... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
قراءة جديدة في (غريب على الخليج)

د.ثائر العذاري

تاريخ النشر       25/08/2007 06:00 AM


بينما كنت أراجع ديوان بدر شاكر السياب ، وأنا أستعد لمناقشة واحدة من رسائل الماجستير المتعلقة بالشعر الحديث ، مررت على (غريب على الخليج) وتولدت في نفسي رغبة لقراءتها ، ومع تقدمي في القراءة كنت أحاول تحليل البنية الفنية للقصيدة كما كانت في مخيلة الشاعر، وقد وجدت أن هذه القصيدة واحدة من أكثر قصائد السياب حبكا ، إذ يبدو كما لو أن الشاعر قد وضع خطة مسبقة لها والتزم بها حتى آخر القصيدة.

في البداية ينبغي أن نلاحظ تركيب العنوان (غريب على الخليج) ، فهو أولا يخلو من فعل ويجعلنا أمام صورة ثابتة أو جامدة ، غريب يجلس على ضفة الخليج،ولو تخيلنا صورة فوتوغرافية يظهر فيها رجل بائس يجلس على ضفة الخليج لكانت ستنفعنا كثيرا في تعاطينا مع القصيدة

يبدأ السياب قصيدته بداية سينمائية ، فهناك (لقطة كبيرة) كما يسميها كتاب السيناريو:

الريح تلهث بالهجيرة كالجثام على الأصيل

وعلى القلوع ، تظلّ تطوى ، أو تنشّرُ للرحيل

زحم الخليج بهنّ مكتدحونَ جوّابو بحارِ

من كلأ حافٍ نصف عاري

هذه خلفية كبيرة سترسم عليها تفاصيل اللوحة القصيدة فيما بعد ، منظر الخليج وأشرعة السفن المبحرة فيه ، وهؤلاء البحارة نصف العراة الباحثين عن الرزق بين الموت والغنيمة، والحرّ اللاهب ورياح الصيف.

في السطر الأول يدفع الشاعر بشعور بالبؤس الىأنفسنا من خلال بناء التشبيه الغريب ، الريح بقوتها وغبارها المتطاير في الأفق كأنها جثاما (مرض جلدي) أصاب جلد الأصيل.

ثم تبدأ كاميرا المصور بتقريب اللقطة:

وعلى الرمال على الخليج

جلس الغريب يسرح البصر المحير في الخليج

ويهدّ أعمدة الضياء بما يصعّدُ من نشيج

صورة رجل يجلس على الساحل ويستغرق في البكاء ، وأعمدة الضياء القادمة من الشمس ، أو الأمل في شيء ما ، تتحطم (تنكسر) وهي تتخلل دموعه في طريقها الى عينيه.

عند هذه النقطة يكون الشاعر قد أكمل رسم الخلفية، والسؤال الذي يمكن أن يسأل هنا، من المتحدث في هذه الأسطر ، من هذا الذي ينقل صورة الغريب بهذه اللغة الوجدانية الإنفعالية؟ والجواب انه الشاعر (المخرج) الذي وجه كامرته لتنطلق من اللقطة الكبيرة حتى تلقط صورة الغريب الذي سيستلم زمام الحديث بعد الآن، بالضبط مثل بداية فيلم سينمائي يلتقط شخصية من بين الزحام ثم يتركها تحكي حكايتها مباشرة.

صحيح ان هذه هي البداية الفيزياوية للقصيدة ، لكنها في الحقيقة ليست البداية الشعورية لها فهي لا تعدو كونها فرشة شعورية تحاول بناء سطح عاطفي سنتلقى القصيدة عليه ، فبعد هذه المقدمة يفتح الشاعر علامة اقتباس هي - في حقيقة الأمر - البداية الحقيقية للقصيدة:

"أعلى من العبّاب يهدر رغوهُ ومن الضجيج

صوتٌ تفجّر في قرارةِ نفسي الثكلى: عراق،

كالمد يصعد كالسحابةِ كالدموع الى العيون

الريح تصرخُ بي :عراق

والموج يعولُ بي : عراق عراق ليس سوى عراق

البحرُ أوسع ما يكون وأنت أبعد ما تكون

والبحرُ دونك يا عراق

بالأمس حين مررت بالمقهى سمعتك يا عراق

وكنت دورة أسطوانة

هي دورة الأفلاك من عمري تكورُ لي زمانه

في لحظتين من الزمان ، وان تكن فقدت مكانه

هذه الأسطر وكل ما سيأتي بعدها هو نقل مباشر للحوار الداخلي في نفس الغريب الذي يتسم بخصائص لغوية لابد من ملاحظتها لفهم القصيدة، فمن الملاحظ أولا اصرار الشاعر على أن تكون الجملة الإسمية هي الجملة الأساس في لغة الغريب ، والأفعال دائما تأتي في حشو الجمل لا بداياتها ، وهذا منسجم مع الفكرة التي بنيت القصيدة عليها ، فكل الحركة التي ستوصف في كلام الغريب ليست حركة حقيقية تحدث الآن ، انها حركة داخل السكون ، ليس لها وجود الا في مخيلة الغريب وذاكرته.

والسمة الثانية هي تكرار كلمة عراق في هذه الأسطر التي ستدخلنا فيما بعد الى سلسلة طويلة من تداعيات الذاكرة ، (عراق) تكررت سبع مرات بإلحاح واضح ، ونحن نرى ان لهذا التكرار مدلول سحري ، ويشجعنا على هذا الرأي الرقم سبعة الذي يرتبط بالسحر في الموروث الإنساني ، فالغريب يحاول ( استحضار روح) العراق من خلال التكرار السباعي الشائع في الرياضات الروحانية.

ومن الملاحظ أيضا استخدام الغريب كلمة (عراق) مجردة من (الـ) التعريف، عراق وليس العراق، طبعا لأن العراق في نفس الغريب لم يعد بحاجة الى التعريف فقد أصبح قيمة مطلقة موغلة التعريف مستغنية عما يعرفها.

وكما أشرنا في مقال سابق يمثل السطر (وكنت دورة أسطواتة) مفتاحا فنيا لبناء القصيدة ، فكل ما سيأتي بعد ذلك هو صور لا رابط موضوعي بينها ، تتدفق تدفقا سريعا بطريقة التداعي الحر:

هي وجهُ أمي في الظلام

وصوتها يتزلقان مع الرؤى حتى أنام

وهي النخيل أخاف منه اذا ادلهم مع الغروب

فاكتظ بالأشباح تخطف كل طفل لا يؤوب

من الدروب

وهي المفلّيةُ العجوز وما توشوشُ عن حزام

وكيف شقّ القبرَ عنهُ أمام عفراء الجميلة

فاحتازها الا جديلة

هذه هي الصور الثلاث الأولى من دفق صور طفولة الغريب (الأم ، النخيل، الجدة المفلّية) ، حيث نلاحظ أنها لا ترتبط بالسببية ، بل ان ما يربط بينها فقط تداعيها بوصفها ذكريات طفولة ، انها مستقلة عن بعضها حتى في شكلها اللغوي فليس هنا سطر واحد تشترك فيه صورتان، هذه الصور وكل ما سيأتي بعدها ليست الا الأخاديد الدائرية المحفورة على ظهر اسطوانة الكراموفون ، التي ذكرها الغريب في البداية ، انها تبدو دوائر متحدة المركز مستقلة عن بعضها ، لكنها في الحقيقة ليست الا خطا واحدا مرسوم بشكل حلزوني ليتيح لأبرة الكراموفون السير بداخله من الخارج الى الداخل حتى الوصول الى المركز. والمركز في غريب على الخليج هو هذه النقطة التي يجلس فيها الغريب متحسرا على العراق متمنيا العودة اليه ، وهكذا يعود الغريب في النهاية بعد سلسلة طويلة من صور الذاكرة الى نقطة المركز:

لتبكين على العراق

فما لديك سوى الدموع

وسوى انتظارك دون جدوى للرياح وللقلوع

ولا يمكن للقارئ أن لا يلاحظ استخدام كلمات (الرياح ، القلوع) في السطر الأخير وهما الكلمتان اللتان بدأت بهما القصيدة.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  د.ثائر العذاري


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni