... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
في رحيل الشاعر كمال سبتي . . . تاريخ المرارة

خالد المعالي

تاريخ النشر       01/02/2007 06:00 AM


صيف 1979، كنت جائعا، لا مأوى لدي ولا حتى مجرد فكرة عن سيرة يومي العادية، جالساً قرب شجرة أمام معهد تعليم اللغات بمدينة تور الفرنسية حيث أمضيت بضعة شهور من أجل تعلمها. ضائعا بين الواقع المرير وأحلام يقظتي المزهرة، فجأة ظهرت لي قامة كمال سبتي الذي كنت قد تركته منذ عام ببغداد، لاح لي كمنقذ بعد أن ادى جوعي الى أن ينفضّ عني العدو والصديق.

التقينا لأول مرّة عام 1974 كشاعرين شابين ومشاغبين من مدينتين متجاورتين هما الناصرية والسماوة، وفي الأحرى كنت أهرب من جو مدينتي الخانق الى مدينة الناصرية حيث وجدت اجواء أليفة تتلائم وغربتي، التي هي غربة ريفي في مدينة تكنّ عادةً الاحتقار لشخص مثلي، اشدّ الاحتقار.. حاول كمال تعليمي الأوزان الشعرية وادخالي الى المدينة، خبرت الأوزان ولكني لم آخذ بها، لكني ألفت السكن في المدينة، رغم حفاظي على بعض صفات الريف التي لا يمكن التخلّص منها بسهولة.

عيدية عيد الفطر عام 1974 ساعدتنا في القيام برحلتنا المشتركة الأولى إلى البصرة، شاعران صغيران يحاولان اختبار العالم، وبكل غرور طفنا في شوارها بحثا عن أثر لبدر شاكر السيّاب، تصوّرنا عند تمثاله، جلسنا في مقاهيها بحثاً عن محمد خضير، حسين عبد اللطيف، محمود عبد الوهاب، أو كاظم الأحمدي، مشينا في سوق العشار، زرنا مكتباتها القليلة بحثاً عن كتب تروي عطشنا وغامرنا كشعراء ملهوفين بحثا عن ما قيل لنا أنه حياة الشعراء..

التقينا فيما بعد مرارا في الناصرية، ببغداد، وكانت عقدة التفعيلة، الأهواء السياسية تلعب فينا في ذلك الوقت لعبتها الخطرة، فسرعان ما تلقفتنا هذه الأوهام وجرّعتنا كؤوس المرارة، كل حسب مشربه، ينظر من بُعد إلى صاحبه دون أن يجرؤ على التلويح بالتحية له ولو من بعيد، فالتخوين كان عقوبة جاهزة لمن يقوم بخطوة كهذه، وما زال كذلك!

وبعدما انكشفت لنا مرارة العسل الموهوم وحينما دارت رحى الحرب العراقية الايرانية وشدتنا حبال المنفى ولعبت لعبتها بنا، حتى أخذنا نتلفت بحثاً عمن كان معنا، عن الأخوة والصداقة التي لم نعرفهما إلا لماما، واذا بها طوق نجاة متوّهم، حتى أخذتُ أراسله باسم صديقتي الألمانية، وذلك باعتباري مستشرقة ألمانية تودّ دراسة شعره، الأمر ذاته قمت به مع دائرة الثقافة والاعلام للتغطية على الأمر، والتي أخذت بدورها تزودني بكل اصداراتها مجانا، وبهذا أمنّت لي ارشيفاً معقولاً للثقافة الحربية السائدة في العراق آنذاك.

كتب لي كمال سبتي آنذاك كمستشرقة مزعومة الكثير مما كان يدور بخاطره عن الحياة، حياته، عن الشعر، بحذر مفهوم، لكنه كان واضحاً في انحيازه لعمله الشعري وفي رؤيته التي لم تجد مجالاً لكي تُعلن عن نفسها في غمار ثقافة الحرب والعنف والعنصرية السائدة زمن صدام حسين، فلا وجود للفرد وبالتالي لا وجود لفرد شاعر أيا كان اسمه، سواء كان كمال سبتي أو غيره، فكان عليه أن يعيش، أو يحتال لكي يعيش حسب طاقته، كشبح في بلد اعتبره بلده وتشدق في الدفاع عن أحلامه وأحلام جيله التي مُرّغت بتراب الذل في زمن هيمنت فيه ثقافة التملّق والمداهنة وارتفعت حالات النفاق وأبرقت حالات الدونية وأصبحت أخلاق كتبة التقارير وحماليها من كل صنف ونوع هي السائدة!

وما أن طرحت تلك الحرب العراقية الايرانية أوزارها حتى استغل كمال سبتي دعوة إلى ليبيا عام 1989 لكي يبقى في يوغسلافيا، البلاد التي كانت تحبل آنذاك بحربها الأهلية، من هناك أو من قبرص، حيث حاول كمال أن يقيم كطائر عربي متأخر في مستنقع الصحافة العربية المهاجرة، الموشك على الجفاف، اقول: من هناك، استطاع كمال أن يتأكد من أن المستشرقة الألمانية التي كانت تراسله وتدرس شعره ما هي إلا أنا!

ومن هناك، من يوغسلافيا بدأ سوء فهم جديد، بقي مرافقا أبديا وربما كان موجوداً منذ البداية، سوء فهم قائم بشكل أساسي على التوهم، توهّم سجادة المنفى الممدودة، احتجنا لوقت طويل حتى تأكد كمال سبتي بنفسه من هذا الأمر، فلا سجادة ممدودة في المنفى، هناك المنفى فقط. سوء الفهم هذا أو انعدام الرغبة في الفهم من أجل تجاوز السنوات الضائعة، التي سرقتنا إياها التكالبات التي نهبت حياتنا من جميع الجهات، كان رفيقنا الدائم. كنا نتراسل أو نتصارع من خلال الرسائل، ربما كان أحدنا يسمع الآخر، وربما يسمع ما يريد أن يسمع أو ربما لا يسمع أحدنا الآخر أبداً. هكذا عاشت علاقتنا صعوداً وهبوطاً سنواتها اللاحقة، حيث تدبرنا أمر خروجه من يوغسلافيا الى اسبانيا ومن هناك سارت به الأقدار الى هولندا، والمرارة ذاتها نتجرعها خلال كل رسالة أو محادثة تلفونية تبادلناها، أو حتى لقاءات قليلة جداً، اختصرت فيما بعد الى محادثات تلفونية مطولة وشتائم متبادلة لم تنته حتى بعد نشري لمجموعته الشعرية الأخيرة: صبراً قال الطبائع الأربع (منشورات الجمل 2006)، ولو أنها خفت قليلاً، سرى بيننا نوع من السلام الذي يبدو أن التقدّم في السن قد فرضه، أيضاً فرضه اكتشافنا أننا مازلنا نعيش من هذا الشيء البسيط الذي اسمه: الشعر، متوهمين القوة، السلطة نوعا ما، نوعا من الشعور بالمجد المصنوع بمعدات ذاتية، مجد نتبادل نخبه لوحدنا، أحيانا نُشرك الآخرين معنا، ولم نعد نهتم بتلك الأرواح التي يأكلها سُعار الشهرة والزاحفة وراءها، وتعامينا عنها، وحاولنا ان لا نعتبرها موجودة، رغم فرحنا ببعض أذيال الشهرة التي تلوح لنا بين فترة وأخرى!

شربنا المرارة منذ الصغر، حملناها معنا، وسرنا على طرق مختلفة، تجرعناها وترامينا بها، ولم نتوقف عن هذا حتى آخر الرسائل الألكترونية: أين أنت الآن؟ وأنا أجيب: في الرياض، في مسقط، في المنامة، في بيروت، في أبوظبي... وحينما عدت يوم 9/4 من الامارات العربية المتحدة، تركت له خبراً بأنني عدت وكنت أريد أن اسرد له أخبار انتشار ديوانه.. لكنه لم يتصل.. فأرسلت اليه رسالة الكترونية لتصوّري بأنه مسافر، وقد رأيت متعجباً ديوانه الأخير متصدراً الكتب الأكثر مبيعاً في مكتبة النيل والفرات لعدّة أيام، وهي مكتبة موثوق بأرقامها، ولكن أيضاً لم يصلني جواب... كنت تصوّرت كمال سبتي مسافراً إلى العراق.. ولكن...

لم تكن فكرة الموت وحيداً تفارقني، موته أو موت أيّ منّا، لكني اتعجّل خوفاً ابعادها عن المخيلة، أحاول تجاهلها حتى كان يوم أمس 22/4 حيث سمعت صديقيّ الحميمين كاظم جهاد وصموئيل شمعون وهما يريدان التأكد من الأمر... ما الأمر؟

أخي كامل المقيم كتب لي اليوم صباحاً تعليقه: لقد قرأت تواً نبأ وفاة كمال سبتي! هل يتوجب عليّ تصديقه؟ ياله من حزن ألمّ بي؟ لِمَ يحدثُ هذا؟ كالسعلاة يزدرنا الله واحداً واحداً! يالها من مهزلة! كل حرف أنبّ به يضجّ بمشاعري.منذ عدت من البلاد التي لم أجد أبي فيها شغلني معنى الموت. هل حقاً ذهبتُ إلى البلاد وعدتُ؟ والآن يا كمال هل تبيّن لك شيء؟ يا كمال هل ثمّ شيء؟ ياكمال هل الله موجود؟ ياكمال هل رأيته؟ كم مخيف هو؟

 

سيرة مختصرة:

توفي في هولندا الشاعر العراقي كمال سبتي (1954-2006) ولد في مدينة الناصرية ـ جنوبي العراق درس في بغداد وتخرج في معهد الفنون الجميلة قسم السينما-فرع الاخراج، درس في اكاديمية الفنون الجميلة وفُصل منها، وسيق الى الخدمة العسكرية. هرب من العراق عام 1989. درس في كلية الفلسفة والاداب - جامعة مدريد المستقلة،في اسبانيا، اقام في هولندا منذ عام 1997. صدرت له المجموعات الشعرية التالية:

وردة البحر - بغداد 1980

ظل شيء ما ـ بغداد 1983

حكيم بلا مدن ـ بغداد 1986

متحف لبقايا العائلة ـ بغداد 1989

آخر المدن المقدسة ـ بيروت 1993

آخرون.. قبل هذا الوقت ـ دمشق 2002

واخر ديوان كان بعنون (صبرا قالت الجهات الاربع) عن دار الجمل في المانيا عام 2006

 

 

شاعر عراقي، صاحب منشورات الجمل

KAlmaaly@aol.com


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  خالد المعالي


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni