأشده في خطوط القتال الأمامية. وكنت جنديا في وحدة عسكرية في الخطوط الامامية.
 
أتذكر جيدا ان الوقت كان خريفا. كنت قادما من الجنوب. كل شيء بدا صامتا في الطريق وكئيبا. إنها الحرب والخريف وتساقط الأوراق والأشجار العارية والقناطر الصفر والحقول الطويلة الناحلة والخيبة ومشاهد الجنازات على الطرق والوجوم والصمت.
 
في تلك الأيام انبثقت يسرى كوردة في الظلام، كيد لغريق. كشمعة في الديجور، كرغيف حار، وساخن، في تلك الظهيرة العراقية المشتعلة حيث الموت وحده يركض في الشوارع. لم تكن مجرد امراة في تلك الأيام العصيبة، بل كانت ملاذا ومأوى ونورا بزغ، فجأة، في هذا الديجور من الوحل والموت والرخص والدعارة والرعب.كانت جوابا على الحرب والكراهية.
 
تعرفت عليها بطريقة غريبة. رن هاتف المنزل يوما وسألني صوت نسائي دافيء، وعذب، وناعم، عما إذا كانت تستطيع التحدث معي . قلت لها علىالفور : يمكنها ذلك الان. ضحكت بطريقة مشوقة، وساحرة.كان كل شيء يبدو مثيرا، وساحرا، ومشوقا، لجندي عائد من جبهة حرب ساخنة،حتى الأشياء المهملة، والتافهة، والتي لا تثير في العادة، تبدو نادرة وإستثنائية. إن الحرب كما يبدو تجعل الإنسان يعيد النظر في قيمة الأشياء المألوفة، والبسيطة، والعادية، لأن الحرب هي قلب لنظام الأشياء. ليس هناك من ينجو من حرب عاشها، كما يقول أندريه مالرو.
 
قالت بالصوت الناعم والملائكي: انها تريد ان تتحدث معي، لكنها لا تعرف عن أي شيء. جذبتني هذه الطريقة في الحوار. ان اي شيء في تلك الأيام كان يبدو عاريا من المنطق، والتسلسل، والترتيب، والمعنى. كل شيء كان يبدو ممكنا في زمن الحرب المفتوح على الهاوية والموت والجريمة. تحدثنا طويلا وبدون مخطط: عن الفن، والحرب، والنساء، والموسيقى، والحب، والناس، والتقاليد، والشعر وحتى الجنس .
 
لم أكن أعرف من هي على وجه التحديد. لقد رفضت، أول الأمر، ان تذكر اسمها الحقيقي ، مكتفية باسم مستعار قالت انه مؤقت. بهذا الإسم المؤقت كنا نتحدث فترة الإجازات في ذاك الخريف وحتى نهايته. لقد استمر الحال هكذا في فترة الإجازات المجنونة التي تأتي بعد معارك طاحنة، وحالات موت لأصدقاء ومعارف، وجو جنائزي يخيم على الشوارع والوجوه: إنها ظلال الحرب.
 
في خطوط الموت صار عندي ، هذه المرة، أملا لا صلة له بالحرب. هناك ، رغم كل شيء، إمرأة في انتظاري. قلب ينبض بالحب وسط هذا الموت والخراب والجنون والحقد. كانت الحرب في عامها السابع، وكنت قد شاركت فيها منذ الأيام الأولى: من  الجبهة الغربية ـ سربيل زهاب ـ وحتى الجبهة الجنوبية ـ سوسنكيرد، والأهواز، وجفير، وحدود عبادان. لكن أكثر المعارك ضراوة ووحشية هي التي عشتها في الجنوب، شرق الكارون، وفي الطاهري، وخرمشهر وفي الأهواز.
 
كان صوتها  قد سيطر على حواسي حتى في ساعات القصف الطويلة، واليومية، والتي صارت جزءأ من نظام الأشياء. لم يكن صوتا: كان أملا، أو نورا، أو مخرجا من هذه الغابة من الوحوش حيث الموت يركض في الأمكنة كالطاعون، ورائحته  في كل مكان، في الأسلحة، والملابس، والعيون، والشوارع، والأشجار والأحلام.
 
مرات عديدة واجهت الموت وجها لوجه. لكنه لم يصبح مألوفا لي. كان قتلى الرصاص أو الغازات أو القنابل ، من الجانبين، يثيرون في داخلي أقصى مشاعر القرف والسخط والحزن. في الحرب تتناسل المخاوف: الخوف من قذيفة مباشرة، الخوف من الأسر، الخوف من الظلام، من الصمت، من الهجوم، من الهجوم المضاد، من الضوء، من النوم، من اليقظة، من الإشتباك، من التسلل، الطعن بالحراب، الألغام، السلطة، التقرير،الاستخبارات العسكرية التي تطارد الجنود حتى في خنادق القتال الأمامية وفي حجابات الأرض الحرام، الخوف من الشهوة، من الكبت المفرط، من الحزن، من الذكرى، من النسيان، من العقرب.
 
حتى أبسط الأشياء يصير عملا مثيرا، ومهيجا، ومفرحا. أتذكر يوما حين غطسنا في نهر صغير في منطقة الزريجي بعد أن كنا عائدين من معارك طويلة. بدا لي الماء جميلا، وذهبيا، ومشعا، ولذيذا، واسطوريا. كل رمز مهما بدا بسيطا وعاديا يبدو، في مناخ الحرب الرمادي، غير مألوف، وخارق،ومدهش. إن الحرب تجعل الإنسان يكتشف معنى السلام الحقيقي ، حتى لو كان في قدح حليب في الصباح، او جريدة، في مقهى، أو امرأة في سرير او قطار، أو طفل في حديقة، أو زهرة اسفل حائط متهدم. إن السلام مصنوع من أشياء بسيطة، دائما.
 
كنت موجودا في جبهة البصرة. وكانت المعارك تدور هناك بشراسة أكثر من اي مكان آخر، والأرض سهلية ومستوية يسافر فيها الرصاص والشظايا بلا جدران كما هو في الجبهة الشمالية حيث الجبال والأشجار والصخور.وكانت المدينة نفسها، البصرة، تقصف أحيانا، الأمر الذي جعل بعض سكانها يفكرون في الهرب الى مدن بعيدة. بواخر غارقة في شط العرب، ودوي المدفعية بين وقت وآخر، ومتاريس الشوارع، والدخان، والظلام في الليل، والجو الدخاني والترقب ..كل ذلك يعكس أجواء  مدينة مدينة تحت ظلال الحرب. بيوت الدعارة في شارع بشار لم تقفل أبوابها كانها خارج الزمن. قالت يوما: (ـ لا تستعجل. انتظر).
 
لم تكن مدينتي بعيدة عن أجواء الحرب. كانت صامتة، وحزينة، ومنتظرة وصول الجنازات من جبهات الحرب. لكن أكثر الأشياء إيلاما، هو ان تتحول  ربيضة إلى مكان معزول  لا يسمح لأحد بالمرور فيه. تحولت الغابة إلى منتجع خاص للعائلات الحاكمة. ظهرت الأبراج، والأسلاك، والدوريات، ومهابط الطائرات المروحية،  والمنازل الرمادية التي تظل مضاءة بعد منتصف الليل ، وفي اشد ايام القتال ضراوة.
 
تحولت ربيضة إلى ملهى خاص ، في زمن الحرب، شأنها شأن كل الأماكن الجميلة، والهادئة. قريبا من النهر شيد بناء جديد هو فندق سياحي كان يبدو في جو الحرب  والكآبة والخوف غريبا، ونافرا.من نوافذ الفندق كنت أطل على زمن ربيضة المتلاشي. لم تعد موجودة تلك الأشجار، ولا الطيور. ليس إلا الأبراج ، وغسق محمر، ومتوهج، وشريط طويل، وصامت من أشجار النخيل على طول النهر.قلت لها مرة، محتدا: ـ ولكن هذا لا يجوز. يجب ان أعرف من انت في الأقل.
 
ضحكت بجرس ناعم كنت أسمعه رغم دوي المدفعية البعيدة المدى، وصرخات الذعر في الإشتباك، والغبار، والدخان، ورائحة اللحم المحترق، وصراخ الشهوة الذي تشعله الحرب ومشاعر الموت.
 
كنت قادما في نهاية الخريف من الجبهة. ذاك الخريف جرى قتال واسع على كل جبهات الحرب. وكانت الشوارع والمنازل مصبوغة بلون الموت والكآبة والصمت الذي يفرضه الخوف من وصول الجثث. وكانت مكبرات الصوت تزعق في كل مكان عن النصر ، أو القتال حتى الرجل الأخير.
 
 
في آخر مساء خريفي تعرفت عليها بعد موعد، وكانت مفاجأة سارة مشوبة بحياء مشترك بسبب فترة المكالمات الهاتفية والإنتظار والدهشة والفرح. لم تكن صورتها مألوفة عندي ، ولم أكن قد رأيتها من قبل. قالت انها تعرفني جيدا عن طريق صحف ومعارف وأخبار .
 
قلت لها، صراحة، ان شكلها غريب عني. قلت انها لطيفة وجذابة. سرت لذلك كثيرا وعرفت انها حساسة وسريعة الإثارة، وربما تعاني من خوف مبهم  أو من اعتلال ما في الصحة أو لا شيء من ذلك على الإطلاق، وقد يكون مجرد أوهام اللحظة الحرجة.
 
في الصباح التالي غادرت إلى الجبهة، لكن صورتها ، في ذاك الخريف القلق والمثير، قد انغرزت في ذهني بصورة حادة بحيث  لم تستطع كل القنابل والرمال الجنوبية التي تهب في الصباح وحتى المساء طامرة كل شيء حتى أواني الطعام، والطعام نفسه، ان تمحو ملامح الوجه الطفولي ،الخائف.
 
بدت بسيطة أول الأمر أمام رجل خبر الكثير من الأهوال  والمصائب: في السجون، والمطاردة، والتشرد، والجوع، والحرب، والعزلة، والفقر، والخطر.
 
***
عندما كبس علينا أمن البلدة عام 1970 على اثر منشورات سياسية مرتجلة وعفوية، قال لي مدير الأمن  في الكوت ضياء العلكاوي بحضور عدنان الدهش المحافظ وزمرة من رجال الامن والحزب: انت فيك عشرين سنة نيك. ما الذي جاء بك الى السياسة؟ ذهلت. كانت المنشورات تحمل هذا المقطع من قصيدة للشاعر عبد الوهاب البياتي: قم تر الافق مشاعل/ وملايين المساكين تقاتل/ وتبدأ بجملة افتتاحية تقول: نفس الوجوه الكالحة عادت الى السلطة من جديد. في مديرية الأمن العامة في بغداد سنة  1979 سمعت  وانا معصوب العينين أحدهم يقول بغل: ـ هذا ابو المشاعل.
 
 حين خرجت من السجن حطاما ذهبت الى ربيضة. كنت اشم رائحة المكان وأزهاره البرية. كنت أتمنى أن أعود عشبة أو شجرة أو رائحة أو سحلية أو ذرة تراب في هذا المكان. لم تكن ربيضة  غابة. كان حلما عن البراءة.
***
 
ذكرت اسمها الحقيقي. كان واضحا انها غير مشغولة كثيرا بالحرب. كانت الحرب لا وجود لها الى حد ما. كانت غارقة في سلام داخلي مضطرب، وطمأنينة خاصة بدت غير معقولة في جو الخوف العام والقلق. نوع من الهدوء الناجم عن انسحاب داخلي الى نفق نفسي. كانت تعاني من حرب أخرى.لكنها بدت مشعة، وحارة، وجذابة، ومنطوية كوردة على أسرار كثيرة.
 
 حين عدت من الجبهة في بداية الشتاء وجدتها في غاية القلق. قالت ان هذه هي المرة الأولى التي تشكل الحرب عبأ عليها، فلم يكن هناك من قبل ما يجعلها قلقة ، إلا في حالات عابرة وعامة. قالت ايضا ان شكلي تغير اكثر. كنت أعرف هذا لأن فترة الشتاء هي من أتعس الفترات في أجواء البرد والحراسات والسهر والملاجيء التي يقطر منها الماء أحيانا، والكمائن الليلية في الحفر الموحلة حتى الفجر.
 
ثمة شحوب نادر يصبغ وجوه الجنود في الحروب الطويلة. ذلك الشحوب يجعل وجوه الموتى تشبه وجوه الأحياء . في الفجر تتكون صفرة خفيفة على وجوه الجنود هي خليط من الشحوب والموت والتعب والنعاس. اي فجر غريب هو فجر الجبهات. إنه فجر لا يمكن ان يعرفه إلا من عاش تلك الأهوال. فجر أحمر، صامت، جامد، حاد، متحفز، يكسره نقر سريع لطائر مشاكس أو رصاصة طائشة أو هدير محرك سيارة الأرزاق التي تأتي عادة في الفجر ، حين يكون الظلام ما يزال موجودا.
 
ذلك الشتاء كان ينذر بوقوع معارك جديدة على الجبهات. كانت الريح قد كنست آخر الأوراق الذابلة. في خطوط القتال ليس هناك أكثر قسوة من منظر الأوراق المتساقطة في الخريف. إن كل ورقة تشبه جثة. كل حفرة تشبه أمنية. لماذا تبدو البيوت الطينية التي كانت رمزا للفقر، والهوام، الان مشرقة في تلاحمها الصميمي، الراسخ، وتناسقها المدهش والجميل والحار؟ هي الحرب ايضا. الحرب تجبر المرء على اكتشاف أشد الأمكنة دفئا، وعمقا، وامانا.
 
كنا مقبلين ، ذاك الشتاء ،على أحداث كثيرة، وخطيرة. وكانت الغيوم الرمادية تعبر الأفق محملة بالبروق الخامدة والأسرار. كان شتاءً عاديا ، لو لم تكن هي ، هذه المرة ، قد كسرت رتابة الحياة، وتجدد مشاهد الجنازات، والوحل، والمطر الذي صار رمزا لمعارك طاحنة، وأشياء أخرى كثيرة.
 
كنا، عادة، هي وأنا، نلتقي بعد موعد في الأمكنة الكثيرة المقترحة في البلدة، خاصة في حقولها الكثيفة، بين الأشجار، أو النباتات البرية المرتفعة . شرحت وحدتها، وحبسها في المنزل. قالت انها في حالة حرب ايضا.  شرحت كيف انهم في المنزل يعاملونها في منتهى القسوة. كانت معتزة كثيرا بنفسها كما لاحظت.كنا نلتقي خلسة دائما. سألتها مرة لماذا لم تتزوج كل هذا الوقت فقالت مبتسمة انها متزوجة تقريبا .
ـ ما معنى تقريبا؟   
سألتُ بدهشة. أجابت بهدوء وحياء: ـ  لم أرغب في مضايقتك أول الأمر . رأيت انك مسرور معي . أعرف ان الحرب مزعجة.
ـ انت في الحقيقة لم تقولي شيئا حتى الآن.
ـ نعم أعرف ذلك. ولكن دعني أقبلك أولا.
 
كنت غاضبا، وحائرا، ومباغتا. كان اقترابها مني والتصاقها بي قد زاد من الشعور المنفر بأنني على وشك ان أفقدها مرة واحدة والى الأبد. قلت:  ـ ولكنك لم تقولي ذلك منذ البداية.
ـ نعم . لم اقل ذلك. هل له أهمية الان؟ هل ندمت؟
ـ ولكنك تعرفين الوضع.
ـ نعم. انها محنة. انت في حرب وستكون في حرب أخر.
وتابعت  بابتسامة مشعة ومطمئنة: ـ ستكون في طروادة جديدة. هل يضايقك ذلك؟
ـ ليس سهلا الإجابة. لكن كيف وضعك الان؟
ـ متزوجة على الورق وأعيش وحدي مع العائلة. سأسعى للطلاق نهائيا.
 
قلبت يدها بضيق، وزفرت قائلة:ـ قرار الطلاق عائلي.
ـ لم افهم.
ـ لست حرة في الطلاق.        
ـ والحل؟
 
أجابت وهي تضع عينيها في عيني بقوة أذهلتني. تلك كانت اول مرة ارى ضراوة كامنة، مستترة، وشرسة: ـ الهرب.
سألت، مبهورا:ـ من المنزل؟
 
ردت باصرار: ـ نعم. وحتى لو كلفني حياتي. أريد أن اكون أنا مرة واحدة وبعدها الطوفان. تابعت وهي تلتصق بي بحنان ورقة:   ـ أعرف ان موقفك سيكون صعبا. لكنه قراري.
ـ واين سنذهب؟
ـ إلى اي مكان إلا هذا الجحيم.
***
 
سافرت الى الجبهة. الى الحرب الأخرى.  تلك السنة كانت معارك طاحنة واوحال وخنادق مليئة بالمياه وأمطار غزيرة ودماء. كان الجنود في غاية الضجر والإستياء من هذه الحرب ولكن القوانين الصارمة والوحشية نجحت في الحد من الهروب. في السابق حين كنت أعود إلى الجبهة لم يكن ثمة مايشغلني إلا الخوف من هذا الموت السهل، بلا ثمن. الان صرت أخاف أن أفقدها .أنا الان بين حربين . واحدة على الحدود ، واخرى في الداخل . كل الحلول تقود إلى الموت. البقاء والقتال هو قرار موت. إذن كان يجب اختيار أفضل أنواع الموت. ربما كانت هي أكثر شجاعة مني أو لامبالاة في إختيارها موتها الخاص.
 
كانت الحرب في سنتها السابعة اقوى منها في سنتها الأولى. وكانت سنة هزائم، وإعدامات، وكآبة تغرق المدن والناس والطبيعة. في تلك السنة دخلت وحدتي معارك ضارية في الجبهة الجنوبية، معارك متواصلة، وشرسة، ومجنونة. كان كل طرف يحاول سحق خصمه بلا رحمة. وظهرت أقنعة الغازات . ظهر شبح الموت، خنقا.
 
في المرات القليلة التي كنت أنزل فيها إلى مدينة البصرة، كنت أذهب مباشرة الى الحمام. كان هذا هو أحد أجمل الأمكنة عندي، وأكثرها اثارة للدهشة، والمتعة، والشعور بالصفاء والأمان والنظافة.  إن طقس الإستحمام كان يعادل، عندي، طقس تطهير،  او انه نوع من الهرب الرمزي. إنه المكان الوحيد، تلك الأيام، الذي لا تجد فيه من يرتدي ثيابا عسكرية، وتلك ميزة نادرة. تلك بهجة. كان الدخول إلى الحمام أشبه ما يكون بالدخول الى عالم بعيد، لاصلة له بالحرب. كان أشبه ما يكون بالهرب.   
 
جاء الربيع وظهرت طلائع الغيوم الربيعية المشرقة. مع نمو الأعشاب، ظهرت ايضا جثث الشتاء الماضي. الارض  بدأت تدفع الموتى. كنا في غاية الإرهاق. ليس ثمة أمل في نهاية قريبة لهذه الحرب المجنونة. كان يبدو كما لو انها ستستمر إلى الأبد.
***
 
رجعت من الجبهة الجنوبية وكان الربيع في المدن البعيدة عن الحرب مثيرا. كان مجرد الوصول إلى الشارع العام في الشاحنات العسكرية المخصصة لنقل الجنود المجازين يبدو مغامرة مثيرة، وممتعة. حال ظهور المدن، وعلامات الطرق، والنساء،والأطفال، والحيوانات، حتى يبدأ الجنود بالهتاف، والرقص، والصفير، داخل الشاحنات.انه الشعور بالنجاة ، ولو كان ذلك بصورة مؤقتة. نوع من الاثارة العفوية في مواجهة حرية بسيطة. صرت افهم الان أكثر ان ذاك الهياج لا يحدث لمجرد الشعور بالنجاة، بل ونتيجة الشعور بالحب والحرية.هل كنا نهتف ، هربا؟
 
اتصلت بها في نفس المساء في الهاتف. قالت انها تنتظرني. قالت انها لن تستطيع الآن أن تأتي. بدا لي صوتها مسرورا، ومتعبا، وخافتا. كان يبدو انها، مثلي، قد عاشت طويلا مشاعر متناقضة فرضها عليها قرار صعب.
 
في المساء بدت شوارع البلدة مضاءة، وجميلة، وساكنة.حتى أعمدة النور بدت جذابة، وساحرة، ومبهجة. تجولت طويلا في البلدة. ذهبت الى ضفة النهر في المساء. كان غروبا فاتنا، ومشعا، ومسكرا. رأيت ، عبر النهر، أضواء متناثرة في  ربيضة. لم تعد الغابة موجودة الان. تم قطع الأشجار  بدا المكان عاريا تماما. بدا موحشا، ومخيفا. رايت الفندق الجديد، مشعا، في تلك البقعة المعتمة. كان فندقا جميلا ، حقا. المكان هادئ، وساحر، ونظيف، ومنعزل. خفقت في الهواء العذب أجنحة طيور المساء وبدأت الثعالب، كالعادة، في العواء. حتى عواء الثعالب بدا مثيرا للبهجة. ان الحرب تستفز أعماق المرء.
 
في الصباح أفقت على جرس الهاتف. كانت هي تتحدث بصوت مرتبك، وخائف، ومرتجف: ـ يجب ان تسافر الآن الى بغداد. سأسافر بعدك. وسنلتقي في فندقك الساعة العاشرة. هل فهمت؟ لم أكن قد فهمت جيدا. سمعتها تهمس كما لو انها تخاف من شخص قريب:ـ سنكون معا الليلة.
 
لم تغير الحرب بغداد الا قليلا. كانت ملابسي نظيفة ، ومعطرة، ورائحة الغسيل لا تزال فيها. ان هذا شيء يثير السرور في قلب كل قادم من جبهة الحرب. الملابس النظيفة، والمعطرة، والشمس، والتسكع في الشوارع، كل ذلك يبدو مبهجا، وسارا. عبرت شارع السعدون قادما من جهة النهر ، في اتجاه ساحة الأندلس التي بدت مشرقة، ومرتبة، ونظيفة. كنت قد مررت من قرب جدار كنيسة تقع على شارع عام. أتذكر جيدا انني سمعت  انشادا، وعزف بيانو، وشممت رائحة بخور ، وروائح أخرى قد تكون عائدة لأزهار الحائط الذي ظهر قديما، وباليا، لكنه نظيف.  بدا ان الحرب تدور بعيدا في أمكنة أخرى.
 
في العاشرة كنت قد مضيت إلى الفندق الذي اعتدت الإقامة فيه خلال فترة الإجازات. كان اسمه فندق سيوان. قال لي أحد عمال الفندق ، يوما، ان الإسم يعني مقبرة الشعراء. لست أدري عما اذا كان ذلك صحيحا. كنت جالسا في مشرب الفندق في انتظارها حين رايتها تعبر الشارع  نحو الفندق. رأيت انها كانت تتفرس في المشرب، عبر الزجاج، ربما لأنها حدست  بمكان انتظاري لها. راقبتها وهي تعبر ، ثم وهي تمشي. كانت فارعة الطول، بيضاء، ناحلة، وكان وجهها يبدو شاحبا شحوبا خفيفا من ايام الحبس في المنزل. كانت وهي تعبر تبدو كطائر صغير خائف، ومطارد، وكان المشرب دافئا، واليفا، وموسيقى هادئة تتسلق الجدران والزهور والطاولات . ليس ثمة أثر للحرب.
 
دخلت المشرب دون المرور بالإستعلامات كما لو انها كانت قد رأتني من خلف الزجاج . وقفت لها. بدت خجولة، وحية، ومسرورة. سألتها عما اذا كانت جائعة فقالت لا ، لكنها تشعر بعطش مميت. ذهبت بنفسي الى طاولة المشرب وأحضرت كأسا من الماء. شربته مرة واحدة كطائر صغير يرتمي في بركة مطر. لم أسال عن شيء محدد. شعرت بشكل ما بان موعد طرح الأسئلة قد فات أوانه وان علي مواجهة الحقيقة مهما كان الثمن. قالت بابتسامة مشرق: ـ انت تبدو أطول من السابق.
 
لم تكن تمزح. لكنها كانت لاتزال تعيش تحت مشاعر صدمة الخروج من المنزل.كانت تعاني ، الى حد ما، من تشوش الحواس. كنت  واقعا تحت تأثير هذه المشاعر اذ يتعين علي ان اتخذ قرارات مصيرية اليوم ايضا. سألتني على غير توقع: ـ هل الحرب سيئة الى هذا الحد؟
ـ اي حد؟
ـ الحد الذي يجعلك يائسا هكذا؟
ـ لست يائسا. انا في الحقيقة حائر.
قالت وهي تعصر كأس الماء:ـ أعرف.
 
استدارت لتنظر عبر الزجاج الى الشارع وقالت ضاحكة ـ اذن كنت تعرف اني أتيت.
ـ شاهدتك تعبرين الشارع.
ـ تصور بدا مجرد عبور الشارع مجازفة كبيرة.
ـ انه الحبس الطويل.
ـ نعم. أشعر باني منسحقة لكن روحي قوية. هل تشعر ان روحك قوية أيضا؟
ـ لا. اشعر بالتعب. تعب داخلي عنيف.
ـ أعرف.
وأضافت:ـ هل شربت كثيرا؟
ـ لا.
 
تأملتها مليا فكانت أجمل مما تصورت . بدا جو المشرب رائعا، ودافئا، ونظيفا. هذه أول مرة أجلس في مكان ، كل هذه السنوات الصعبة، مع امرأة وفي مكان نظيف، وهادئ، ومرتب وعلى موسيقى ناعمة وممتعة. لكني رصدت خوفا عميقا في داخلي. فكرت مع نفسي : ان هذا السلام مصنوع من لحظات رقيقة قابلة للكسر. سألتني  عما اذا كنت أفكر بالحرب. قلت لها اني افكر فيها فقط. سرت لذلك. فكرت ايضا: كيف يكون في طاقة رجل منهك، وأعزل، ووحيد، ان يجمع بين هذه الحرب وتلك.
ـ انت تفكر كثيرا. هل تفكر بأشياء أخرى؟
ـ نعم. هل سترجعين الليلة الى المنزل؟
ـ كلا.
 
قالت ذلك وهي ترفع كأس الماء من مكانه وتضعه في مكان آخر. أضافت:ـ ومهما كلف الأمر. يمكنك ان تتخلي عني اذا شئت. سأذهب الى أي مكان آخر اذا رفضتني.
ـ الى اين مثلا؟
ـ اي مكان.
ـ انت تعرفين انني لا استطيع الهروب من هذه الحرب. اذا فعلت فهو لن ينفع بل يفاقم المشكلة. مفارز في كل مكان.
قالت :ـ أعرف ذلك.
ـ اذا بقيت معك يجب ان أهرب . ستكون الاحوال أكثر سوءا. تفتيش ومداهمات في كل مكان. كما ان الحدود مغلقة مع العالم ولا نستطيع الفرار الى الخارج.
 
كان وجهها  قد صار أكثر شحوبا من ذي قبل، وشعرت ان فمي صار جافا، ويابسا.
ـ انت اذن لن تفعل شيئاً من أجلي؟
ـ ماذا أستطيع ان أفعل؟
 
استدارت مرة أخرى وانعكس ضياء المشرب على شعرها وعقيصتها التي تشبه ذيل الحصان، والتي تعرف جيدا اني احبها كثيرا: ـ انت تعرفين اني احبك .
ـ أعرف. لكن التضحية مهمة.
ـ نعم. شرط ان لا تكون بلا نتيجة.
 
قالت بانفعال صامت ، ومكتوم بعناية:ـ الحب هو ان تكون جاهزا للتضحية في كل الأوقات ودون التفكير في الثمن او النتيجة.
 
حينئذ فقط شعرت انها قطعت علي كل طرق العودة. شعرت اني محاصر، ومطوق، وأكثر من مدفع ثقيل يقصف مكاني الان في هذا المشرب الصغير، المضاء، في ركن منعزل في فندق سيوان في شارع السعدون ، في البتاويين، في تلك الظهيرة الدافئة من ربيع العام السابع للحرب.
ـ هل تأكلين شيئاً؟
ـ لا. افضل المشي على ضفة النهر.
 
كانت تحمل معها كيسا صغيرا. اخذته منها الى الطابق الخامس في الفندق وتركتها تنتظر في المشرب.حين عدت وجدتها في صالة الفندق تتأمل لوحة جبلية ربيعية مشرقة. وسألتني عن طائر في اللوحة: ـ ماهذا الطائر؟
ـ حجل جبلي.
ـ هل كنت في الجبال يوما؟
ـ نعم. في سنوات 74ـ 79، في ديانا، ومضيق برسلين، وجومان، وميركه سور، رايات، حاج عمران.. الخ..
ـ ما معنى ميركه سور؟
ـ لا أدري. ربما يكون معناها المدينة الحمراء اذا كنت اتذكر جيدا. هل نمضي الان ؟
 
قال عامل الفندق انه سمعنا نتحدث عن الجبال والحجل والقتال. وقال انه من بلدة جومان:ـ حقا؟
سألته. أجاب: ـ نعم. لقد دمرت البلدة تلك السنوات التي تتحدث عنها تماما.
قلت: ـ أعرف.
قال: ـ كنت في الجبال حين كنتم في البلدة.
سألته بدهشة:ـ وكيف حدث ذلك؟ أتذكر جيدا ان جبال سكران وقنديل وكرده مند كانت  تحت سيطرة الجيش وسلسلة جبال حصاروست.
 
قال :ـ نعم. كان ذلك صحيحا. كنا في كهوف سرية في جبال حصاروست. هل كنت ضابطا في الجيش ؟
ـ كلا. كنت سائس بغال في إسطبلات اربيل .
ـ لا أظنك تمزح. هل كنت سائس بغال حقا؟
ـ نعم.
وقال بتهذيب: ـ أرجو ان لا أكون قد ضايقتكم.
قلت بحماس: ـ ابدا. سنتحدث عن ذلك الليلة. ان السيدة تريد ان ترى النهر.
قال بحياء: ـ سأكون مسرورا ان نتحدث الليلة معا. لقد لاحظت  من زياراتك المتكررة للفندق انك شخص طيب جدا. هل تريدان  تناول الغداء هنا ؟
 
راقت لها الفكرة كثيرا، وهزت رأسها بسرور. قال بانفعال:ـ سيكون كل شيء جاهزا بعد الساعة الواحدة.
 
وغادرنا الفندق. حين كنا نعبر شارع السعدون نحو النهر ، وكانت حرارة الجو قد أخذت في الإرتفاع، قالت لي ، شاردة : ـ أظن انك عشت حياة صعبة ، وحيدا.
ـ نعم.
ـ لكنك لن تعيشها معي. هل تظن ذلك؟
ـ لا أدري.
ـ هل كنت حقا سائس بغال؟
ـ نعم. كعقاب لأني سجين سياسي سابق. لكن صديقا تدخل لي في النهاية وانقذني.
 
كانت ضفة النهر قد بدأت تظهر. لاح الجسر طويلا، نحيفا، واضحا، لامعا تحت الشم: ـ لم اكن أعرف جيدا انك عشت كل هذه الأهوال من قبل.
 
وضعت يدها في يدي، حارة، وصغيرة، وناعمة. كانت حدائق النهر ساطعة، والأزهار مشرقة، والأشجار الكبيرة مخضرة، ورائحة أعشاب النهر تعبق في هذا الوقت من النهار. عبر النهر بدت البنايات المعتمة والرمادية للقصر الجمهوري. كانت الأسلاك الشائكة واضحة. السماء صاحية ومشرقة، وزرقاء. نوارس تتخاطف تحت جسر الجمهورية وفي قلبي.
 
ـ هل قلت اليوم انك تحبني؟
ـ نعم. هل أعجبك النهر؟
ـ لست أدري. ربما. ثمة شيء غريب أحسه معك. لعله الشعور الخاص بالمرأة حين تكون في صحبة رجل تحبه، وتخاف ان تفقده في اية لحظة.  الخوف من الفقدان.
 
هذا هو شعوري بالضبط. هي تدري ان خوفي هذا اكبر من خوفها بسبب الحرب؟ هي بالنسبة لي كل شيء، اما انا بالنسبة لها فمجرد رجل او حبيب. حين قلت لها ذلك، قالت مبتسمة: ـ هل تظن ذلك حقا؟ انت اذن لا تفهم المرأة جيدا. لا تفهمني انا بصورة خاصة. انت في حرب واحدة، لكني في عدة حروب. كل الناس اعداء المرأة في اية لحظة ولأتفه الأسباب. لكن لن ترى أحدا منهم، كأنك  في حرب مع أشباح.
 
كانت مجهدة، ومتعبة، رغم فتوتها، والبشرة البيضاء التي يجري تحتها الدم والحليب وكآبة ناعمة وشحوب جذاب كحديقة في خريف. كنا قد وصلنا على مقربة من تمثال الشاعر ابي نؤاس. سرت كثيرا وتحولت في لحظة الى طفلة صغيرة تريد القفز على التمثال وتمسك بالكأس المرصعة في يد الشاع. قالت انها تريد التقاط صورة تذكارية معه.
ـ معه فقط؟
ـ ومعك ايضا. صورة جميلة بحيث أستطيع العودة اليها متى اشاء.
 
فهمت انها غير مدركة تماما طبيعة القرار الذي أتخذته هذا الصباح. لا تزال تفكر بأن الامور ستمضي بصورة عادية. نظرتُ ناحية الجسر. طيور نهرية كثيرة تحلق قربه. على الجانب الآخر من الشارع محلات، وفنادق،ومنازل، ومطاعم، ومشارب،  سبق ان عرفت بعضها في أيام سابقة. سرجون، ليالي بغداد، بحمدون، البيضاء ،كاردينيا،وردة،وغيرها. كانت أشجار الشارع غارقة في ضوء ربيعي ساطع، ودافيء، وشفاف. تحت الجسر مرق الآن طائر نورس كبير بدا في عتمة الجسر والظل أكبر من حجمه الحقيقي. كان نهارا رائعا بكل معنى الكلمة.
ـ هل أنت جائعة؟
ـ نعم.
ـ إذن لنرجع الى الفندق.
ـ هل صحيح ان اسمه مقبرة الشعراء؟
ـ سمعت ذلك.
ـ  اني متشائمة من هذه التسمية.
سألتها:ـ لماذا؟
ـ ألا يضايقك ان ننام في مقبرة؟
قلت همسا: ـ لكننا الان نعيش في مقبرة. البلاد كلها مقبرة.
 
فجأة رأيتها تمسك رأسها كما لو انها تخشى السقوط، او انها تعاني من نوبة مفاجئة:ـ هل أنت متضايقة من شيء؟
ـ نعم. أحس باني على وشك الإغماء.
ـ هل يحدث هذا دائما؟
ـ أحيانا. لا تقلق حتى لو أغمي علي ، سأعود حالا.
ـ هل سيغمى عليك الآن؟
ـ ربما..
 
أخذتها لتجلس على مصطبة في الحديقة قرب النهر،  محاطة بالأزهار، والعشب، والشمس، مطلة على الضفة الأخرى من النهر: ـ كيف تشعرين الآن؟
ـ أحسن. لكن لا تقلق لأن هذا يحدث أحيانا.
ـ هل ذهبت الى طبيب؟
ـ نعم. قال انه ليس خطرا. هو مرتبط بالحبس والعزل.
ـ هل أنت قادرة على المشي الان؟
 
أومأت برأسها مبتسمة. مضينا نحو الفندق الذي كان مزدحما في تلك الساعة من النهار. جاء عامل الفندق،مهرولا، وهويقول:ـ هل تفضلون الغداء هنا أم في الغرفة؟
قالت حالا: ـ في الغرفة أفضل.
ـ طيب. لكنك كنت تمزح معي حين قلت انك كنت سائس بغال في إسطبل. ألم تكن تمزح؟
ـ لا تشغل بالك بالامر.
 
ابتسمت له بلطف، وصعدنا المصعد. ضغطت على زر الطابق الخامس. وملأ عطرها غرفة المصعد:ـ كيف تعثرين على هذه العطور؟
كان صوتها خافتا، وضعيفا:ـ هدايا، أو غير ذلك. هل وصلنا؟
ـ كيف تشعرين؟ 
ـ بالتعب.
 
وضعت المفتاح في ثقب الباب ، وفتحته. دخلنا معا. كانت تلك هي المرة الأولى التي تدخل معي الغرفة.كانت شاحبة شحوبا مميتا. كان من الواضح انها تعاني واحدة من نوبة لا أعرفها جيدا. ولكنها لم تكن تبدو قلقة بسبب النوبة، بل لسبب آخر. طرق الباب طرقا خفيفا. كان عامل الفندق نفسه: ـ هل أجلب لكم الطعام الآن؟
ـ أنتظر لحظة من فضلك.
قبل ان أسألها أجابت: ـ نعم الان.
قلت له لعلك سمعت، فهز رأسه بتهذيب. قبل ان ينصرف سألته عن اسمه فقال: آزاد.
ـ هذا الإسم ليس جديدا عليّ.
ـ انه اسم شائع كثيرا في تلك المناطق.
قلت وأنا أنظر اليه بمودة: ـ حين تأتي في المرة القادمة سنتحدث كثيرا. نحن الإخوة الأعداء.
 
ضحك. لكن ملا محه تبدلت، فجأة، وقال بما يشبه الهمس: ـ لم أرغب في إزعاجك حول مسألة عقد الزواج. أنت تعرف قوانين الفندق بلاشك.
ـ أعرفها.
ـ ارجو ان لا أبدو جلفا في نظرك.
ـ لا. ابدا. انت لا تبدو كذلك. ولكننا لا نحمله معنا الآن. ما العمل؟
ـ التعليمات صارمة حول هذا الموضوع. ولكني أستطيع ان أغض النظر عنكم. هل ستبقون طويلا.
ـ لا ادري. لدينا الكثير من الأشغال هنا في العاصمة.
 
كان يبدو مشغولا، وشاردا. قال: ـ نحن نخاف كثيرا من غارات رجال الأمن بعد منتصف الليل. هل يمكنك إخفاء السيدة عندنا عند قدوم الأمن؟
ـ نعم. وسأشكرك على ذلك.
ـ ألا ابدو مزعجا معك؟
ـ ابدا. أنت شخص لطيف جدا.
 
غادر باب الغرفة بهدوء وتهذيب. أغلقت الباب. كانت لا تزال مستلقية على السرير وقد عاد اللون الوردي إلى بشرتها. سألتني:ـ كان يتحدث عن الأمن، والغارات، ماذا كان يعني؟
ـ عقد الزواج.
ـ وماذا قلت؟
ـ قلت لم نحمله معنا. قال إذن سيساعدنا عند وقوع غارة من رجال الأمن.
ـ لماذا يفتشون في الفنادق؟
ـ لا أدري بالضبط. لكنهم يفتشون عن هاربين من الجيش، وعن أشياء اخرى. كيف  حالك الآن؟
قالت مبتسمة: ـ لقد انتهت النوبة. قلت لك لا تقلق لكنك قلقت. إذن سننام هنا؟
ـ  لكن الخطر لن يزول.
قالت  بعنف رقيق:ـ لكن الخطر موجود منذ ان ولدنا. هذه هي المرة الأولى التي اشعر فيها بخطر محدد المعالم. يجب ان افهم خوفي ومصدره. ليس هناك ماهو أشد رعبا من الخوف المبهم. هل إختبرت هذه المشاعر من قبل؟
 
قلت نعم. سمعت طرقا خفيفا على الباب.حين فتحته وجدته يحمل صينية طعام واسعة. طلبت منه ان يدخل.وضع الطعام بهدوء، وصمت. وقبل ان ينسحب سألته: ـ قل لي أرجوك لماذا يسمون ذلك الجبل اللعين (سكران)؟
شع وجهه بابتسامة عريضة: ـ هم يسمونه هكذا، كما أظن، لأنه مثلج طوال السنة. هل لاحظت ذلك؟
ـ نعم. هل الجسر الصغير الذي يربط جومان برايات لا يزال قائما؟
ـ  لا يزال.
ـ ثمة فندق سياحي على مبعدة 3 أو4 كم عن البلدة في الطريق إلى رايات، وحاج عمران.
ـ صار مقرا للجيش.
ـ كان مقرا منذ وقت طويل.
 
والتفت إليها وقلت:ـ في ذاك الفندق حلمت كثيرا. اذكر انني دفت قصائد للشاعر الفرنسي ايلوار في حديقة الفندق وكنت واثقا بأنني سأعود في يوم أفضل.
سالني آزاد: ـ ماذا كنت تفعل هناك؟
ـ كنت جنديا. ماذا يفعل جندي هناك؟
أحمر وجهه: ـ لم أقصد إزعاجك. فقط أردت ان أعرف.
 
قلت:ـ أكثر ساعات الحراسة ازعاجا لي هي على جسر جومان بعد منتصف الليل والثلج يتساقط والريح تحلق الصخور.أتذكر ان فرنا صغيرا هناك جوار الجسر سنة 77 كنت آوي اليه في البرد والثلج.
قالت تقاطعني:ـ أظن ان الطعام سيبرد. يمكنك مواصلة الحديث في وقت آخر.
 
إنسحب آزاد بلطف وهدوء وهو يقول انه مسرور كثيرا اليوم لأنني أعرف أشياء كثيرة عن جومان.قلت له انني لم اقل كل شيء بعد. قال انه يفهم. بعد ان صرنا وحدنا، قالت:ـ هل يعجبك حديث الحرب ؟
ـ لا. لكنه شاب لطيف .
أكلنا الطعام بنهم:  ـ لذيذ. هل أعجبك؟
قلت هازا كتفي:ـ لقد أكلت وكفي. لم اعد أميز بين الأطعمة.
ـ هل تجوعون في القتال؟
ـ نعم، وكثيرا.
ـ هل يختلف القتال كثيرا عن الحبس في المنزل؟
 
طرحت سؤالها بمرارة. قلت:ـ ربما حبس المنزل أقسى.
 
بدا يتوضح لي مع الوقت ان كل واحد منا قد وجد في الآخر أملا في ان يتحرر: أنا من الحرب ، وهي من الحبس. سمعتها تقول بصوت خافت تماما، كما لو انها تحدث نفسها:ـ أظن ان الحبس أقسى.
ـ ليس هناك مواقف صعبة أو سهلة. هناك ارادة تحمل.
ـ لكن حبس المنزل أقسى كما أظن. الا تظن ذلك ايضا؟
ـ أظن ذلك.
 
بدا ضوء المساء الطري ينعكس على ظلال النافذة الوحيدة المطلة على جدار عمارة شاهقة، ورمادية، تظهر عبرها بعض سطوح المنازل.ـ هل يضايقك ان نخرج في الليل؟
قلت: ـ لا. سنخرج مادامت هذه رغبتك.
ـ هذه رغبتي. أعرف ان بقائي الليلة هنا سيجعلك قلقا جدا ولكنك ستتحملني على اية حال.
 
غادرنا الفندق. في الممر التقيت بآزاد. قال بمرح:ـ انت لم تقل كل شيء. أليس كذلك؟
ـ نعم. تلك حكاية طويلة.
 
رايت انه راغب في الحديث فطلبت منها ان تجلس قليلا في صالة الإنتظار وتحت صورة الجبل والحجل: ـ بصعوبة أفهم انك كنت تقف حارسا تحت الثلج قرب جسر جومان.
ـ لماذا؟
ـ انت لا تبدو خشنا. انا أعرف اي شتاء مجنون في جومان، خاصة لجندي في المشاة. كنت تتحدث عن الفرن قرب الجسر.
ـ نعم.
ـ ربما تتذكر جيدا حكايته في نهاية المطاف.
ـ أتذكر ان الإستخبارات العسكرية داهمته. كنت عندما يشتد عصف الثلج الجأ اليه حتى انني نمت مرة فسقط سلاحي على الأرض فالتقطه خباز وايقظني بلطف.
 
قال ووهج غريب يلمع في عينيه: ـ كانوا قد هربوا قبل المداهمة. هل السيدة تعرف كل هذه الأشياء المزعجة؟
ردت عليه، باسمة: ـ لا. ولكنها ليست مزعجة.
قال: ـ ولماذا ليست مزعجة؟
ـ لأن شيئاً لم يقع. ولأنها تبدو طريفة الان.
ـ كيف؟ 
قالت وهي تضحك:ـ ان تكون أنت هاربا منه في الجبل المثلج، ويكون هو في حراسة الجسر أو في الفرن الدافيء. اليس ذلك  غريبا ومثيرا؟
 
ضحكنا جميعا. قال آزاد إنه سينتظرنا الليلة كي نواصل الحديث. وسالني اذا كنت أريد الإحتفاظ بمشروب قبل ان يغلق البار في المساء باكرا.طلبت  منه ان يحتفظ  برأس الجسر وأربع زجاجات بيرة. وأن لا ينام باكرا ويتركني لزوار الليل. ضحك. رأيتها سعيدة جدا بهذه العلاقة.
قالت: ـ  اظن انه يروق لك كثيرا.
ـ لم لا. اليس غريبا ان تلتقي بشخص كان يجب ان يقتلك يوما أو تقتله بدون اي سبب ؟
ـ هذا صحيح. هل هذا هو الشيء الوحيد الغريب الذي وقع لك؟
ـ لا.
ـ ماهو ؟
ـ هروبك.     
 
وانطلقنا نحو النهر تحت الأضواء المشعة، رغم أجواء الحرب، وفي الهواء رائحة ندية لمساء حار، ومنعش:  ـ حاول أن تنسى كل شيء الان.
قلت : ـ سأحاول.
 
بدا لي ان كل شيء غير مألوف ، وغير حقيقي هذا المساء. المخاوف الجديدة بدت غير واضحة تماما. من اي شيء نخاف؟ ومن اي شيء لا نخاف؟ صرنا أنا وهي أهدافا، وصيدا، متاحا للجميع. صار في وسع اي مخلوق  ان يطلق علينا النار علنا في الشارع من غير عقاب. الان اكتملت  حلقة الحصار حولي. الحرب على الحدود، وفي داخلها ايضا. اسوأ ما في الأمر ان قتالا شرسا يدور في داخلي، في الأعماق التي ظلت عصية، ومنيعة، على السحق ، والتمزق:  ـ قلت لك أترك التفكير مؤقتا في الأقل.
 
كنا نمر تحت جسر الجمهورية في الطريق الى شارع الرشيد. لاح نصب الحرية مشعا في النور والعتمة الخفيفة والظلال المتعمدة من خلال الإضاءة. تجاوزنا شارع الخيام وهو شارع فرعي يربط الرشيد بشارع الجمهورية أو الباب الشرقي.كانت المحلات مغلقة إلا الحانات والفنادق ودور السينما. عبرنا منطقة المربعة . تجاوزنا شارع البنوك. نقترب من تمثال الرصافي في وقفته المعهودة صوب الضفة الأخرى  من النهر. أقتربنا من مقهى البرلمان ثم مقهى حسن عجمي. خيل الي اني أرى وجوها عبر الزجاج والزمن والعتمة: ـ هل هذه الأماكن عزيزة عليك إلى هذا الحد؟
قلت وأنا اتأمل  مرايا مقهى حسن عجمي:ـ نعم.
 
كان الشارع رغم هبوط الليل يغص بحشود المارة. هذا الشارع لا يقفر إلا بعد منتصف الليل حيث يستولي عليه  ملوك الليل والشعراء والمشردون والفارون من العزلة أو الوحشة والفراغ والرغبات المحمومة. في طريق العودة ركبنا حافلة الى ساحة الأندلس. كنت أكتشف هذه الأماكن لأول مرة رغم معرفتي بها. كنت أبحث أكثر مما أتنزه. أحاول الفرار . اريد أن أنتقم. صافرة إنذار الغارات الجوية. نظرت نحوي في وجوم. قلت لها:ـ لا تخافي.
ـ اي شيء يجعلك تطمئن لغارة جوية؟


رجوع


مقالات متعلقة
  • الأعزل . . . ح 1


  • مقالات متعلقة
  • الاعزل . . . ح 3


  • مقالات متعلقة
  • الاعزل . . . ح 4


  • مقالات متعلقة
  • الأعزل . . . ح 5


  • 100% 75% 50% 25% 0%


    مقالات اخرى لــ  حمزة الحسن


     
     

    ابحث في الموقع

    Search Help

    بحث عن الكتاب


    انضموا الى قائمتنا البريدية

    الاسم:

    البريد الالكتروني:

     


    دليل الفنانيين التشكيليين

    Powered by IraqiArt.com 


     

     

     
     
     

    Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

     

     

    Developed by
    Ali Zayni